في ثنايا صفحات الرواية العربية، ظهرت شخصيات خيالية تم تخليدها في أذهان القراء، إما بفضل الخصائص المميزة لبعضها أو نظراً لعوالم الرواية التي ظهرت فيها أو لأن بصمة السينما قد حفرتها في قلوب المشاهدين فيما بعد.. أياً ما كان السبب، فقد اخترنا لكم عشر شخصيات خيالية لن نكون مبالغين لو قلنا إنها الأفضل، قد يختلف معنا البعض في تقييم هذه الشخصيات، لكن سعينا أن نبين سبب اختيار كل شخصية ضمن الملف الذي نقدمه لك عزيزي القارئ، حيث كل أسبوع شخصية، ولكل شخصية حدوتة.. إننا أمام شخصية نارية بحق.. شخصية عربية إفريقية حادة.. متمردة.. شخصية عنيفة وسط ذاك المجتمع الأوروبي الكلاسيكي في أوئل العشرينيات من القرن الماضي بتناقضاته وثقافاته وأحلامه ورغباته.. بموسيقاه وشعره ومسارحه وجيوشه وحروبه.. تحديدًا في قلب (لندن).. حيث يموج الشعر الإنجليزي, وتُمثّل مسرحيات (برنارد شو) في مسارح (الرويال كورت) و(الهيماركت).. بينما موسيقى (باخ) و(بيتهوفن) تعبق أجواء قاعة (ألبرت) الفسيحة.. هي ذاتها (إنجلترا) المنهكة من الحرب والخارجة من وطأة العهد الفيكتوري، والتي في ذات الوقت تعربد في مستنقع الاستعمار في (الهند) و(مصر) و(السودان)، وتنهب ثروات الشعوب، وتصدّر لهم الفكر الرأسمالي والشركات الاستعمارية..
يصطدم صاحبنا (مصطفى سعيد) بطل الرواية الأسطورة "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السوداني الراحل (الطيب صالح) بكل مفردات تلك الحضارة الغازية.. ويذهب ذاك الإفريقي السوداني الوسيم إلى (لندن) غازيًا هو الآخر.. لكنه غزو من نوع آخر.. يستمتع بثروات من نوع مختلف.. ثروات الجنس والشهوة, هو الإفريقي ذو البنية الجسدية القوية, والقدرة الجنسية الآتية من قلب الطبيعة جوار القرى والغابات الاستوائية.. يلعب دور "الدون جوان"، وتكون متعته الوحيدة في إغواء فتيات الإنجليز.. هل تلك عقدة النقص؟ هل هو نوع من أنواع الانتقام؟ هل هي وسيلة (مصطفى سعيد) الخاصة وسلاحه الأقوى وربما الوحيد وسط ذلك الحصار الغربي والصراع الدرامي المستمر بين الشرق والغرب؟
إن شخصية (مصطفى سعيد) هي شخصية عميقة وأصيلة كونه عربيا مسلما يمثل الشرق, وإفريقيا في ذات الوقت يمثل الطبيعة والبدائية أو قل الهمجية والحيوانية مثلما رأته زوجته الإنجليزية (جين مورس).. وهو بكل هذا العمق والأصالة والتكوين النفسي المغاير فإن الصراع الأزلي بين الشرق والغرب يأخذ عبره منحىً مختلفًا عما ذهب إليه أبطال الروايات التي عالجت إشكالية الهوية والعلاقة المتوترة بين الإنسان الشرقي والحضارة الغربية.. مثل (إسماعيل) في رواية (قنديل أم هاشم) ل(يحيى حقي), و(محسن) في (عصفور من الشرق) ل(توفيق الحكيم).. فهي ها هنا علاقة أكثر حدة وتوترًا.. والصرخة هنا أكثر علوّا وتمردًا على التسليم المعتاد أو المقاومة الهشة للنظرة الدونية لإنسان العالم الثالث من قبل الأوروبي.. والنهاية في كل مرة تأتي دموية, حيث تنتحر عشيقاته الثلاث.. ويقتل هو زوجته.. هنّ اللواتي كن يرينه دومًا في صورة الإفريقي الذي يشبع فقط شهواتهن الجنسية, لكنه لا يستحق أي علاقة إنسانية أو عاطفية أو روحية.. تمامًا مثلما أنك لا تحمل للدجاجة المشوية أية مشاعر من أي نوع.. فقط هي أشبعت جوعك وانتهى دورها عن هذا الحد.. رغم وصوله إلى أقصى درجات العلم وحصوله على دكتوراه في الاقتصاد.. وصار محاضرًا في إحدى الجامعات الإنجليزية.. فهو في ذات الوقت يتساءل بدهشة: - "أي شيء جذب (آن همند) إلي؟" هي العشيقة العذراء التي كانت "تحن إلى مناخات استوائية, وشموس قاسية, وآفاق أرجوانية.. كنت في عينها رمزًا لكل هذا الحنين. وأنا جنوب يحن إلى الشمال والصقيع".. وهي ذاتها التي أحس بأنها رأته "مثل مخلوق بدائي عارٍ يمسك بيده رمحًا وبالأخرى نشابًا".. في حين رأته (إيزابيلا سيمور) مثل إله.. مما جعل الراوي يتعجب: "يا للغرابة.. يا للسخرية.. الإنسان لمجرد أنه خلق عند خط الاستواء؛ بعض المجانين يعتبرونه عبدًا, وبعضهم يعتبرونه إلهًا.. أين الاعتدال؟ أين الاستواء؟".
