منذ بضعة أيام ذهبت أنا و أمي لزيارة بيتنا القديم، ذلك البيت الذي يقع في احدى المناطق الشعبية في مدينتنا، في طريقنا إلى هناك اندهشت أمي دهشة ممزوجة بالاستياء حين أخبرتها أنى سوف أضل الطريق إذا اضطررت للمجيء وحدى إلى هذا البيت، و لكن لي في هذا عذر فقد غادرنا هذا البيت و انا ابن الأربعة أعوام فكيف أتذكر الطريق إلى هناك و قد قاربت على العشرين؟!! و حين وصلنا وجدت بيتاً يدل منظره على أن بشرياً لم يدخله منذ عقدين من الزمان. كمية من التراب تكفي لصنع ساتراً ترابياً يتفوق على ذلك الذي صنعته إسرائيل قبل حرب أكتوبر 1973، و بقايا أثاث متناثرة في كل مكان كأشلاء متحللة لآدميين عاشوا هنا منذ زمن بعيد، و إضاءة خافتة يكاد الظلام يكون أكثر إضاءة منها. في بادئ الأمر كنت أضيق بكل هذا، فأنا لا أطيق رائحة التراب التي تكاد تخنقني و لا أحب الإضاءة الخافتة. و بينما أنا في معاناتي هذه لم أجد أمي إلى جانبي فأخذت أبحث عنها فإذا بها تتجول في أرجاء البيت كمن يتجول في قصر و تنظر حولها في نشوة غريبة أثارت غيظي و عجبي، فأي إنسان قد يفرح لوجوده في مكان كهذا؟!! فأخذت أرجوها أن تنهي ما قد جئنا من أجله لنرحل من هذا المكان إلى غير رجعة، نظرت إلى بابتسامة و قالت: أشعر براحة لا مثيل لها في هذا المكان، هنا ولدت و قضيت أجمل أيام طفولتك أمام عيني. عندها نظرت حولي و تأملت المكان، فوجدت فيه رائحة لا أعرف كنهها حتى الآن و لكنى أشعر أنها مألوفة بالنسبة إلى، و فجأة شعرت أن في هذا المكان شيء أحن إليه كشيء فقدته منذ زمن وها هو الآن يلوح لي و يجذبني إليه، أخذت دورية التجول في البيت بدلاً من أمي التي ذهبت لترتب بعض الأغراض و ذهبت إلى الشرفة، أطل منزل جيراننا المقابل، منزل سلمى صديقة الطفولة، و الشارع بمنازله المتقاربة، و أطفاله اللاعبين، و رجاله العائدين من أعمالهم و قد ارتسم الإنهاك على وجوههم لدرجة لا تستطيع معها أن تميز معالمها فتشعر أنهم نسخ متطابقة تسعى منذ مشرق الشمس حتى مغربها لتعود للأطفال بالفتات الذي يحول بين أبدانهم و ضمورها، و نسائه اللاتي خرجن من الشرفات يقمن بنشر الملابس المهلهلة التي يخجل من ارتدائها السائل و المحروم، و سألت نفسى لماذا أصبحوا هكذا؟؟ لم يكن هذا حالهم عندما هجرنا هذا المكان على ما أتذكر. دخلت عائداً إلى البيت فوجدت منضدة عليها أكوام من الورق القديم الأصفر الذي يبدو من قدمه كمخطوطات إغريقية تعود إلى عصور ما قبل الميلاد فأمسكت ببعضها فوجدت كتابة بخط الرقعة الذي يتفنن أبى في كتابته، أو هكذا كان قبل أن يقوم بأداء كل أعماله على الكمبيوتر و يتخلى عن القلم الذي طالما أخرج من بين أصابعه كتابات غاية في الروعة بمختلف أنواع الخطوط. و وقعت عيني على صندوق صغير ملئ بأوراق