أجمل ما في فيلم "فاصل ونعود"، أن مفاجآته العديدة للجمهور بدأت حتى قبل نزوله بدور العرض. فبعد أن قرأنا أن القصة لسائق تاكسي على خلافات مع والد زوجته المتوفّاة؛ بسبب زواجه منها رغماً عنه، وإصرار والد الزوجة على اختطاف طفلهما ليُربّيه بنفسه، وينتقم من زوج ابنته بتدبير حادث يفقده ذاكرته. دخل معظم الجمهور -وأنا منهم- وفي الأذهان أننا مقبلون على "حدوتة" تُشبه في مأساتها وإنسانيتها فيلم "واحد من الناس" بكل ما به مِن آلام، وأحزان، وانحياز للمهمّشين، فكانت المفاجأة أن القصة الحقيقية مختلفة في الشكل والأحداث عما وضعناه في مخيلاتنا، ورغم انحياز الفيلم بالفعل للفقراء والمهمّشين -كعادة معظم أفلام كريم- فإنه على قدر عالٍ من السخرية وخفّة الظلّ التي تضحكك -مِن كل قلبك- على مشكلاتهم، وأوجاعهم، بدلاً من أن تذرف دموعك عليهم. القصة والسيناريو كانا مغامرة محسوبة من المنتج هشام عبد الخالق والنجم كريم عبد العزيز في قبولهما والتحمّس لهما، خاصة وأنهما يُشبهان الوصفة السحرية التي لا تعمل إلا بوجود ساحر قوي يملك أدواته لتفعيلها، وتشغيل تأثيرها على الجمهور، وإلا فَقَدَت مفعولها إذا ما زادت الجرعة عن الحد أو نقصت عن المطلوب، وفي الوقت نفسه إذا ما كنت "حريف" مُشاهدة أفلام أجنبية، وتحفظ عن ظهر قلب أهم مائة فيلم بالسينما الأمريكية، فحتما ستلاحظ أن تيمة الفيلم -أقول التيمة وليس القصة- على قدر مِن التشابه مع فيلم Memento (الذكريات). لكن هذا التشابه لا تجرؤ أن تصفه بالاقتباس أو "النحت"، إذ تختلف قصة وأحداث "فاصل ونعود" تماماً، بشكل يُؤكّد مهارة وذكاء المؤلفَيْن أحمد فهمي، وهشام ماجد، اللذين نجحا في بناء أزمة مختلفة وممتعة، تأخذك فيها المأساة إلى الضحك لدرجة "القهقهة"، بعد أن استطاع الموهوب بحق كريم عبد العزيز في حفظها، واستيعابها، ليخرجها بنكهته وبصمته المميّزة كفنان ناجح وقادر على أداء أنواع الأدوار كافة؛ سواء الأكشن، أو الكوميدي، أو الرومانسي، وهو ما يضعه في مكانة مميّزة كواحد من القلائل الذين يستحقون لقب "جوكر" يمكنه النجاح في نوعيات الأفلام كافة؛ إذ يعتمد نجاحه على خَلْطَة متكاملة ومتماسكة من الموهبة، والوسامة، وخفّة الظلّ، والإحساس العالي بطبقات المجتمع كافة دون أن تنجح نجوميته في صنع ذلك الحاجز "المدمّر" بين الفنان والجمهور، فلماذا لا يكون رهانا ناجحا بعد كل ذلك؟ مع كريم كان هناك أبطال آخرون، أدّى كل منهم دوره خير قيام، دون أن يقعوا في فخ قياس مساحة الدور، وعد الكلمات التي سينطقونها مثلما يفعل الآخرون؛ فكان النجاح هو ثمرة هذا الأداء العالي، والروح الحلوة؛ وعلى رأسهم: أحمد راتب (الحاج خيري)، ومحمد لطفي (صلاح)، ومحمد فراج (المقدَّم لبيب)، ودينا فؤاد (الدكتورة بتول)، والطفل الصغير الذي قام بدور "حسن". وحتى تكتمل الوصفة السحرية -كما ذكرت آنفاً- ما كان النجاح ليُحالف الفيلم إلا بوجود مايسترو متميّز في حجم أحمد نادر جلال، استطاع أن يقود الأوركسترا التمثيلية، وزاوية التصوير المناسبة، واضعاً يده على الكادرات الملائمة لكل جُملة بصرية تُعبّر عن مُود المشهد، والهدف الذي يريد إيصاله للمُشاهِد، ممسكاً بخيوط الفيلم وقائداً لإيقاعه بحرفية شديدة، دون أن تزداد السرعة فيلهث الجمهور ويفقد تركيزه، أو تتباطأ لدرجة الملل والضجر، قبل أن يضع الموهوب خالد حماد لمساته الأخيرة بموسيقاه الرقيقة الناعمة التي تغرس معاني الفيلم وأداء أبطاله في عقلك وحواسك بنعومة ورفق. الفيلم رغم كونه يحمل الروح والطابع المصري الأصيل المعبّر عن بسطاء مصر، وموظّفيها، وعمّالها المهمّشين؛ فإنه يحمل في الوقت نفسه طابع هوليوود في جودة الصورة، وحرفية مَشاهد الأكشن، والاعتماد على تِيمة وشكل غير مستهلك في السينما المصرية، مما يفتح الباب أمام المزيد مِن التقدُّم والتطوّر في الشكل والمضمون، ورغم كون القصة بسيطة ولا تناضل مِن أجل الوطن وسلبياته، فإنك تشعر في سياقها الإنساني أن مصر مثل برنامج التوك شو، الذي تمّ قطع النقاش فيه للانتقال إلى فاصل إعلاني، لكننا غرقنا في الإعلانات دون أن نعود. العيب الوحيد -من وجهة نظري- هو تكرار جملة "عليّ الحرام من ديني" بشكل مبالَغ فيه أثار استيائي أنا وبعض الجمهور؛ إذ إن هذا القَسَم في حد ذاته يشعر معه الكثيرون بالفداحة، والقسوة، وتستوحشه النفس. كلمات أخيرة • كريم عبد العزيز.. كنت أتساءل.. لماذا لا يوجد عندنا في مصر أبطال يتمتعون بالوسامة، واللياقة، وخفّة الظل ليُؤدّوا كل الأدوار، بأي الأفلام، مثلما هو الحال في هوليوود، حتى لا نضطر إلى تقسيم فنانين للأدوار الرومانسية، وآخرين للكوميديا، وآخرين للأكشن؟ لكنني اكتشفت أن الإجابة "كيمو". • أحمد فهمي وهشام ماجد.. أثبتما نجاحاً قوياً في كتابة السيناريو مع كريم وغيره من النجوم، وتألقتما مع ثالثكما شيكو في التمثيل.. أعتقد أنه قد حان الوقت لتحققا نجاحاً جماهيرياً أكبر في الفترة المقبلة، خاصة وأنكما فريق مكتمل الأركان.
شاهد إعلان فيلم "فاصل ونعود" إضغط لمشاهدة الفيديو:
