لست ناقدا سينمائيا؛ لكني أعرف جيّدا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكّر طويلا.. أعرفها وأحتفظ بها جميعا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألا يعرفها مَن يحب. منذ بدأت تحرير هذا الباب وأنا أنهي كل مقال بأن أنصح القارئ بمشاهدة الفيلم بلا تردد، غير أن الأمر يختلف هذه المرة.. سأقوم بعرض الفيلم لأهميته ولأنه من إخراج سيد السينما كوبريك، لكن لا أنصح أحدًا بمشاهدته على الإطلاق. الفيلم يحتوي كمية هائلة من الجنس والعنف، وفي الوقت نفسه يطرح قضية أخلاقية مهمة ومراوغة، وفيه الكثير من الفن الخالص، لهذا يصعب أن نتجاهل الكلام عنه.. على كل حال كل المشاهد هنا من يوتيوب وهو موقع متحفظ ومراقب جيدًا. كل فيلم جديد للعبقري ستانلي كوبريك كان حدثًا ثقافيًا مهمًا، وبالطبع ليس الاسم جديدًا عليك.. إنه صاحب أفلام "2001 أوديسا الفضاء" و"سبارتاكوس" و"إشراق" و"لوليتا" و"د. سترانجلاف" و"عينان مغلقتان باتساع" و"خزانة مليئة بالطلقات" و...... "البرتقالة الميكانيكية".. هذا العنوان الغريب "البرتقالة الميكانيكية" يعني الإنسان عندما يتم إخضاعه للنظم الصارمة.. يصير برتقالة بقلب ساعة.. تعمل بدقة لكن لا قيمة لها على الإطلاق ولا يشتهيها أحد. في العام 1962 كتب أنطوني بيرجس روايته الشهيرة "البرتقالة الميكانيكية" أو "برتقالة بقلب ساعة" التي تحوّلت فيما بعد إلى هذا الفيلم، وقد ظل ممنوعًا من العرض أعوامًا طويلة في عدة بلدان غربية "حتى الحرية هناك لها سقف مهما زعم الزاعمون".. الفكرة أن عرض الفيلم تزامن مع جرائم تشبه ما يحدث فيه، وهذا عزّز الاعتقاد بأنه يفسد الشباب فعلاً.. هذا أول فيلم يمنع عرضه 27 عامًا، والحقيقة أن كوبريك نفسه هو الذي سحبه من السوق. تتحدث القصة عن مستقبل كابوسي آت حتمًا تحكم البلاد فيه سلطة شمولية لا تهتم كثيرًا بأمن الشوارع قدر ما تهتم بالأمن السياسي، من ثم تصير الشوارع مملكة عصابات الشباب التي تجوبها بحرية كاملة تضرب المسنين وتغتصب النساء وتسرق المتاجر، بينما يغلق الكبار أبوابهم على أنفسهم خائفين ويتظاهرون بأن كل شيء على ما يرام.
كل فيلم جديد للعبقري ستانلي كوبريك كان حدثًا ثقافيًا مهمًا للشباب لغة خاصة ذات جذور عدة من الكوكني ولغة الغجر واللغة الروسية، وتسمى باسم "النادسات". النت مليئة بقواميس النادسات ويمكنك البحث عن مفرداتها على غرار: دفوتشكا = فتاة فيدي = انظر هورورشو = ممتاز دروج = شلة
لماذا نجد هذه اللمسات السوفيتية؟ هل يريد المؤلف أن يلمح أن السوفييت هم الذين ربحوا وسيطروا على العالم؟ شاهد المشهد الافتتاحي هنا، حيث يجلس أليكس مع أصدقائه بالثياب المميزة في بار اللبن، حيث يشربون اللبن الممزوج بالفودكا ثم يخرجون وقد اشتعل الدم في عروقهم، وصاروا راغبين في بعض العنف الزائد Ultra Violence..
إضغط لمشاهدة الفيديو: أليكس بطل القصة -الذي يقوم مالكولم ماكدويل بدوره في أداء مذهل- شاب لندني من هذه العصابات مهمته في كل ليلة أن يجوب الشوارع مع عصابته ينشر الرعب، ويضرب المتسولين بلا رحمة.
