هل تخيّلت نفسك يوما ما في مكان غير المكان وزمان غير الزمان؟ نعم أنت بنفسك وتفكيرك ودرجة إيمانك وقناعاتك الحالية في زمن آخر ومكان آخر؟؟ هذا الافتراض الذي أضع فيه نفسي أحيانا يبيّن لي بالمقارنة درجة اليقين التي لديّ، والتي كانت لدى أهل هذا الزمان وهذا المكان، وعقليتي إلى عقليتهم وسلوكي بالمقارنة بسلوكياتهم.. وغالبا ما أعود بتخيّلاتي إلى العهد الذهبي للإسلام والمسلمين، إلى دولة الرسول صلى الله عليه وسلم الناشئة في المدينةالمنورة، إلى إيمان جبال الإسلام الرواسي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقتها أجد أنني بحاجة إلى أمور كثيرة، إلى ضخّ مزيد من الإيمان واليقين والثقة والثبات والصبر على الطاعة.. وقتها أقلق لأن ميزان الله العادل سيضعني معهم في ميزان واحد يوم القيامة، لتوزن أعمالنا ثم يُحكم علينا إلى الجنة أم إلى النار؛ فأين نحن منهم ومن درجة إيمانهم؟ وبمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج سأصحبك في رحلة خيالية؛ نطوف بها معا في هذا العالم.. في محطات اخترتها لك لتعيشها معي بخيالك وكأنك أحد أفرادها.. فهيّا بنا،،، حصار الشِّعب.. هل تملك هذه القوة؟ نحن الآن في شِعب أبي طالب.. والحمد لله أننا في معسكر الإسلام، ولكن لماذا تحمد الله وأنت تعاني كل هذه المعاناة؟! منذ فرض علينا كفار قريش هذا الحصار الخانق ونحن نعيش في كرب وهم وبلاء.. تخيّل أننا لا نبيع ولا نشتري، ولا ننتج ولا نتزوّج، ولا يكلّمنا أحد منهم ولا يرد علينا السلام.. أهلنا الذين عشنا معهم قرّروا أن يقتلونا بُعدا ووحدة.. السنوات تمرّ، والزاد ينفد، تخيّل ألا تجد هذه الأم ما تطعم به طفلها الرضيع، وألا يجد حلقك في هذا الصيف القائظ ما تطفئ به حرارته.. تخيّل أن تربط على بطنك حجرا من شدة الجوع، تخيّل أن تأكل أوراق الشجر لأنه لا أخضر غيرها تأكله؟؟ تخيل ذلك.. وأخبرني كيف كنت ستتصرف؟؟ هل كنت ستصبر على إيمانك وتقبض على دينك، أم كنت ستبحث عن حل للنجاة بنفسك ولو بمهادنة قريش وملاطفتها ومقايضتها على الإيمان. أجبني بصراحة دينك أم حياتك؟؟ إيمان إلى أي حد؟ المكان الطائف.. الزمان قبيل الإسراء والمعراج بقليل.. تموت خديجة ويموت أبو طالب في فترة الحصار، وهما لا يريان إلا الضعف والضياع.. ولذا قرّرنا أن نزور مدينة الطائف.. نعرض على أهلها دين الله ونسعى لأن نفتح لدعوتنا التي نُعذّب بسببها طاقة نور جديدة، تمدنا بالأمل بنصر الله، وربما بالدعم بعيدا عن قلوب الكفار التي فاقت الحجارة قسوة وصلابة. ولكن أهل الطائف كانوا من أكابر المجرمين.. لم يكتفوا برفض الدعوة، ولكن عندما طلبنا إليهم أن نذهب عنهم وكأن شيئا لم يكن وألا يُبلغوا قريشا لئلا تشمت في الإسلام أكثر.. رفضوا وقالوا: ولا هذه أيضا.. وأوقفوا سفهاءهم وصبيانهم صفّين على الطريق الذي نمشي عليه، وكلما مررنا بينهم جعلوا يلقون علينا الحجارة وبعضهم يبصق وبعضهم يسبّ ويشتم. تخيل حجم ما ستشعر به من غضب وسخط.. وأخبرني عن حالتك وقتها؟؟ كيف ستشعر؟؟ هل ستستمرّ على دعم هذه الدين والإيمان به والحماس له أم ستلعن هذا اليوم الذي سبّب لك كل هذا البلاء والعقوبة، وستقرّر أن تعود إلى متع الحياة وتبيع دينك بعرض من الدنيا؟؟ أخبرني بالله عليك.. ماذا كنت ستفعل لو كنت مكان النبي في هذا الموقف؟؟ سأزيدك إضافة أخرى.. تخيّل لو جاءك في هذا الوقت مَن يملك القوة ليبيد أهل هذا الوادي الذين أهانوك وكذّبوك وأغروا بك السفهاء والصبيان؟؟ هل ستتردّد لحظة واحدة في الانتقام لنفسك وكرامتك؟ أم ستؤْثر الحلم والعفو وترجو أن يرزقهم الله الإيمان، وتأمل في المستقبل أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله؟؟ هكذا فعل رسول الله.. فماذا كنت ستفعل أنت؟؟ إن كان قال فقد صَدَق المواقف كثيرة جدا، ولكني سأختم معك بموقف في غاية الجلال.. موقف استحقّ به واحد لقبا لم ينله غيره؛ فهل كنت ستحصل عليه لو كنت في مكانه؟؟ ولذا اسمح لنا أن نعود إلى مكة.. أنت الآن في السوق ذات صباح.. في وقت كان المسلمون مضطهدين معذّبين ضعفاء، وجاءك أحد كفار قريش يضحك ويمرح، ويقول لك: أسمعت ما قال صاحبك؟ (يعني محمدا صلى الله عليه وسلم). ماذا قال؟ قال إنه ذهب من هنا إلى بيت المقدس (وبينهما مسيرة أيام وليالٍ طويلة)؛ فصلّى بالأنبياء، ثم صُعِد به إلى السماء فكلّم ربه، وقابل أنبياء الله في السموات، ثم عاد في ليلته نفسها ليجد فراشه ما زال دافئا! ماذا كنت لتقول؟ هل ستضحك؟؟ هل ستشكّ أن هذا الناقل كاذب؟ هل على الأقل ستطالبه بالدليل على ما يقول؟ هل ستقول له هذا غير معقول أنت تفتري وتكذب؟ السؤال الأهم: ما موقف قلبك في هذه اللحظة؟ هل ستصدّق أن يفعل "صاحبك" ذلك؟ دون عقل ولا منطق ولا أي قاعدة طبيعية معروفة تُنتج هذا الفعل؟؟ فكّر قليلا ثم أجبني.. هل كنت وقتها لتقول دون تلعثم ولا لجلجة ولا لحظة شك واحدة: إن كان قال فقد صدق.. أنا أصدّقه في أبعد من ذلك.. في خبر يأتيه من السماء؟؟ هذا كان ردّ أبي بكر الذي استحق به لقب "الصدِّيق".. فماذا كان ردّك لو كنت مكانه؟؟ المواقف التي مرّت عليها الدعوة في بدايتها لا نحكيها للتسلية وقضاء وقت الفراغ، ولكنها وسائل تربية وإنضاج للقلوب وللإيمان ولاستخلاص العبر والعظات. والإسراء درس عظيم جليل فيه من المعاني والمواقف الكثير والكثير، حاول أن تكشف لنفسك من معانيها ولا تقف عند مجرّد الحكاية.