"إن المفاوض الذي يفرّط في السودان كالمفاوض الذي يفرّط في عرضه".. هذه مقولة منسوبة للزعيم سعد زغلول، وما بين عبارة الأمس البعيد وواقع اليوم انشطر تاج مصر والسودان نصفين، ثم ذهب التاج إلى غير رجعة. بقي الوادي لكننا تغيّرنا، بقي رابطا بين مصر والسودان، لكن خيار الاغتراب بالوعي والشعور ساد، وكأننا بعد انشطار التاج اتفقنا ألا نلتقي! في هذا الحوار محاولة للتعرف من جديد على السودان، مع أحمد علي حسين (24 عاما) حاصل على ماجيستير في نظم المعلومات، ويعمل في شركة هندسية، وكانت البداية عن الانطباع السائد عند البعض عن السودان.. هناك تصوّر أن السودان لا توجد فيه مظاهر حضارة، وأنه قريب الشبه بالصومال، مجرد مجال لتنازع عدد من القبائل على الثروة والنفوذ، ما رأيك في هذا الانطباع؟ أضحكني جدا هذا التصور العام الذي يصوّر السودان كغابة، وأهلها يمتشقون الحراب لاصطياد الغزلان، لكن للجميع الحق في تصور هذا؛ وذلك لأن الحكومة في أشد الحرص على أن تهتمّ بنفسها بدلا من شعبها وكيان الدولة. السودان به عمران ومبانٍ فارهة وحضارة قديمة وجامعات ومدراس ومساجد ذات عمران جميل، وكل ما يمكن أن يُقال عنه أنه تمدن أو حضارة. السودان أصبح يسير في تطوّر ملحوظ منذ فترة ليست بالقريبة. صحيح أن التطور به ليس كباقي الدول، ولربما تُعتبر غينيا وكينيا أكثر تطورا من السودان، لكن هذا لا يمنع أن يكون السودان بلدا جيدا صالحا للمعيشة. أريد أن أسألك عن التعليم في السودان، وهل يشمل الجميع وإمكانياته جيدة أم إنه يقتصر على المدن الكبرى فحسب؟ كان التعليم مجانا تقريبا في زمن الرئيس النميري، لكن بعد حكم جيش الإنقاذ أصبح الأمر يتجه إلى الشكل التجاري، وانتشر الكثير من المدارس في السودان، ومع هذا فإن معظم المواطنين يحرصون على التعليم، ويبذلون فيه الجهد الكثير؛ لما وجدوا فيه من تحسين للمعيشة وارتقاء بمستوى الأسرة. بالنسبة للإمكانيات، صحيح أنها ليست متساوية في جميع الأماكن، لكنها تفي بالغرض. ماذا عن العادات والتقاليد في الأعياد والمناسبات في السودان (الزيارات –الاحتفالات – أشهر المأكولات... إلخ)؟ من المؤكد أن حياة المدينة تكون خالية نوعا من العادات والتقاليد، لكن الأقاليم والأرياف تزخر بهذه العادات؛ في رمضان يتبادل الجميع التهاني في أول أيام الشهر الكريم، وبعد الإفطار هنالك من يذهب إلى النوادي ليلعب الكوتشينة والدومنة، أو من يضع كرسيه بعد صلاة التراويح خارج المنزل، ثم يلم من حوله من المسنّين ويتسامرون حتى وقت متأخر. أما أشهر المأكولات في رمضان فهي العصيدة، وهي عبارة عن عجين يُصنع بطريقة معينة، ويوضع في قوالب حتى يجمد ويكون هلاميا وغير جامد، فيوضع في صحن كبير ثم يراق عليه ما يسمى "مُلاح"، وهنالك عدة أنواع من الملاح منها (التقلية - النعيمية - الروب). أما في الأعياد فديدن الجميع هو تبادل التهاني بعد صلاة العيد، ثم الدخول إلى كل الجيران وتهنئتهم، ثم تعود إلى منزلك لتستقبل التهاني وهكذا دواليك. أما في عيد الأضحى فتنعدم التهاني تقريبا إلا بعد الصلاة فقط؛ فالكل مشغول بذبيحته. عموما أكثر العادات والتقاليد تكون في الزواج والمآتم وغيرها من المناسبات، ففي الزواج تكون حفلات الحناء للعروسين، وضرب النار، والأغاني الشعبية والمواكب، وهي عادات تكلّف كثيرا، ولم يعد الإقبال عليها كبيرا اليوم؛ بسبب تكلفتها. الحديث عن السودان خاصة في وسائل الإعلام دائما يساوي دارفور أو حديث القبائل والسياسة بصفة خاصة، فكان هذا هو موضوع الأسئلة التالية.. إلى أي مدى يعاني المجتمع السوداني العنصرية بين المواطنين من أصل عربي وآخرين من أصل إفريقي، وكذلك الصراعات القبلية؟ هنالك عنصرية قديمة بين كثير من القبائل، فتجد مثلا أن الشايقية والجعلية لا يتوادّون أبدا مع أنهم أبناء عمومة، وغيرهما من القبائل. لكن شيئا فشيئا أصبحت تندثر هذه العنصرية والحمد لله هي الآن على وشك الاختفاء. أما بالنسبة لسكان الأصل العربي وسكان الأصل الإفريقي فهنالك إحساس عام بأن الأول مفضّل على الثاني، وإن لم يكن هنالك ممارسات بينة توضّح هذا الأمر، لكن 80% من العمالة الهامشية تكون من الجنس الإفريقي، ونطلق عليهم (الجنوبيين أو النوبة وهنالك الغرابة والفلاتة). لكن أيضا كما قلت ليست هنالك ممارسات واضحة تدلّ على امتهان هذه الطبقات، بل بالعكس هنالك معاملة طيبة من السكان ذوي الأصل العربي ما لم يقم السكان ذوو الأصل الإفريقي بانتهاك هذه المعاملة الطيبة. الصراعات القبلية ليست بالجديدة بدأت منذ الستينيات بين قبائل كثيرة في مناطق مختلفة من السودان، فمن أسباب الصراعات القبلية في المقام الأول التنافس على الموارد الطبيعية الشحيحة من مياه ومرعى؛ حيث الزيادة في أعداد الماشية مع التوسّع في الزراعة، بالمقابل ضمور في الموارد. هذه الصراعات كان لها أثر بالغ، حيث تأثرت القبائل كثيراً بآثار الجفاف والتصحر، والتأثر بالحروب التي حدثت في دول مجاورة، وانفلات الأمن في مناطق كثيرة كدارفور، التي نشطت فيها المجموعات المسلحة التي ساهمت في تحويل دارفور من مكان آمن إلى مركز لصراع عالمي كما نرى مع الأسف.
