كعادته دوما.. يختفي حينا ويظهر حينا آخر، وكعادته كذلك لا يكفّ عن إثارة الجدل حوله. إنه عمرو خالد الداعية الأربعيني الذي شقّ طريقه في الدعوة مقتربا من طريقة الشباب، بعيدا عن العمامة الأزهرية، مؤسّسا ما يُعرف بظاهرة "الدعاة الجدد" التي شغلت -ولا تزال- المحللين والمثقفين والعامة كذلك. خرج علينا عمرو خالد في يوم عرفة ليزفّ إلينا بشرى رجوعه إلى عقد الندوات في مصر بعد طول غياب، وأولاها ندوة يوم السبت في منطقة "أبو سليمان" في الرمل بالإسكندرية. الندوة تحت رعاية "مؤسسة إسكندرية للتنمية" في ملتقى التوظيف الذي تعقده، وبالطبع بعد سماع هذه البشرى يجب أن نخبر جميع أصدقائنا "يا جماعة". لكن "الجماعة" لم تفرح كلها بالبشرى، وانقسمت بين مؤيد ومعارض لا كُرْها لعودة عمرو خالد بالطبع، لكن لأن رئيس مجلس أمناء الجمعية -التي تمّ إشهارها منذ بضعة أسابيع- هو اللواء عبد السلام محجوب -وزير الدولة للتنمية المحلية ومرشح الحزب الوطني عن دائرة الرمل بالإسكندرية- مما يوحي باستغلال عمرو خالد في الدعاية الانتخابية لأحد مرشحي الوطني. لكن أحد أعضاء مجلس أمناء الجمعية، ومنتج برامج عمرو خالد المنتج "أشرف الكردي" نجل "كرم الكردي" -القيادي بالحزب الوطني ومن أبرز مؤيدي اللواء عبد السلام محجوب في مسيرته الانتخابية- نفى في تصريحه للأهرام أي استغلال للندوة في الانتخابات التشريعية، وأن الندوة لا علاقة لها بالقرابة بينه وبين "جده" اللواء عبد السلام محجوب، مشيرا إلى دعوة الجمعية بشكل دوري لشخصيات دينية في مقدمتهم الدكتور زغلول النجار والداعية مصطفى حسني. وصف "الكردي" كذلك معارضي الندوة بأنهم "فئة قليلة ليسوا من جمهور عمرو خالد". لكن تصريحات "الكردي" لم تنجح في نفي التهمة عن "عمرو".. إن لم تساهم في تزايدها. عمرو.. مخدوع أم خائن؟! الفريق المعارض للندوة رأى أن بها دعما سياسيا واضحا للحزب الوطني ومرشحه "محجوب"، وأن الحزب يستغل شعبية عمرو خالد لصالحه؛ لضرب مرشحي جماعة الإخوان المسلمين أو المعارضة بشكل عام. يشير هذا الفريق كذلك إلى تغيّر نهج عمرو خالد، الذي يصر دوما على أنه بعيد عن السياسة؛ فقد صرّح لموقع أون إسلام أنه سيدلي بصوته في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وسيشجّع الشباب على المشاركة بإيجابية، والذهاب لصناديق الاقتراع، مما يجعل "عَمرو" في أسوأ الاحتمالات متواطئا مع الحزب الحاكم، أو تمّ استغلاله بحسن نية؛ ليكمّل الديكور الديمقراطي في أحسنها. وبالطبع تمادى البعض في الأمر لدرجة اتهام "عمرو" بتقديم تنازلات عن مبادئه، والسير في ركاب الحزب الوطني؛ حتى يسمح له النظام بعقد ندواته في مصر، بعد أن ظل طويلا يؤكد أنه يواجه العديد من العراقيل في سبيل توصيل رسالته في بلده. كما اتهمه البعض أيضا بنسيان تاريخه مع الإخوان المسلمين الذي وقف يرثي أحد مرشديهم (المرشد محمد حامد أبو النصر) في المقطع المصوّر الذي تمّ تداوله بكثافة في الفترة الماضية، ويقف "عمرو" الآن مع خصومهم. "عمرو" لم يخطئ لكن هناك فريق آخر ما زال يصرّ على أن الندوة لا توحي بأي دعم سياسي لأحد، وأنها جاءت تلبية لدعوة جمعية تنموية تقيم ملتقى للتوظيف وليس سرادقا انتخابيا، وأنها جاءت مساهمة من الداعية الشاب في جهود التنمية التي يحرص عليها منذ تقديمه لبرنامج "صناع الحياة". ويُدافع البعض أيضا بأن "عمرو" ليس عليه أن يكون معارضا سياسيا، وأن البرجماتية مطلوبة من أجل جهوده الدعوية، وغيرها من المبررات التي تحتفي ب"بشرى" العودة، وتتمنى امتدادها لمصر كلها. بل نحن من خدعنا أنفسنا كان من الطبيعي بل من المنطقي كذلك أن ينتهي المقال عند هذا الحد، وأن تدور التعليقات مؤيدة أو معارضة للآراء الواردة بالمقال، لكن وجب علينا ألا ننظر للحدث مجردا من مقدّماته، مهما بدت هذه المقدّمات غير ذات صلة بالموضوع. إن الخطاب الدعوي لعمرو خالد من البداية كان خطاب يتصالح إلى حدّ كبير مع المنطق الاستهلاكي، ويُروج لهذا من خلال وسائل الإعلام المدعومة بإعلانات الشركات الكبرى، والتي تتبنى برامج ما يعرف بظاهرة الدعاة الجدد، فنرى أثاثا فاخرا وأزياء المذيعة المحجبة من المحلّ الفلاني، والشركة الفلانية الراعية لبرنامج كذا، والشركة السياحية التي تستقطب الدعاة، وتطلب مبالغ خيالية للمتقدمين فيها للحجّ والعمرة. هذا الخطاب الذي يركّز بشدة على دعوة الشباب للصلاة والفتيات بالحجاب؛ ليقتربوا من الله ويدخلوا الجنة جعل الإسلام دينا متكيّفا مع المتغيرات الحديثة؛ حيث يتم "تخريج مظاهر الاستهلاك الحديثة على الدين"، هكذا يكون الدين في خدمة النزعة الاستهلاكية. تصبح الدعوة الحقّة التي نحن في أمسّ الحاجة إليها تعتمد على "التسويق"، ومبدأ العرض والطلب، الذي حدا بالداعية أن يخرج بملابس الإحرام في يوم عرفة، ويصوّر مقطعا يدعو فيه إلى ندوته، و"يزفّ البشرى" كأنه قادم إلينا من الجنة. وإذا قال البعض إنه لا بد من حاضن لهذه الجهود الدعوية، وإن الواقعية تقتضي أن يتقبل الإنسان أن الدنيا أصبحت سوقا كبيرا يحكمها العرض والطلب، وأن الشباب "ضايع" يحتاج إلى أن يتعرف بأساسيات الدين أولا بشكل جذاب بعيدا عن الانشغال بالشأن العام، وأن الدعوة يجب ألا تصطدم بأحد؛ لتكمل مسيرتها في توعية الشباب ضد الانحراف، فلا مجال هنا لأن نخدع أنفسنا ونقول إن عمرو خالد قد حنث بما عاهد به، بل كل ما فعله هو الاعتبار بالرءوس التي طارت في الفترة الأخيرة، فخطا خطوة على ذات الطريق الذي لم نتأمل ملامحه من البداية.