في إحدى كليات الفنون يقومون بعمل اختبار غريب للطلبة؛ وهو أن يقوم الطالب باختيار مجموعة من الأطفال، ثم يروي لهم قصة سيدنا نوح، وحمله -كما أمره الله- فوق السفينة من كل زوجين اثنين. ثم يطلبون من الأطفال أن يرسموا مشهد السفينة، ويُراهن الأستاذ الطلبة على أن كل طفل يقوم برسم هذه اللقطة من سفينة نوح لا بد أن يضع في السفينة أي شيء.. أي شيء كان من الأشياء الحديثة التي يتعامل معها الطفل ولها أهمية كبيرة في حياته، داخل هذه السفينة التي من المفترض أنها من آلاف السنين قبل اختراع أي شيء حديث يراه الطفل وتعوّده.
قام الطلبة بإجراء البحث، وقام كل منهم بقصّ القصة على بعض الأطفال، وقام كل طفل برسم لوحة لسفينة نوح وما عليها من كل زوجين اثنين.
بدأ الأستاذ في بحثه مع الطلبة، وفي كل صورة رُسمت وجدوا أن الطفل وضع في اللوحة أي شيء مما يتعامل معه ويرتبط به في حياته الحالية؛ إما أن يضع هاتفا، أو تلفازا، أو إحدى لعبه المهمة، وهكذا...
عدا لوحة واحدة لطفل في السابعة من عمره، دار على لوحة الطفل جميع الطلبة مع أستاذهم، ولم يجدوا بها أي شيء من الممكن أن يكون الطفل مرتبطا به في عالمه الحالي وقد رسمه مثل الأطفال الآخرين، حتى إن الأستاذ بدأ يشكّ في صحة التجربة التي يجرونها من زمن بعيد وتتحقق.
فجأة صاحت إحدى الطالبات.. "لقد وجدتها يا دكتور.."!! هل تدركون ماذا وجدت الطالبة (وهو ما أكّد وأثبت التجربة)؟!
لقد وجدت أن الطفل قد رفع على صاري السفينة عَلم جمهورية مصر العربية بألوانه الثلاثة، ونِسره الذي يتوسّط الجزء الأبيض من العلم.
ولما سُئل الطفل لماذا وُضِع العلم فوق الصاري؛ قال:
إنه يحبّ عَلم بلاده بشدّة، وإنه يقوم كل صباح برفع العلم في المدرسة ثم يُحيّيه، ولذلك فإن له أهمية كبيرة عنده، وأن أي سفينة لا يجب أن تسير دون وضع العلم فوقها.
هذه القصة حقيقية من الواقع، والهدف منها ببساطة أنه حتى الأطفال الصغار يُدركون معنى ورمزية العلم؛ فالجيوش تقتحم الأراضي من أجل رفع عَلم وإنزال آخر.
هذه القطعة البسيطة من القماش -التي لا تساوي شيئا ماديا يُذكَر- لها معنى النصر، أو الهزيمة، أو الكرامة، أو الانكسار...
وهكذا فقد أدرك الطفل الصغير ما لم يُدركه الكثير من الكبار الذين قالوا: ماذا استفدنا من نزع العلم الإسرائيلي وحرقه، ووضع العلم المصري بدلاً منه؟ وإن العلم ما هو إلا قطعة من القماش لن نحرّر بها بلدا أو نأخذ بها ثأرا.. عندما قام الشاب أحمد الشحات بإنزال عَلم إسرائيل ورفع عَلَم مصر على السفارة.
قد يبدو لك هذا الحديث قديما بعض الشيء، ولكن الواقع أنني تعمّدت ألا أُناقشه في عز الحماس المتقد؛ سواء المؤيّدين لرفع العلم أو المناهضين لذلك، بل أردت النقاش بعد أن يهدأ كل شيء، وننظر للأمر نظرة موضوعية، فوق هذا.. فليس هدفي الإشادة أو الذم في واقعة إنزال العلم؛ بل هو تساؤل حائر عما يحدث في مصرنا هذه الأيام.
