أخطر أنواع المجرمين هو ذلك المجرم صاحب العقيدة، ذلك الذي يعتقد أن عمله الإجرامي العدواني عادل ومشروع، بل ومطلوب إلى حد اعتباره واجبا. ذلك النوع من الجريمة متوفر جدا لدينا فيما يخصّ العنف، فكثير من مظاهر ممارسة العنف بشكليه المادي والمعنوي تكون بدافع "نبيل"! وهذه كارثة، فما يمكن أن يوقف المجرم العادي عن إجرامه هو وجود شيء بداخله يقول له أنه مخطئ، هذا الشيء إما أن يجعله يعود عن جريمته أو أن يهزّ موقفه فيوقعه في خطأ يوقع به وينهي شره. أما ذلك المؤمن بعدالة فعله فهو كالعاصفة الكاسحة التي لا تجد ما يوقفها إلا بصعوبة بالغة، وهو يفعل فعل الدبّ الذي قتل صاحبه! لعلّ أشهر تلك النماذج نموذج "رجل الأمن العنيف" الذي يعتبر أن لجوءه لمختلف صور العنف من تعذيب وضرب وقمع هو أمر واجب عليه، صحيح أن بين هذا النوع من رجال الأمن نسبة كبيرة تمارس عنفها بدافع السادية، ولكن الأكثر خطورة هو من يؤمن بصحة موقفه، والأخطر على الإطلاق من يجمع بين السادية والإيمان بموقفه، فهذا وحش مسلّح شديد الخطورة، اجتمع فيه التعصّب والوحشية وضيق الأفق والنظرة الضيقة للناس، والسادية! من شاهدوا فيلم "البريء" -بطولة أحمد ذكي وإخراج عاطف الطيب- شاهدوا هذا النموذج في شخصية الجندي الريفي "أحمد سبع الليل" الذي يلقّنه رؤساؤه أن يستبيح ممارسة أعتى أنواع العنف ضد المعتقلين السياسيين؛ بحجة أنهم "أعداء الله والوطن". هذه الصورة ليست بعيدة عن الواقعية، ففي شهادة لأحد ضحايا التعذيب الأمني أكَّد أن الضابط الذي تولى تعذيبه كان فور سماعه الأذان ينتفض للوضوء والصلاة بكل خشوع، ثم يعود لمواصلة العنف الوحشي! وأنا نفسي مررتُ بتجرية حين أمسكنا -أنا والجيران- بلصّ واقتدتُه للقسم، وأثناء تحريري المحضر أخذوه ليعود وقد تمزّقت ملابسه وبدت عليه علامات الضرب الوحشي، فقال رجل الشرطة تعليقا على ذلك: "يا باشا إحنا بنظلم صحيح.. بس بنظلم مين؟ بنظلم دُول!". هذا رجل ضعيف الثقافة ضيق التفكير، يرتكب يوميا ببساطة شديدة جرائم في حقّ الإنسانية والأخلاق والقانون، وكل الضوابط، عن إيمان أنه على صواب! وهو -وأمثاله- لا يختلفون عن المتطرف الذي يحمل السلاح ويقتل الأبرياء، فقط هذا الضابط هو من يحمل النجمة على كتفيه والنسر على قبعته، هذا هو الفارق الوحيد!
التجارب تؤكد أن تبني الأمن للعنف يستفز غريزة العنف فينا الأمر قديم هذا الأمر شديد القِدَم مرتبط ببعض طبائع الإنسان منذ نشأته، فبمجرد أن يجتمع في شخص التعصب للرأي والطبيعة العدوانية ورفض فهم الآخر، يستبيح كل ما يمكن وما لا يمكن تخيّله من شرور. والنماذج موجودة. ففي العصر الأموي وخلال عهد يزيد بن معاوية، جرى تمرّد في المدينة فأرسل "يزيد" جيشا بقيادة "مسلم بن عقبة المُري"، اجتاح المدينة وانتهك قدسيتها، وأحدث فيها مذبحة مروّعة، عُرِفَت بوقعة "الحَرّة"، بل ووردت أخبار عن وقوع حالات هتك واغتصاب للنساء بها. "مسلم بن عقبة" لم يراعِ حرمة المدينة المقدّسة، ولا مَن بها من الصحابة والتابعين، فضلا عن الحرمة العامة للنفوس البشرية، وهذا إيمانا منه بصحة موقفه، وحين داهمه الموت وهو في طريق العودة وسُئِلَ عن عمل طيب يرجو لقاء ربه به قال بدون تردد أن هذا العمل "الطيب" هو وقعة "الحَرّة" سالفة الذكر!
