السلام عليكم.. أنا فتاة في أوائل الثلاثينات، أعمل في مهنة أحبها، محتشمة في ملابسي وسلوكي إلى أقصى حد، هادئة الطباع، مقبولة الشكل نوعًا ما (على الأقل أنا أحسّ بذلك)، أرجو ألا تعتبروا مشكلتي تافهة؛ لأنها تعذبني منذ زمن بعيد، مشكلتي أنني أشعر بأن الناس تراني قبيحة أو غير طبيعية، ألاحظ بطرف عيني وأنا أسير في الشارع أن الناس تطيل النظر فيّ، وحين أتجرأ وأنظر مباشرةً أكتشف أنهم فعلا يحملقون دون أن يخجلهم أنني اكتشفت أنهم ينظرون إليّ. حدث أكثر من مرة عندما أنزل للتسوق وأمرّ بمتاجر وأهم بدخولها فأغير رأيي حين ألاحظ أن البائع أو البائعة يحملق فيّ وهو واقف عند الباب، أو أكون أتجول داخل أحد المتاجر ويحدث ذلك أيضًا من الباعة أو الزبائن، لقد صرت أندهش حين أدخل مكانًا ولا يفعل الناس ذلك، أقسم بالله، وأظل أقول بيني وبين نفسي: ما هذا لماذا لا يبحلقون كالعادة؟ أنا لا أفعل شيئًا يلفت النظر من أي نوع، أحيانًا أحس أن الناس يستنكرون فكرة وجودي في الحياة من أساسها، وكأنهم يريدون أن يقولوا لي ماذا تفعلين في هذا العالم؟ لماذا لا تموتين؟
بدأ رد فعلي يختلف حيال ما يحدث، فكنت في بادئ الأمر أتجاهل الموضوع وأسير في طريقي دون أن أفعل شيئًا، ولكن في ثلاث مرات فقدت أعصابي وصرخت فيمن يفعلون ذلك وشتمتهم، فكرت في إجراء عملية تجميل لوجهي الذي لا يعجب الناس، ولكن ليس هناك إمكانية لذلك، وفكرت أيضًا في ارتداء النقاب وتراجعت.
تقول رفيقاتي إنني مقبولة الشكل بل أحيانًا يقلن إنني جميلة، ولكني أعرف أنهن يقلن ذلك من باب المجاملة، لقد صرت -بعد أن كنت معروفة بهدوء الطباع- أميل للعنف مع الوقت، وصرت وأنا في غرفتي أتخيل نفسي وأنا أضرب هؤلاء الذين يؤذونني بنظراتهم، أفكر حاليًا جديًا في البحث عن عمل لا يستدعي الخروج يوميًا، صار الخروج إلى الشارع عبئًا ثقيلًا وأمرًا مرعبًا، لقد انعكس كل ذلك على عملي، فأصبحت مهملة فيه، لا أعرف من المخطئ أنا أم الناس، لا أعرف ماذا أفعل.
Lonely cloud
ابنتي العزيزة.. هناك ما يعرف في المجال النفسي باسم "التفكير الزوراني"، أو "التفكير الشكاك"، أو يطلق عليها مجازاً "البارانويا"، والتفكير الزوراني ببساطة هو الشكّ في نوايا الآخرين حين يتصرفون معنا أو يتحدثون إلينا أو يتحدثون حولنا، والتفكير الشكاك ليس مستوى واحدا؛ فالتفكير الشكاك له ثلاثة مستويات تتدرج في النوع والشدة والآثار:
فالمستوى الأول هو مجرد تفكير فقط؛ أي أن الشخص تعود أن يفكر بشك ففي هذه الحالة يظل الشخص في حالة معاناة وحده؛ لأنه لا يبوح بشكوكه في تصرفات الناس معه ويظل هكذا.
أما المستوى الثاني فهو أكثر عمقاً وأشد قوة وأكبر أثراً؛ حيث يبوح الشخص بشكوكه في تصرفات الآخرين لمن حوله فلم يعد يعاني وحده، بل من حوله يعانون معه في ذلك، وتكون لديه مشكلات مع معظم من حوله سواء أسرة قريبة أو زوج، أو زملاء عمل أو جيران وتتحول حياته لمشكلات بمرور الوقت يعاني منها الطرفان ويظل على شكه فيهم.
