تخيل لو أن مبارك ما زال رئيسا، وجاءته تقارير عن عمل منظمات مجتمع مدني تتلقى دعما خارجيا بالملايين دون علم الدولة.. تخيل معي كيف سيكون ردّ فعله: أولا: أن يجتمع بهذه المنظمات ويطلب نصيبه من التورته، بابتسامته المعهودة.. ثانيا: أن يُلقي بالتقارير على مكتبه وينظر لمعدّها قائلا: يا عم كبّر مخك ما كله بياخد.. ولا أنت عايزنا نفتّح في أمريكا.. ثالثا: أن يذهب في زيارة لأمريكا يستقبله خلاله نائب عمدة -أو شيخ غفر سيان- ويقيم في فندق نجمة ونص، ويخلّل حتى يلتقي الرئيس الأمريكي بعد أربعتاشر يوم ولّا حاجة، ليجلس أمامه كسيرا مهزوما، بينما الرئيس الأمريكي يضع ساقا فوق الأخرى يوشك حذاؤه الجلد المدبب أن يصل إلى فم صاحبنا، ثم يطلب نسبة عَشّة في المية من نصيب هذه التمويلات، حتى تكتسب شكلا قانونيا.. رابعا: جميع ما سبق صحيح. لو عندك توقّع لسلوك رابع أرجو أن تفيدني به، لكنني أثق أنه لن يكون ما حدث فعلا بعد الثورة.. قد تدّعي العنترية لو أنك أحد أعضاء جماعة "إسفين يا ريس" أو "عيال مبارك"، ولكن لا أظنك وقتها ستهتم أن تقرأ لي؛ حفاظا على ضغطك العالي لوحده! من أعظم ما أنتجته الثورة المصرية هو سياسة خارجية تحترم اسم مصر، وتتعامل بندّية وتفرض صيغة احترام متبادل على جميع من تتعامل معه.. جرّبنا هذه السياسة مع إسرائيل، فتراجعت لحد الاعتذار، ورفضنا مقابلة ناس جامدين أوي اعترضا على سياساتهم غير المحايدة في المنطقة، وها نحن نجرّبها مع القوة العظمى الوحيدة في العالم حاليا.. أمريكا، وبصورة سافرة.. حين نكتشف هذه الفضائح المتزامنة من تمويل غير قانوني لمنظمات المفترض فيها أن تعمل وفق القانون وفي خدمة المجتمع المدني، فنجد تمويلات مشبوهة تهدف للقيام بأنشطة مشبوهة، لا تمتّ للنشاط المفترض بِصِلة، فهل نطاطي كما علّمنا المخلوع وحزبه الذين عملوا بالحكمة الخالدة: "علشان ما نعلى ونعلى ونعلى لازم نطاطي نطاطي نطاطي".. ويتضح أن علوّهم في النهاية هو علوّ أرقام الحسابات السرية في سويسرا وإنجلترا، وما خفي كان أعظم؟؟ ألم أقل لك إن مصر تغيرت، وأصبحت تحترم نفسها فاحترمها العالم كله، وقفت مصر بكل شجاعة، وفي وقت هي في أمسّ الحاجة لمساعدة هذا وذاك، وتحتاج لمد يد التسول والاستناد على أمريكا أكثر من أي وقت مضى، ولكن هل فعلت مصر هذا؟ هل طاطت أو انكسرت عينها؟ لا بل وقفت وقفة مشرّفة أفخر بها كمصري، وقدّمت متهمين "تُقال أوي" للمحاكمة، بل منعت نجل وزير أمريكي من السفر في القضية.. رسّخت مصر القانون كسلطة عليا تحتكم إليها وتحترمها، وضحّت بالمعونة كمقابل افتراضي لاحترام أحكام القضاء، ورفضت المساومة على المبادئ بحفنة دولارات أصدّق الشيخ محمد حسان حين تعهّد بجمعها في ليلة واحدة.. أتدري أن رقم المليار ونصف في العام -هو قيمة المعونة الأمريكية السنوية لمصر- معناه أن أموال مبارك المجمدة يمكن أن تشكل بديلا عن المعونة الأمريكية لنصف قرن من الزمان؟ إذا استحضرت عظمة مصر ومواردها ستعرف كم هي تافهة في مضمونها هذه المعونة الأمريكية، وستكتشف ساعتها أنه لا يمكن إذلالك إلا إذا كنت متأهبا لأن تشعر بالذل، ولا يمكن أن تتقبل أن تُضرب على قفاك إلا إذا كنت عبدا منذ البداية.. وقد ثرنا على العبيد لنشعر بالحرية التي نستحقها.. أضف إلى ذلك أن المعونة الأمريكية في معناها الحقيقي "جزية" تدفعها أمريكا لمصر مقابل الحفاظ على السلام مع إسرائيل، قد تستغرب الصفة لكنها في الحقيقة توصيف فعلي ومنطقي وهو التعريف الوحيد للجزية.. وتخيل إذا حاولت أمريكا اللعب بورقة المعونة كم ستخسر مصالحها؟ وكم يجب على إسرائيل أن تتلقى من مقابل من أجل الاستعداد لحرب مضمونة الخسارة بالنسبة لها؟ وهو آخر ما تريده أمريكا أو إسرائيل.. مصر أقوى بكثير، ولذا حين أظهرت وجهها الصلب القوي تنازلت أمريكا، وخففت من حدة التصعيد في العلاقات.. لن أحلم معك أو أغني عليك فأقول كما كان عبد الناصر يقول: "طظ في أمريكا"، ولكن أؤكد لك أن العلاقات المتوازنة تبنى على الوعي بإمكانيات كل طرف، ومصر بدأت تعرف قدرها وحجمها وإمكانياتها التي تؤهلها لأن تخرج من شخصية الخادم المطيع إلى شخصية الندّ.. وتفرض على الجميع احترامها واحترام قانونها.. فلتفخر بأنك مصري.. فقط كم كنت أودّ أن يلقى المجلس العسكري المسئول عن إدارة البلاد بعضا من الشكر على وقفة صلبة لصالح مصر ليست غريبة على المؤسسة العسكرية التي قد نختلف معها على كل شيء إلا كونها عظيمة بالفعل..