في رأيي أَنّ الذي فعله أحمد الشحات عمل رائع وشجاع، لم تستطِع أن تفعله الحكومة المصرية ولا رئيسها ذو اليد الحريرية -والذي لا بد أن تتحوّل يده الحريرية إلى قبضة حديدية- ولا مجلسنا العسكري الموقّر تجاه إسرائيل بعد قتل جنودنا على الحدود المصرية.
لم يستطِع كل هؤلاء أن يبعثوا برسالة رمزية إلى إسرائيل تقول إن مصر بعد الثورة ليست مثل مصر قبل الثورة.. كل ما كنّا نحتاجه هو إيصال هذه الرسالة والتأكيد عليها؛ سواء من الحكومة أو الشعب.
وهكذا عندما قصّرت الحكومة في رد فعلها؛ فعلها فرد من الشعب، وهلّل له أفراد آخرون من الشعب.
ووجب أن ينتهي الأمر عند هذا الحد..
فأحمد الشحات الرجل البسيط الذي يعمل نقاشا لم يتعلّم فنون القتال، أو حتى فن اللعب بالكلام، كل ما أعطاه له الله قوة بدنية يستغلّها في عمله البسيط كعامل نقاشة، وقوة أكبر هي حبّه الكبير لهذا البلد، والذي لا يستطيع عمل أي شيء آخر لرفعته إلا بهاتين القوتين.
لقد قام بعمل من أجل بلده -من وجهة نظره- مثل أي رسام كاريكاتير يقوم برسم صورة للعلم الإسرائيلي وهو مشتعل فيه النيران، لقد فعل مثل أي كاتب يكتب ما بنفسه، ويقول إنه يُودّ أن يشعل النار في عَلم إسرائيل أو قُل في إسرائيل كلها.
ولكن أن نجد البلد يقوم ولا يجلس بسبب هذا الفعل وعلى المستوى الحكومي كذلك؟! فهذا هو العجيب أن يلتقي المسئولون بالشحات ثم يُحيّونه ويعطونه شقة وغيرها.. و.. و.. و...
فماذا يمكن أن يُطلق على هذا؟؟ استغلال النجاح الشعبي الذي فشل التحرّك الرسمي أن يفعل مثله؟
أم محاولة لتدارك الهوية الشديدة بين الشعب والسلطة التي بدأت تظهر؟؟
بكل أسف ردّ الفعل الحكومي في البداية كان ضعيفا.. والنهاية كانت بلا معنى..
وهكذا فقد أشعر الموقف الحكومي الكثيرين بأن الموضوع ممجوج ليقول لسان حالهم "وماذا فعل الفتى.. هل حرر القدس؟".. فهذه هي طبيعة الأشياء "كل شيء يزيد على حده ينقلب إلى ضده".
وهكذا مع ردّ الفعل الحكومي أصبح الكل يريد تكرار الحدث، غير عالمين أن تكرار المفاجأة يُقلّل من وقعها، وهكذا أرادوا أن يزيدوا من موقفهم لعلهم يكافأون بما هو أكبر، فبدل من إنزال العلم أصبح الأمر اقتحاما لسفارة أو مخزنا لسفارة.
وهكذا أيضاً جاء ردّ فعل الحكومة مجرد رد فعل وليس فعل، فلوح بعصا العقاب لمن فعلوا ذلك تحت الضغط الدولي.
وأصبح التساؤل الحائر كيف يكافِئون هذا ويُعاقبون هؤلاء؟؟
الكثيرون لم يروا الفروق البسيطة بين هذه الفِعلة وتلك.. رأوا فقط التخبُّط الحكومي الذي يُميِّز الفترة التي نعيشها، فلا الحكومة تدري ماذا تريد.. ولا تعرف ما هي أهدافها؛ سواء إنزال عَلم أو رفع عَلم أو أي شيء على الإطلاق.
وتركونا جميعا كشعب أغلبنا لا يستطيع أن يفعل أكثر من التهليل لإنزال العلم، ومن التغنّي في حب بلده بأغنية أو بيت شعر، كما تغنَّى الشيخ إمام في يوم من الأيام بأبيات تهتز لها القلوب::
يا مصر قومي وشدّي الحيل كل اللي تتمنّيه عندي لا القهر يطويني ولا الليل يا مصر قومي وشدّي الحيل