أما المستوى الثالث فهو أخطرهم وأقواهم وأشدهم أثراً وأمراضاً نفسية أخرى مصاحبة؛ وفيها لا يبوح فقط الشخص بشكوكه لمن حوله ويفتعل معهم مشكلات وإنما يكون الشخص "مصدّقاً" تماماً لما يفكر فيه؛ فهو متأكد تماماً مما يفكر فيه وهنا تزداد الحالة سوءاً؛ حيث تتغذى الفكرة لديه بهلاوس قد يسمعها أو هلاوس قد يراها، أو هلاوس قد يحسها... إلخ.
والتفكير الشكاك هنا يضم ضلالات أشهرها ضلالة التآمر وضلالة العظمة؛ فلقد وجدنا من يأتي وهو يتصور أن هناك جهات خارجية تتآمر عليه وتتبعه ليؤذوه ووسائل تآمرهم غير مفهومة للناس العادية، ولكنه هو الوحيد الذي يفهمها، وأن تلك السحب الموجودة في السماء ما هي إلا وسائل تجسس!
وهناك من جاء وهو مقتنع تمام الاقتناع بأنه جمال عبد الناصر وأنه رجل العالم العربي الذي سينجيه من كل مصائب تحاك له!، وفي التفكير الشكاك ما يعرف باسم "اضطراب الشخصية الشكاكة" وهو اضطراب من ضمن اضطرابات الشخصية التي تظهر في الغالب عند بدايات المراهقة بشكل يكاد يكون واضحا، واضطراب الشخصية يختلف عن المرض النفسي والمرض العقلي؛ فاضطراب الشخصية ليس مرضاً نفسياً وليس مرضاً عقلياً، وإنما هو سلوك سيئ في الشخصية يتعانق معها كالعاشق والمعشوق، ولأنه يعاشر الشخصية من فترة المراهقة يتصور الشخص نفسه أن هذه طبيعته، وأنه لم يعرف نفسه إلا هكذا، ويرفض تماماً فكرة مرضه ويستنكرها، لذا علاجه يكون من أصعب ما يكون في التشخيص وفي العلاج، وكذلك علاجه إذا اقتنع بمرضه يحتاج لوقت وجهد حتى يتحسن، وهذا الاضطراب يتميز بالتالي: * الحساسية المفرطة تجاه رفض الآخرين، أو عدم تحقيقهم لأهدافهم. * عدم القدرة على تحمل الإهانة أو التجريح والميل لحمل الضغينة للآخرين بشكل مستمر. * التشكيك والتشويه للتجارب الماضية؛ بسبب سوء التفسير لتصرفات من حوله على أساس العدوان والازدراء. * إحساس يكاد يكون قتاليا؛ للتشبث الشديد بالحقوق الشخصية بشكل مبالغ فيه. * قابلية عالية للغيرة المرَضية. * ميل للإحساس المفرط بالأهمية الذاتية، وتكون واضحة بالتفسير الدائم للأمور من خلاله ذاته. * الانشغال المستمر بالتفسير التآمري عموما في كل ما يحدث حوله في المحيط القريب أو البعيد أو الدولي.
تحدثت معك حول التفكير الزوراني باختزال شديد أرجو ألا يكون مخلاً حتى تري الصورة بشكل أوسع وأوضح، وتنظري لفكرة تتبع كل الناس لك وازدرائك فكرة زورانية بالأساس فيها شك في الآخرين، وفيها تصور لملاحقتك بالنظرات مع كره لك يصل في تفكيرك لدرجة تصورك أنهم يتمنون عدم وجودك في الحياة!، فهل سيجمع كل الناس في الشارع والمحال ممن لا يعرفونك على ذلك؟
وحدثتك كذلك لأوضّح لك أن التفكير الزوراني يبدأ بسيطاً بالانعزال والانطواء؛ لتجنب الناس، ثم يتطور للحد من تصرفاتهم التي يتصورها الشخص، ولقد حدث معك هذا التطور الذي يقلقني، لذلك أرجو أن تبدئي فوراً في طلب العلاج مع متخصص نفسي ماهر؛ حتى لا يتطور معك الأمر أكثر من ذلك، فأنت كما قلت لطيفة، محترمة، محتشمة، جميلة، فلا تهدري حياتك وتضيعيها فيما يعيقك عن السير قدماً في حياتك التي تنتظرك يا ابنتي.. هيا لا تتأخري.