والحجاج بن يوسف الثقفي، قَتل مائة وعشرين ألف نفس واعتقل خمسين ألفا آخرين، وضرب الكعبة بالمنجنيق، وقتل الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير، وصلب جثته، وروّع الآمنين، وأحدث من الفساد ما لا يوصف، هذا الرجل كان حين يصلي يخشع ويبكي، وكذلك حين يقرأ القرآن. أي أنه كان نموذجا يستحقّ الدراسة النفسية لرجل يؤمن بالعنف المطلق لحماية الدولة! ومع ذلك كان هؤلاء مجرد "حالات"، لكن مع الوقت استسهل بعض الحكام أسلوب العنف، وسعوا لتحويله إلى "منهج مقبول التطبيق"، حتى وصلنا لمرحلة أن في أيامنا هذه يجري تعليم رجل الأمن القسوة والعنف الماديين والمعنويين بحجة أن حفظ الأمن يتطلب ذلك! التجارب التاريخية تؤكد أن تبني المؤسسات الأمنية للعنف باعتباره أسهل طريق لحفظ الأمن يؤدي لاستفزاز غريزة العنف الكامنة في كل منا، ومن هنا ينشأ العنف المضاد الذي يأخذ صورا فردية ثم ينتقل لمرحلة العنف المنظم المضاد للنظام! والكارثة تكون حين يلقى المتجهون لهذا النوع من العنف أنفسهم في أحضان التيارات المنحرفة مثل الجماعات المتطرفة.
مع الأسف الإيمان بجدوى العنف جزء من الموروث المصري! نعم.. فعودة للتاريخ الأموي حيث عانت الدولة جراء حركة "الخوارج" المسلحة، وعانى كذلك الأفراد الأبرياء، كان كثير من المنضمين للخوارج ينضمّون لا إيمانا بعدالة قضيتهم، بل لمجرد النكاية في الدولة التي قمعتهم.. وكل حركة تمرّدية أو مسلحة عبر التاريخ كان جزء من المنضمين إليها من المتضررين من العنف الأمني الموجّه ضدهم، وفي العصر الحديث شهدت مصر تجربة مماثلة، فكثير ممن انضمّوا لتيارات العنف الديني كانوا من المعتقلين السابقين الذين تعرّضوا للتعذيب أو الاعتقال التعسفي غير القانوني، أو تعرض أحد المقربين منهم لمثل تلك الممارسات. إذن فببساطة.. العنف لا يحمي الأمن، بل يدمّره! بينما يتحقق الأمن بالعدل واحترام حقوق الإنسان، لأسباب كهذه ربط رسول ملك الروم العدل بالأمن حين قال: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر".
البذرة مع الأسف الإيمان بجدوى العنف جزء من الموروث المصري! يبدو هذا في تضمّن أساليب وتطبيقات التربية في البيت والمدرسة كثيرا من مظاهر العنف، تتمثل في العقاب البدني الذي يصل أحيانا لحد العنف المفرط أو التعذيب. كم من جريمة ضرب مفضٍ لموت أو عاهة من أب لابنه أو معلم لتلميذه تبلغنا يوميا؟ منها بالتأكيد ما هو بدافع السادية -كما في جرائم "الدافع الأمني"- ولكن كثير منها يكون عن إيمان بجدوى العنف تربويا.. كرة ثلج هي إذن تتدحرج وتكبر مع نمو الطفل في مجتمع يتقبل العنف كشكل من أشكال "الحماية" و"الرعاية"، طفل كهذا لن يصعب تخيل منهجه الأمني لو أصبح يوما رجل أمن! من هنا يأتي المجرم ممارس العنف عن إيمان ب"أخلاقيته"! (يتبع) مصادر المعلومات: تشريح الشخصية المصرية: د.أحمد عكاشة. ثقوب في الضمير: د.أحمد عكاشة. علم الإجرام والعقاب: د.رمسيس بهنام. ما وراء التعذيب: بسمة عبد العزيز. لماذا لا يثور المصريون: د.علاء الأسواني. هل نستحق الديمقراطية: د.علاء الأسواني. البروج المشيدة: لورانس رايت. القاعدة وأخواتها: كميل الطويل. مصر والمصريين في عهد مبارك: د.جلال أمين. الدولة الأموية: د.محمد سهيل طقوش. البداية والنهاية: ابن كثير. الكامل في التاريخ: ابن الأثير. تاريخ المذاهب الإسلامية: الإمام محمد أبو زهرة. الفرق والجماعات الدينية: د.سعيد مراد. الجماعة الإسلامية المسلحة: د.سلوى سليم العوا. الطغاة والبغاة: د.جمال بدوي.
واقرأ أيضاً عندما يتراجع الدستور والقانون ويتقدّم البلطجية والمجرمون الشعب المصري دائماً "محطوط عليه" عندما يفقد المصري السيطرة على غضبه