إذا حدث الانفصال لا أضمن كيف ستستمر العلاقة بين أهل الشمال وأهل الجنوب هل هناك رضا عام عن أداء النظام من المجتمع السوداني، أم إن لديه نفس حالة السخط التي توجد عند شعوب عربية كثيرة؟ بالنسبة للشارع السوداني فهو ينقسم ما بين مؤيد للنظام وبين ساخط. عني أنا فأرى أن النظام الحالي غيّر كثيرا من مجرى مستقبل السودان، لكنه لم يكن بالعدل الكافي؛ كان في إمكانه أن يحقّق وضعا أفضل للسودانيين في إطار الأموال التي تدخل خزينة الدولة.. النظام كغيره من الأنظمة عبارة عن أفواه كانت عطشى، وعندما وجدت الماء بدأت تنهل منه بأكبر كمية، وتدع ما يتسرب بين الشفاه للشعب المرهق. لا أقول إن النظام ليس له إيجابيات، لكن هنالك أموال كثيرة مهدرة في غير مصارفها، دعك من الوزراء وأبنائهم الذين يعيثون في الأرض فسادا بمال الشعب. في عهد الرئيس جعفر النميري تم إعلان تطبيق الشريعة في السودان، ونظام الإنقاذ الآن ينطلق من خلفية مشابهة، ما هي ذكرياتكم عن فترة النميري، ورأيكم في مطابقة أفعال النظام السوداني الآن لأحكام الإسلام؟ لا أعرف شيئا عن فترة الرئيس النميري سوى ما قيل ويقال.. لكني سألت من عاصروا هذه الفترة، واستخلصت من كلامهم أن النميري له إيجابياته وسلبياته؛ فقد كانت الحكومة في عهده تدعم البنزين والتموين والتعليم، مما سهّل على كثير من الناس العيش برغد وحياة كريمة. قام النميري كذلك بإغلاق البارات، وهذا شيء يُحسب له، كما أن الجنيه السوداني كان قويا في عهده. ومن السلبيات أنه عندما حدث الانقلاب ترك النميري ديونا كثيرة، وهذا ما يتحجّج به النظام الحاكم الآن أنه قضى وقتا كبيرا في تسديد هذه الديون، وحقيقة لست أعرف يقينا هذا الأمر. كذلك يشترك نظام النميري مع النظام الحالي في أن كليهما طبّق الشريعة كواجهة؛ من أجل تثبيت السلطة، وليس من أجل الدين نفسه، ففي الوقت الراهن أصبح هنالك تعطيل شامل للحدود، واستُبدلت به قوانين وضعية، وهذا لا يمثل الشريعة في شيء. كما أن النظام لو لم يطبّق الشريعة في نفسه أولا فلن يطبقها في أي مكان آخر. وختاما سؤال عن مستقبل السودان الذي يأبى إلا أن يكمل طريقه في الانشطار، فكان السؤال عن انفصال الجنوب المتوقّع عن الشمال.. الجنوب الآن على وشك المشاركة في استفتاء على بقائه ضمن سودان موحّد أو الانفصال، ما هو الحل الذي تفضّله ويفضّله محيطك؟ وهل النزاع بين الجنوب والشمال يؤثر على العلاقة بين الجنوبيين والشماليين في حياتهم اليومية في المدن التي يعيشون فيها معا؟ بالنسبة لأمر الانفصال، فأنا أفضّل الوحدة؛ لأن الانفصال سيؤثر كثيرا على كلا الشعبين، الجنوب به الموارد المالية والبشرية؛ به البترول والمزارع، وأيضا به العمالة البشرية التي تُستخدم في كثير من المواقع، والشمال به العمران والحضارة والحياة الرغدة، وهو ما يمثل مشكلة كبيرة لأهل الجنوب؛ إذ إن الجنوب ليس معمّرا كالشمال. أما محيط مجتمعي فهنالك مؤيد للانفصال ورافض؛ لنفس الأسباب التي ذكرتها، لكن غالبية أهل الشمال يريدون الوحدة، وغالبية أهل الجنوب الذين يعيشون في الشمال يريدون الوحدة. إذا حدث الانفصال لا أضمن كيف ستستمر العلاقة بين أهل الشمال وأهل الجنوب. في شركتنا الآن التي أعمل بها هنالك توادّ بين كثير من أهل الشمال وأهل الجنوب، وهنالك استطلاعات كثيرة بين أهل الجنوب لا تريد الانفصال وتفضّل الوحدة.