هل ساهمت الأغنية العربية الأصيلة في شُهرة بعض القصائد؟ سؤال طالما يتردد؛ فقد اشتُهر إبراهيم ناجي لأن أم كلثوم غنّت له، وهذا لا ينكر صفة إبداعه أبداً، ولكن لم يشتهر آخرون برغم إبداعهم المتناهي. عندما كانت تُغني أم كلثوم، كان يجتمع الكل، يحفظون ما تغني عقب انتهاء الحفلة، قد يحفظون ولا يفهمون؛ لكنهم يسعوْن لفعل ذلك.. قصائد من قلب الشعر العربي الأصيل، التي يجد البعض صعوبة في قراءتها، تشدو بها أم كلثوم وغيرها في تألّق وإمتاع شديدين؛ الأمر الذي يدعونا لفتح هذا الباب.. سنغوص فيه حتى الأعماق، ونتناول في كل حلقة فناناً من أشهر الشعراء الذين أبدعوا القصائد المغُناة، وهل ساهمت بالفعل في شهرتهم؟ ولماذا لا نرى أمثال هذه القصائد في هذه الآونة؟ برغم أنك تجد العديد يحفظون "قارئة الفنجان" عن ظهر قلب، ويرددون "أراك عصي الدمع" ببساطة، ويشدُون ب"مضناك جفاه مرقده" في يُسر.. سنضع بين يديك كل هذه الشواهد، ويظلّ الحكم لك وحدك عزيزي القارئ. وحينما أردت أن أبدأ، لم أجد خيراً من "كوكب الشرق" أم كلثوم، تلك السيدة القادمة من الريف المصري الأصيل، التي عرفت كيف تتحدث اللغة العربية بطلاقة. تُعدّ "ثوما" أشهر من غنّى هذه القصائد الصعبة، ولها العديد من النوادر بهذه الأمور؛ حيث كانت تُصِرّ على مراجعة القصائد؛ حتى إنها أجرت تعديلات كثيرة على "أطلال" إبراهيم ناجي؛ فمطلع القصيدة الأصلي هو: يا فؤادي رَحِمَ الله الهوى ... كان صرحاً من خيال فَهَوَى اسقني واشرب عَلَى أطلاله ... وارْوِ عَنِّي طالما الدمع روى لكنها دمجت أبياتاً أخرى من قصيدة "الوداع" لنفس الشاعر مع "الأطلال": هل رأى الحب سُكارى مِثلنا ... كم بَنَيْنا من خيال حوْلَنا ومشيْنا في طريق مُقمر ... تَثِبُ الفرحة فيه قبلنا وكان لغناء هذه القصيدة شهرة كبيرة لشاعر وطبيب مصري بليغ، أصبح الناس يبحثون عن المزيد من قصائده الرومانسية الشهيرة، وحفظوا أطلاله عن ظهر قلب. ومن القصائد التي غنّتها أم كلثوم وأجرت عليها بعض التعديلات أيضاً، قصيدة أبي فراس الحمداني: أراك عصِيّ الدمع شِيمتُك الصبر ... أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟ بلى أنا مشتاق وعنديَ لوعةٌ ... ولكنّ مثلي لا يُذاع له سرّ ولكن تعود أم كلثوم من جديد لتقوم بالتعديل وتُبدّل "بلى" ب"نعم".. وكل من يسمع، يسعد ويحفظ جيداً؛ سواء كانت الكلمات صعبة أو سهلة. "أمير الشعراء" أحمد شوقي كان لأشعاره الخلّابة نصيب كبير أيضاً من غناء أم كلثوم؛ خاصةً قصائد "شوقي" الدينية: "سَلُوا قلبي"، "وُلد الهدى"، "إلى عرفات الله"، "نهج البُردة". والأخيرة عندما كتبها "شوقي" بلغت 190 بيتاً، مطلعها: ريمٌ على القاعِ بين البَانِ والعلَم ... أَحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم لكن أم كلثوم غنّت 30 بيتاً منها فقط؛ لكنها التزمت بخاتمة القصيدة التي تقول: يا رب أحسنت بدء المسلمين به ... فَتَمّم الفضل وامنحْ حُسن مختتم ومن النودار مع "شوقي" وأم كلثوم، أن "شوقي" كتب القصيدة البديعة "سلوا كؤوس الطِلا" خصيصاً لتُغَنّيها؛ ولكن أم كلثوم غنتّها عَقِب وفاته، بعد تعديل في البيت الرابع الذي يقول فيه أحمد شوقي: هيفاء كالبان يلتفّ النسيم بها ... وينتهي فيه تحت العرش عِطفاها إذ لجأت لشاعرها المفضّل آنذاك أحمد رامي؛ لإتمام هذا التغيير المطلوب، مستخدماً حِرَفِيّته المعهودة في ذلك، وقد غيّر الشطر الثاني؛ فجاء البيت الذي غنّته أم كلثوم مغايراً بعض الشيء لما كتبه "شوقي"، وهو الذي تقول فيه: هيفاء كالبان يلتفّ النسيم بها ... ويُلفت الطير تحت العرش عطفاها نعم، كان أحمد رامي "شاعر الشباب" شاعرها المفضل على الإطلاق، وقصته معها من أشهر قصص الحب التي لم تكتمل في الوسط الأدبي الفني، ويقال إن "رامي" قد كتب 137 قصيدة كاملة لأم كلثوم، ما بين فصحى وعامية ومُترجم، ك"رباعيات الخيام" التي مطلعها: سمعتُ صوتاً هاتفاً في السّحَر ... نادى مِن الحانِ: غُفاةَ البشَر هبُّوا املأوا كأس الطِّلى قَبل أن ... تَفعم كأسَ العمرْ كفُّ القدَر القصائد الوطنية كذلك كان لها نصيب وافر في أغاني أم كلثوم، ومن أشهر ما غنّت عقب الثورة قصيدة "شاعر النيل" حافظ إبراهيم الخالدة: وقف الخلق ينظرون جميعاً ... كيف أبني قواعد المجد وحدي وتحكي أم كلثوم بنفسها عن الشاعر والقصيدة: "مرة طلبوا مني أغنية وطنية، وقالوا لي: كلّفي ما تشائين من شعراء الأغاني لنظم قصيدة في أسرع وقت؛ فلما عُدت للبيت تذكّرت أني أحفظ لحافظ إبراهيم قصائد رائعة، وعكفتُ على ديوانه، وانتقيت قصيدة منه، ورُحت أختار أبياتاً أغنيها من بين أبياتها العديدة، وقبل أن أنام، وفي الرابعة صباحاً، كنت أدندن باللحن لبيته الرائع: أنا إن قدّر الإله مماتي .. لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي وعندما وقفتُ أغني القصيدة، أحسستُ أنني وفّيت ديْناً في عنقي لشاعر لم أرَه؛ ولكن من حقه عليّ أن أحمل روائعه إلى الجماهير العربية. هكذا حاولنا تسليط الضوء على بعض القصائد العربية والشعراء، الذين نرى أن أم كلثوم كان لها دور بالغ الأثر في شُهرتهم الواسعة؛ كذلك مُلَحّنو هذا العصر، كان لهم جانب لا يُمكن إغفاله في كيفية تطويع هذه الكلمات الصعبة لألحان سهلة.