بمجرد إعلان مجلسي الشعب والشورى موافقتهما على شكل الجمعية التأسيسية المُخوّلة بصياغة دستور البلاد الجديد، بدأ العد التنازلي لاختيار دستور جمهورية مصر الثانية عقب تلك التي أسست لها ثورة 1952 من خلال الضباط الأحرار، وعلى رأسها اللواء محمد نجيب والبكباشي جمال عبد الناصر. وربما يكون من بين قرائنا الكرام من ما زالت الفكرة ملتبسة في ذهنه، ونعني هنا فكرة وتعريف الجمعية التأسيسية وعدد أعضائها وعملها وطريقة اختيارها سواء في العموم أو في حالة مصر على وجه الخصوص.
ولهذا فقد آثرنا أن نعرض إجابات سريعة -ولكن شافية- عن هذه التساؤلات، نبين من خلالها كيف تسير الأمور بصفة عامة وكيف سارت في مصر، دون قصد التوجيه أو التضليل، ولكن نهدف للتنوير؛ حتى يكون اختيارك مبنيا على خلفية معلوماتية واضحة.
أولا: ما هي الجمعية التأسيسية؟ أي دولة في العالم تقوم فيها ثورة تطيح بالنظام الحاكم تشرع بعد انتهاء المرحلة الثورية والتخلص من رموز النظام في إنشاء دستور جديد يكون هو العقد الذي يربط الأمة بالنظام الحاكم أيا كانت انتماءاته السياسية والأيديولوجية.
ولكن السؤال وقتها يكون: ومن يؤسس لهذا الدستور ما دامت الثورة أطاحت بكل المؤسسات النظامية في البلاد؟ ومن هنا تأتي أهمية الجمعية التأسيسية التي ينتخبها الشعب في استفتاء مباشر من 100 عضو؛ كي تتولى مهمة إعداد الدستور الجديد.
ثانيا: من يُرشّح أعضاء الجمعية التأسيسية؟ من المفترض في أي بلد يشرع في كتابة دستوره أن تقوم كل هيئة ومؤسسة واتحاد بترشيح من يمثله إبان صياغة هذا الدستور، فترشح النقابات ممثليها مثل نقابة الأطباء والمهندسين والزراعيين والصيادلة والمحاميين والصحفيين، وكذلك الاتحادات مثل اتحاد العمال والفلاحين، والمجالس المختلفة مثل المجلس الأعلى للشرطة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وكذلك النوادي والجمعيات العمومية مثل الجمعية العمومية للقضاة والجمعية العمومية لنوادي هيئات التدريس الجامعية وحتى الحرف المختلفة ترشّح من يمثلها.
وبالطبع العدد سيكون أكبر من مائة، ولكن يتم طرح المائة في استفتاء عام ومباشر يختار منهم الشعب المائة الأصلح الذين يضمنون حقوق من يمثلونهم في الدستور الجديد للبلاد.
ثالثا: كيف يتم اختيار الجمعية التأسيسية في مصر؟ في مصر الوضع مختلف بعض الشيء فبموجب الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري في مارس الماضي، فإن البرلمان (مجلسي الشعب والشورى) يتولى مهمة اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية التي ستصيغ الدستور وليس الشعب، وذلك باعتبار أنهم ممثلون عن الشعب، وعلى الرغم من أن البرلمان منتخب فعلا من الشعب، ولكنه لا يعبر بالضرورة عن كافة طوائفه وحرفه ومهنه.
وقد وافقت الهيئة المشتركة من مجلسي الشعب والشورى في اجتماعها الذي انعقد يوم السبت 17 مارس الجاري على أن يتم اختيار نصف أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور من داخل المجلسين، بينما يكون النصف الآخر (الذي يختاره أيضاً البرلمان) من خارج المجلس؛ بحيث يكون ممثلا لكل طوائف الشعب.
رابعا: الجمعية التأسيسية وفكرة الأغلبية؟ من الراسخ والثابت في معظم تجارب الأمم التي سبقتنا في كتابة دساتيرها أن الدستور يكون توافقيا وليس بالأغلبية، بمعنى أنه يجب أن يتفق أعضاء الجمعية المائة على الصيغة النهائية للدستور وليس بتصويت الأغلبية، فلا بد لكل الفئات المشاركة في صياغة الدستور أن تحقق مصالحها ومبتغاها من هذا الدستور وتحمي مصالح الفئة المعبرة عنها بداخله، ولا تستأثر الأغلبية بالصيغة التي تتوصل لها دون النظر إلى مصالح الأقليات؛ فالدستور يرعى الجميع ويحقق مصالح الجميع مهما قلّ عددهم أو ضعف تأثيرهم.. المهم أنهم في النهاية مصريون ويخضعون لنفس المظلة الدستورية.
وفي حال لم ينجح أعضاء الجمعية في أن يتوصلوا لصياغة مشتركة للدستور يعيدون المحاولة مرة أخرى، وإذا فشلوا للمرة الثانية فمن حق المجلس العسكري وقتها أن يحل الجمعية ويقوم بكتابة مشروع الدستور بنفسه.
خامسا: الاستفتاء المباشر على الدستور عقب الانتهاء من الصيغة النهائية للدستور سواء كان الذي كتبه هو الجمعية التأسيسية أو المجلس العسكري يعرض في استفتاء عام ومباشر على الشعب؛ لإبداء الموافقة أو الرفض على كل مواده، وليس مواد بعينها، بمعنى أنه يمكن لي أنا كمواطن أدلي بصوتي في الاستفتاء أن أرفض بعض المواد وأقبل البعض الآخر، ولكني في النهاية يجب علي أن أرفض المشروع كاملا أو أقبله كاملا.
وفي حال رفض الشعب الدستور الجديد تعاد الكرة من البداية، وفي حال الموافقة عليه يكون دستورا ثابتا راسخا، ولا يجوز لأي جهة أن تعدّل فيه قبل موافقة البرلمان وعرض هذا التعديل في استفتاء عام ومباشر على الشعب؛ لإبداء الرأي فيه بالموافقة أو الرفض.
ويجب أن تكون كل القوانين التي تصدر فيما بعد متوافقة مع أحكام هذا الدستور، وإلا حكمت المحكمة الدستورية العليا ببطلانها، والمحكمة الدستورية العليا هي تلك المحكمة المختصة بالأساس بالتأكد من عدم تجاوز أي من القوانين التي تصدر لأحكام الدستور الذي ارتضاه الشعب، فهي بمثابة حامية للدستور وشرعيته.
كان هذا عرضا سريعا لمفهوم الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور وآلية اختيارها في مصر وفي دول أخرى، مجرد شعاع نور بسيط أردنا أن نبصّرك به للطريق الذي ستسلكه أيا كان، قبل أسابيع من دخول معترك الديمقراطية الأخير.