سئل في امتحان نهاية دراسته بمدرسة دار العلوم العليا التي تخرج فيها وكان أول دفعته: "ما هي آمالك في الحياة بعد أن تتخرج؟"، فكتب مجيبا: "إن أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أمل خاص، وأمل عام؛ فالخاص: هو إسعاد أسرتي وقرابتي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، والعام: هو أن أكون مرشدًا معلمًا أقضي سحابة النهار في تعليم الأبناء، وأقضي ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم؛ تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة".. إنه الشيخ "حسن أحمد عبد الرحمن البنا" أحد أعلام النصف الأول من القرن العشرين، والمؤسس والمرشد الأول لجماعة الإخوان المسلمين، ابن مدينة المحمودية بمحافظة البحيرة، كانت هذه الكلمات التي كتبها مختصر ما فات من رحلته، وتلخيص ما سيأتي منها.. فقد أنشأ مع زملائه في سني حياته الأولى جمعية "الأخلاق الأدبية" ثم جمعية "النهي عن المحرمات"، ثم جمعية "مكارم الأخلاق الإسلامية"، ثم انتهى بأن أسس "جماعة الإخوان المسلمين" عام 1928 وعمره اثنان وعشرون عاما وهو مدرس بالإسماعيلية.. كان الشيخ البنا يتقلب بين الهيئات الدينية الممثلة للإسلام في عشرينيات القرن الماضي فلا يرى إلا أشلاء تهتم بجزء من الإسلام وتهمل بقيته، فلم يجد فيها ما يرضي طموحه، في ظل سقوط مدوٍّ للخلافة الإسلامية منذ العام 1924. غياب دولة جامعة لكلمة لمسلمين، وإغراق الجماعات الإسلامية في فروع وقشور لا تزيدها إلا تباعدا، مع هجمة علمانية حصرت الإسلام بين جدران المساجد، كل هذا دفع الشيخ إلى أن يصوغ فكرة تأخذ الإسلام بشموله الذي أنزله الله عليه، ولا تميل إلى جانب وتغفل جوانب أخرى.. كان هذا ما يشغل لبه ولهذا لما طلب منه أن يوضح بنفسه عن شخصيته للناس، قال: "أنا سائح يطلب الحقيقة... وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس.. ومواطن ينشد الكرامة والحرية والاستقرار والحياة الطيبة في ظل الإسلام الحنيف.. أنا متجرد أدرك سر وجودي، ثم نادى قائلا: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين.. هذا أنا فمن أنت"؟؟ وبناء على هذه الفكرة أسس الشيخ البنا جماعة الإخوان المسلمين ورسم فكرها أنها ترى الإسلام على أنه "نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا فهو دين ودولة أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة، وعبادة صحيحة سواء بسواء".. وانتهج الشيخ البنا منهج التربية والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان كما رسم لنفسه في بدايات حياته فكان مرشدًا معلمًا يعظ الناس ويهديهم إلى الله بالخطابة والمحاورة والتأليف والكتابة والتجول والسياحة، حتى إنه كان يدعو إلى الله في محطات القطارات وعلى المقاهي، وفي كل مكان يستطيع أن يوصل كلمة الله بفهم معتدل لم يجنح إلى غلو وتشدد ولا تساهل وتمييع.. اشتهر في دعوته بالرفق واللين، وتجنب مسائل الخلاف، والقدرة على استمالة الجماهير بكل شرائحها وفئاتها، والتركيز على الجانب الإنساني، فهو من يُروى عنه القول الشهير: "ما ألّفت كتبا بل ألّفت قلوبا"، ولذا اختار لدعوته اسما ينطق بالأخوة هو "الإخوان المسلمون"، وهي الجماعة التي ركّزت في بداياتها على العمل الخيري والتطوعي وتشكيل فرق الكشافة والأنشطة الرياضية، وإنشاء المدارس