(مصطفى سعيد) له تكوين مختلف.. ولا يصلح تقريبًا أن يكون نموذجًا للرجل الشرقي الذي يهاجر إلى أوروبا بحثًا عن لقمة العيش.. لكنه في ذات الوقت يصلح تمامًا لدور المحارب إذا ما نشب صراع من أي نوع.. وهو يصف نفسه قائلاً: - "كنت باردًا كحقل جليد, لا يوجد في العالم شيء يهزني.." - "كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي, وفي صدري إحساس بارد جامد, كأن جوف صدري مصبوب بالخمر.." ويصف علاقته الفاترة -دون سبب واضح- بأمه قبل السفر إلى القاهرة في بداية رحلته قائلاً: - "كان ذلك وداعنا.. لا دموع, ولا قُبَل, ولا ضوضاء.. مخلوقان سارا شطرًا من الطريق معًا ثم سلك كل منهما سبيله.." ويصرخ (مصطفى سعيد) أثناء محاكمته, صرخة داخل نفسه: - "هذا ال(مصطفى سعيد) لا وجود له.. إنه وهم.. أكذوبة.."
هل (مصطفى سعيد) هو ضحية صراع بين عالمين كما قال محاميه الإنجليزي أثناء محاكمته بقتل زوجته؟ لا يمكن الجزم بأنه كان نموذجا سيئا تمامًا أو أنه كان ضحية للظروف, لكننا لا نتجاهل وصيته تجاه ولديه قبل غرقه.. تلك الوصية التي أوصاها لراوي النص الأصلي: - "أن تجنّبهما ما استطعت مشقة السفر.." لكن لمحة من الإجابة تأتي على لسان رجل إنجليزي آخر يعيش في السودان حين قابله الراوي: - "لو أنه تفرغ للعلم لوجد أصدقاء حقيقيين من جميع الأجناس, ولكنتم قد سمعتم به هنا.. كان قطعًا سيعود وينفع بعلمه هذا البلد الذي تتحكم فيه الخرافات.."
وربما تكون تلك الإجابة صادقة إلى حد كبير.. فالراوي نفسه يمثل نموذجا مغايرا ل(مصطفى سعيد).. ونموذجا مغايرا أيضًا للكثير من الشباب الذين يتملكهم حلم الهجرة, فيهاجرون ويرضون بأحط المهن.. فهو الذي تحصّل على الدكتوراه حتى لو كانت في الأدب الإنجليزي وليس في شيء ينفع بلده بشكل مباشر مثل الزراعة حسبما رأى (مصطفى سعيد) نفسه..
ولا نرى ختامًا جملة قيلت أوقع من تلك الجملة التي قالها البطل نفسه أثناء المحاكمة وتلخص جانبًا من الصراع المحتدم: - "أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول "نعم" بلغتهم.. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في (السودان) وفي (فردان), جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام.. نعم يا سادتي, إني جئتكم غازيًا في عقر داركم.. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست (عطيلاً).. (عطيل) كان أكذوبة.."
على الهامش : • نشرت الرواية لأول مرة ضمن أحد أعداد مجلة (حوار) اللبنانية عام 1966. • تم نشر أول طبعة للرواية في كتاب في نفس العام عن دار "العودة" في (بيروت). • في عام 1969 صدرت الرواية ضمن سلسلة روايات الهلال ونفدت نسخها في أسبوع واحد. • اختيرت الرواية ضمن أفضل مائة رواية كُتبت في التاريخ الإنساني وفق قرار اتخذه مائة من كبار الكتاب الذين ينتمون إلى 54 دولة.