صديقي المعجب بالليبرالية أو مَن يصف نفسه بها، لو كانوا قد قالوا لك إن الليبرالية هي أن تتعامل مع التيار الديني بطريقة "خالف تُعرَف" فقد أخطأت اختيار المبدأ.. خذها من ليبرالي قديم. فمع الأسف قد اعتبر قطاع كبير من المنتسبين لليبرالية أن انتماءهم لها يعني معرفة موقف التيار الديني ومخالفته بشتى الطرق بشكل آلي، حتى وإن عنى هذا التأييد الصريح الكامل غير المشروط للفلول أو العسكر أو كليهما.. شيء مؤسف الحقيقة لاحظته من خلال معايشتي شريحة عريضة جدا من زملائي في هذا التيار الذي أعتزّ بالانتماء له سياسيا؛ حيث كانوا يضبطون بوصلتهم السياسية على الاتجاه المضاد للتيار الديني بغضّ النظر عمّا يؤدي له هذا الاتجاه، وحين تلومهم أو تنتقد موقفهم تجدهم يقولون لك بكل شراسة "هيههه.. إنت.. ماذا تفعل؟ أنسيت أننا ليبراليون؟". ثمة قاعدة عقلية وأخلاقية تقول إن "الحق والباطل لا يُعرفان بالرجال"؛ فأنت حين تتخذ موقفا من هذا الأمر أو ذاك فإنك لا تزنه بميزان "من معه ومن ضده" بل بميزان الحق والعدل والمصلحة الوطنية، وتجرّد تفكيرك وموقفك من انتمائك وانتماء أصحاب الموقف أو القرار محل التقييم، وتقيّمه وفقا للضوابط التي اتفق عليها أهل العقل والأخلاق والصواب أيا كانت انتماءاتهم السياسية أو الفكرية، وعلى هذا الأساس تقرر موقفك وتعاملك. بهذا المعيار لتقييم الأمور تضمن موضوعيتك وكذلك تضمن أنك لا تنساق وراء سياسة القطيع؛ فتحترم آدميتك وعقلك وأخلاقك، أما التعامل بغيره من المعايير فإنه يخرج بك عن دائرة "موقف الحق" ل"موقف المصلحة" فلا تصبح صاحب مبدأ بل صاحب منفعة. ومع الأسف فإن ما هو كائن من بعض مَن ينسبون أنفسهم للتيار والفكر الليبراليين من معاداة على طول الخط لمواقف التيار الديني بغض النظر عن مكنوناتها وما تؤدّي إليه هو خروج بهؤلاء "المتلبرلون" -لو سمحتم لي بهذا التعبير- عن المبادئ الليبرالية؛ فحين تجد محمد أبو حامد يؤيّد مرشحا للنظام السابق رغم مجاهرة هذا المرشح بنيته قمع التظاهرات السلمية، أو تسمع المهندس ممدوح حمزة يطالب صراحة العسكر بالانقلاب على الرئيس المنتخب ديمقراطيا؛ فأين تضع هذين ومن يحذو حذوهما من الليبرالية التي تنادي بحرية التعبير وباحترام شرعية الانتخاب الحر الديمقراطي؟ أليس من الظلم لليبرالية والتيار الليبرالي الحق أن تنسبهم له مع مخالفتهم الصريحة للشرعية الانتخابية وحرية الرأي والتعبير؟ هو نفس الظلم الذي يتعرّض له التيار الديني حين نسحب ونعمم عليه الحكم بالرجعية والتأخر نتيجة مواقف بعض المنتسبين له من المتعصبين والمتطرفين والرافضين للآخر، والمثل الشعبي يقول "ولد السوء يجلب لأهله اللعن"، فبالله كم يسيء بعض المنتسبين لتيارنا الليبرالي لنا جميعا. ثم أن مما يقتضي الفكر الليبرالي أن يتحرر صاحبه من التقيّد بمواقف تياره وألا يسلم نفسه للسير في قطيع يقيّد حرية تفكيره في المواقف، بل أن يلتزم الحياد في تفكيره فيؤيد أو يرفض لا وفق ما يقرر "الملأ من قومه" بل وفق ما يرضاه عقله وضميره حتى وإن كان هذا يعني أن يقف موقف المعارض من رفاق تياره.. فلو نظرنا مثلا لمواقف الدكتور علاء الأسواني من كل من الرئيس محمد مرسي المنتمي للتيار الإخواني المنافس لنا معشر الليبراليين، والمهندس نجيب ساويرس الذي ينتمي لكتلة ليبرالية ضخمة، لوجدناه -أي دكتور الأسواني- ينحاز في كثير من مواقفه للأول ويخالف الثاني لا عن تحوّل أو تلوّن أو نفاق بل عن قناعة شخصية يمكنك أن تتفق أو تختلف معها، لكنك لا تملك إلا أن تحترمها وتحترم حياديتها وموضوعيتها.. هذا ما أعنيه بالتحرّر والشجاعة في مواجهة رفاق التيار الليبرالي والجرأة أمام أي هجمات قد يشنّونها على صاحب الرأي الحر. أما أن يكون انتماؤك لأهل تيارك أقوى من انتمائك للحق؛ فهذا يعني أنك قد ربطت نفسك بسلسلة معنوية لمواقف قد لا يرضاها عقلك وأخلاقك، تلك السلسلة تسحق ليبراليتك وتحررك وتقدّم للمجتمع ليبرالية مشوّهة كاذبة تؤيّد ما يسوقه المعادون لليبرالية من اتهامات بأنها حزمة من المبادئ الهدّامة النفعية التي تحارب الآخر، وهو بيع رخيص لرضاك عن نفسك برضا الآخرين عنك وهدم لاستقلالية كيانك وشخصيتك ومسخ لتيار تتشدق بالاعتزاز به، ولكنك لا تخدمه ولا تحترمه، وماذا يبقى للإنسان لو فقد استقلاليته واحترامه لنفسه؟ لطالما آلمتني مثل تلك المواقف الجاهزة من بعض الرفاق المنتسبين لليبرالية؛ فأجدني بين نارين: نار هجومهم عليّ باعتباري -على حد قولهم- قد "خُنت" ليبراليتي بالانحياز لبعض مواقف التيار الديني التي وزنتها بعقلي فوجدتها عادلة، ونار الجاهلين بهذا الخلاف الليبرالي الداخلي ممن يعممون الحكم على الليبراليين أنهم جميعا سواء في رفضهم كل ما يأتي به التيار الديني من مواقف بغض النظر عن وطنيتها من عدمه.. وما أنا إلا واحد من قطاع كبير يعاني هذا الشقاء، ولنا في الهجمات الشرسة على أناس -كدكتور علاء الأسواني والأستاذ بلال فضل والدكتور المعتز بالله عبد الفتاح- أمثلة لما قد يدفع المرء من ثمن لقاء انحيازه لما يراه حقا أو لمواقف يراها جديرة بتأييده بغض النظر عن أصحابها، ولكنه ثمن رخيص مقابل أن ينظر المرء مواقفه ويراجع نفسه فيبتسم برضا ويحمد الله أنه لم يخالف ضميره. لهذا فإني أقولها كليبرالي يعتز بليبراليته: يا معشر مَن يحسبون أن الليبرالية هي مواقف جاهزة معارضة على طول الخط للآخر، وإن الانتماء لتيارك والإخلاص له يعني أن هذا الآخر على خطأ فقط لأنه "آخر"، وأن الخروج على رأي "نخبة" التيار المزعومة خروج عن المبادئ.. راجعوا أنفسكم قبل أن تشكوا "ظلم" الآخرين لكم؛ فأنتم أكثر من يظلم نفسه ورفاقه، وأنتم أكثر من يسيء لليبرالية ويشوّهها فيقدّم ليبرالية كاذبة ممسوخة لا محلّ لها من الإعراب تسيء لنفسها وللوطن الذي علينا جميعا أن نتجرّد من تعصباتنا وتحيّزاتنا إذا أردنا له ولأنفسنا الخير.. فلا أكثر شرا من أن يكذب المرء على نفسه وهو يعلم الحق، فالكاذب على نفسه هو شر الكاذبين.