والمستوصفات الطبية، وتعليم الفتيات وتوعيتهن في وقت كانت المرأة تخطو أولى خطواتها في المشاركة المجتمعية البناءة.. رغم كل ما كان حسن البنا يقدمه لمجتمعه فإنه كان يحظى بأكبر قدر من العداء من الأحزاب والحكومات المصرية المتتابعة، ولما اشتدت دعوته وانتشرت في ربوع مصر اكتسب عداء الإنجليز كذلك، ولما أرسل الإخوان فرقهم المتطوعة لحرب فلسطين في العام 1948 وصل السخط على البنا وجماعته منتهاه، حتى أصدر محمود فهمي النقراشي رئيس وزراء مصر آنذاك في الثامن من ديسمبر 1984 قراره بحل جماعة الإخوان المسلمين، ومصادرة أموالها، واعتقال معظم أعضائها، وفي اليوم التالي بدأت حملة الاعتقالات والمصادرات. أخذت الحكومة تعتقل الإخوان من حول الشيخ حسن البنا، وتلقي بالآلاف في سجونها، في أول محنة ضارية يتعرض لها الإخوان، ثم جاء مقتل النقراشي ليسكب مزيدا من البنزين على النار المشتعلة؛ فرغم أن البنا نفى مسئولية جماعة الإخوان المسلمين عن مقتل النقراشي، إلا أن وزارة إبراهيم عبد الهادي أخذت تدبر مؤامرة لاغتيال البنا؛ لا انتقاما لمقتل النقراشي، ولكن لطمأنة لفاروق الذي بدأ يشعر أن جماعة الإخوان المسلمين تستهدفه شخصيا. هذا ولم يثبت تواطؤ القصر في عملية اغتيال البنا، ولكن التحقيقات أثبتت أن العملية تمت بمباركة البلاط الملكي.. ظل البنا وحده خارج السجون يطالب الحكومة إما بإخراج الإخوان من المعتقلات أو بإدخاله معهم، ولكن يبدو أن قرار تركه وحيدا كان لهدف آخر قد اتخذ بالفعل.. ولن تنسى ذاكرة التاريخ أنه في الساعة الثامنة من مساء يوم كهذا اليوم 12 فبراير 1949م كان الشيخ البنا يخرج من باب جمعية الشبان المسلمين، ويرافقه زوج شقيقته الأستاذ عبد الكريم منصور، وما إن استقلا تاكسيا حتى فوجئا بسيل من الرصاص موجها إليهما عبر الشارع، وأصيب الشيخ البنا إصابة بسيطة، فنهض وأخذ رقم السيارة التي كان يستقلها الجناة -والتي عُرِف فيما بعد أنها السيارة الرسمية للأميرالاي محمود عبد المجيد المدير العام للمباحث الجنائية بوزارة الداخلية كما هو ثابت في مفكرة النيابة العمومية عام 1952- ثم أبلغ الإسعاف بنفسه، فجاءت سيارة الإسعاف ونقلتهما إلى قصر العيني ولم تكن إصابته خطرة، بل بقي بعدها متماسكا كامل الوعي، ولما نقل إلى المستشفى خلع ملابسه بنفسه، وطمأنه الأطباء أن إصابته بسيطة، ولكن الأوامر صدرت بعدم إسعاف الشيخ البنا، بل تُرك أربع ساعات في المستشفى بدون إسعاف، وظلت جراحه تنزف، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل، ولم يعلم والده وأهله بالحادث إلا بعد ست ساعات كاملة. ومن أعاجيب القدر أن الرجل الذي جمع حوله الآلاف تخرج جنازته تحملها النساء، إذ لم يبق ممن يعرفه رجل إلا وقد تم اعتقاله؛ فلم يكن هناك في جنازته رجل غير والده الشيخ المسن ومكرم عبيد باشا صديقه المسيحي، وتم منع إقامة مراسم العزاء. وقد رثاه والده الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا -وكان من علماء الحديث في عصره- بمقالة تقطر أسى وألما، يقول فيها: "أقوم يا ولدي على غسلك وكفنك وأصلى وحدي من البشر عليك، وأمشي خلفك، أحمل نصفي، ونصفي محمول، أفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.. أما أنت يا ولدي فقد نلت الشهادة التي كنت تسأل الله تعالى في سجودك أن ينيلك إياها فهنيئاً لك بها".