هرعت إليه كمن عثر على كنز فأفرغته مما فيه، و وجدت أغلفة جوابات قديمة فأمسكت واحدًا وجدت فيه بطاقة بريدية للتهنئة مكتوباً عليها: "أرق التهاني بالمولود السعيد" و لشد ما كانت دهشتي و سعادتي حين أدركت أنني هذا المولود السعيد، فأختي الوحيدة لم تكن قد ولدت بعد، فضحكت ملء ثغري و عزمت على أن أحتفظ بهذا الظرف. ظللت أفتش في هذا الكم الهائل من الأوراق بهمة موظف في السجل المدني فوجدت عدد قديماً كان لي من مجلة "براعم الإيمان" للأطفال التي كانت تشتريها لي أمي كل أسبوع، كنت أحب هذا المجلة رغم أنى لم أكن أجيد القراءة بدرجة تجعلني قادراً على قراءة مجلة، فقد كنت ما زلت في الرابعة و لكنى كنت أقرأ ما يتيسر لي قراءته. أخذت أطوف مرارًا بحجرات البيت بروح سائح أجنبي في متحف ثم خرجت إلى الصالة فوجدت نتيجة معلقة على الحائط فدققت النظر فيها فوجدتها منذ سنة 1995 فأحسست أنى لم أدخل إلا آلة الزمن الأسطورية التي طالما شاهدتها في الأفلام الكرتونية و القصص فتنقل البطل من زمن إلى زمن فيشاهد عالماً آخر غير عالمه. لفت نظري في الغرفة المجاورة نافذة فتحتها و وقفت أمامها برهة أتذكر ما أستطيع تذكره، فإذا بذراع يحتوى ذراعي و يضمها فنظرت إلى يميني فإذا بها أمي تبتسم و تتذكر معي و تقول لي: "هنا كنت أجلسك كل صباح أمام النافذة فتتناول إفطارك و أحكى لك القصص و تظل تستمع بإصغاء و كأنك تحفظها عنى. أتذكر؟؟ و هنا – مشيرة إلى موضع بالحجرة – كان السرير حيث كنت أجلس لأقرأ، و لأشغلك عنى كنت أعطيك ورقة أكتب فيها الأرقام من 1 إلى 9 لتكررها فتتعلم كتابة الأرقام قبل أن تدخل المدرسة، و كنت تكتبها بسهولة إلى أن تصل للرقم 8 فتعجز عن كتابته فتقلب الورقة و تكتب 7 ثم تعيدها إلى وضعها الأول فتصير 8. أتذكر؟؟ أتذكر قصص الأنبياء و قصص السندباد عندما كنت أحكيها لك؟؟ عندما كنت أحاول أن أجعلك تنام و أنت ما زلت رضيعاً فيغلبني النعاس أنا و أنت بعدك مستيقظاً، و عندما أستيقظ أجدك محملقاً في السقف فأستشيط غضباً فتنظر لي و تبتسم ببراءة فأضحك و أنهال عليك بالقبل. أتذكر؟؟" نظرت إليها و رأيتها تغالب دمعًا يوشك أن يسيل، و لثمتني قبلة على جبيني لن أنساها ما حييت. "كبرت و لكنك ما زلت في عيني كيوم أنجبتك" هكذا قالت أمي، "ستكبرين و لكنك ما زلت في عيني كيوم أنجبتني" هكذا أقول لها و ليتها تقرأ. عجيبة هي قدرتنا على تغيير مشاعرنا تجاه الأشياء، فقد دخلت هذا المكان ضائقًا به كارهًا له، وها أنا أتمنى لو أبقى فيه طيلة عمرى. خرجنا من صندوق الذكريات الذي أعادني لأسعد أيام الطفولة. كثير منا تؤلمه ذكرياته و يتمنى لو يجد منها مهربًا، و كثير منا يتوق لكل لحظة فيها و يتمنى لو تعود… و لكن كيف السبيل إلى الهروب؟؟ و أنى لنا العودة؟؟