إضغط لمشاهدة الفيديو: ويقوم بسباقات ليلية بالسيارة، ويغتصب أية فتاة يقابلها "من أجل بعض المرح".. نعرف أن أليكس يعيش مع أبويه اللذين لا يعرفان عنه الكثير، وهو يعيش في عالم غريب من خيالات السادية الجنسية وموسيقى بيتهوفن أو "لودفيج فان العجوز" كما يطلق عليه.. الحقيقة أن بيتهوفن بطل أصيل من أبطال الفيلم. يتورّط أليكس في عملية هجوم على بيت مؤلف، ويقوم مع رفاقه بالتناوب على اغتصاب زوجة الرجل أمام عينيه "من أجل بعض المرح".. وهنا يغني أليكس "أنا أغني تحت المطر" وهي أغنية جين كيلي رائعة الجمال، لكنه يشوهها باستعمالها مع كل هذا العنف.. هذا المشهد هنا مع حذف ما يلزم إضغط لمشاهدة الفيديو: فيما بعد سوف يقوم شباب بريطاني في عالم الواقع بجريمة اغتصاب وهم يغنّون "أنا أغني تحت المطر"، مما سيقنع المحكمة ورجال الشرطة بأن الفيلم مدمر.. وهذا سوف يجعل كوبريك يسحب الفيلم بنفسه برغم عدم اقتناعه بأنه السبب. أليكس في حرب مستمرة للسيطرة على رفاقه وفرض الزعامة، وهذا يدفعه إلى الضرب أحيانًا وهذا يولد أحقادًا دائمة عندهم.. يتورط أليكس بعد هذا في جريمة قتل لامرأة تعيش وحدها.. ويقع في يد رجال الشرطة بينما يفر أصحابه ليورطوه وحده.
إضغط لمشاهدة الفيديو: هذا يدفع به إلى السجن، وهناك يقضي الوقت في قراءة قصص المذابح والاغتصاب في التوراة، شاعرًا بأنها كانت أيامًا مجيدة.. كان عليه أن يوجد في تلك العصور! الحكومة -لأغراض سياسية- تتبنى علاجًا خاصًا لحالات العنف لدى الشباب تطبق فيه نظام التغذية الرجعية السلبية. يهدف هذا العلاج إلى إحداث ارتباط شرطي بين العنف والقيء.. هكذا يختارون أليكس باعتباره نموذجًا فريدًا لفقدان التحكم في شهوتي الجنس والعنف.. يرغمونه لعدة أيام على مشاهدة أفلام عنف وأفلامًا جنسية بلا انقطاع وهو مقيّد في مقعده، مع تثبيت جفني عينيه حتى لا يغمضهما، مع حُقَن تسبب له الغثيان والدوار.. هذا هو ما يطلقون عليه علاج لودفيكو. في هذا الكليب الساخر يتصوّر صانعه أن أفلام العنف التي يراها أليكس هي لقطات من فيلم "المحوّلون".
إضغط لمشاهدة الفيديو: النتيجة هي أن أليكس يتحوّل إلى كتكوت وديع لا يتحمّل أي نوع من العنف، ولدرجة لعق حذاء من يهينه أو يضربه.. يخرج للعالم الخارجي على أساس أن الحكومة نجحت في شفائه، لكنه يكتشف أنه لا مكان له في هذا العالم على الإطلاق.. زملاؤه البلطجية قامت الحكومة بتعيينهم رجال شرطة، وهم لم يتوقفوا عن نفس الدور القديم.
إضغط لمشاهدة الفيديو: وحتى الكاتب الذي اغتصب أليكس زوجته وجده وجنّ جنونه وكاد يفتك به.
إضغط لمشاهدة الفيديو: لقد وقع في الشرك بين حبائل لعبة سياسية قذرة وحكومة تتظاهر بأنها حلّت مشكلة الشباب، وبين ضحاياه السابقين الذين لا يصدّقون أنه تغيّر.. إنه برتقالة ميكانيكية تبدو طبيعية من الخارج لكنها مكبّلة بنظام تروس صارم من الداخل، ولا جدوى منها على الإطلاق.. هذه هي رسالة الرواية الخبيثة التي يمكن أن نلخّصها كما يلي: لا تحاول أن تهذّب الإنسان أكثر من اللازم فهذا يفقده آدميته.. ربما كان الإنسان في صورته الشريرة أفضل.. بالتالي قد يكون علم النفس السلوكي ليس سوى أداة تستعملها السلطات الشمولية للسيطرة.. لقد اعتبر الكثيرون سكينر العالم النفسي الشهير رجلاً خطيرًا ويمارس القمع. برع كوبريك في اختيار مواقع التصوير وتصميم الثياب وانتقاء العدسات.. لاحظ هنا أننا لا نتكلم عن مستقبل بعيد فيه روبوتات وأطباق طائرة، بل عن مستقبل قريب جدًا من حاضرنا هذا.. مجرد اختلافات بسيطة في الثياب والديكورات.. وهذه مقنعة فعلاً في الفيلم. إن الفيلم يرسل رسالة أخلاقية مشوشة وغريبة.. وهذا سبب عدم حماس نقاد كثيرين له.. لكن يظل الفيلم علامة مهمة جدًا في الثقافة الغربية.. ولا أنصح بأن تراه لكن أنصح بأن تعرف بأنه موجود !