من هنا تبدأ الحكاية.. "هو الولد الوحيد في الأسرة، تسبقه بنتان متفوقتان في دراستهما وعلاقاتهما، في صغره لم يكن يحبّ الخروج كثيرا، وإن خرج ترافقه الأم أينما ذهب! فهي تحبّه بشكل جنوني، وهو لا يستطيع الابتعاد عنها ويعتمد عليها في كل شيء. أما والده فكان كثير السفر، لم يره الابن إلا قليلا في سنوات عمره الأولى؛ حيث كان يعمل في إحدى بلاد الخليج، وحين عاد من السفر واستقر ببلده كان كثير الانشغال بعمله، لهذا لم يشعر به الابن... بل قد تكون العلاقة مضطربة بينهما، فهو دائم النقد لابنه، ويعيره بأنه ابن أمه، وأنه لا يختلف كثيرا عن أخواته البنات، بل هنّ أفضل منه في كل شيء!. تعلق الابن بأحد المدرّسين الذين كانوا يحضرون إلى البيت لتقويته دراسيا، وكان يبكي إن تغيّب هذا المدرس يوما عن الدرس أو سافر لأي سبب من الأسباب، وكانت الأم تضطرّ لاستدعاء المدرس كلما واجهتها مشكلة في التعامل مع الابن الذي كثرت مشكلاته في الفترة الأخيرة؛ فهو منذ وصل للمرحلة الثانوية أصبح شديد التمرّد كثير الطلبات، لا يشبع من طلب الأموال، ويريد أن يسهر كثيرا خارج البيت -على غير عادته- ويجلس ساعات طويلة على الإنترنت، واكتشفت أمه أنه يدخل مواقع جنسية للشواذّ، وحين واجهته ثار، وفار، وحطّم أشياء كثيرة في المنزل، ومن يومها والأم تخشى مواجهته. حين طلبت من الأب أن يجلس معه، ويكلّمه ردّ عليها الأب باستخفاف وشماتة: - هي دي تربيتك، مش ده "دودي حبيب مامته"! - ما إنتَ كنت دايما بعيد عنه، وكان نافر منك علشان بتعامله وحش. - كان نفسي يطلع راجل؛ علشان كده كنت باشدّ عليه، لكن مع الأسف دلعك له خلاه بالشكل ده. - الواد كبر وبقى محتاج لك، وأنا ماعدتش قادرة عليه. - اتصرفي معاه، مش كنتِ دايما تمنعيني أربيه، وتقولي مالكش دعوة بيه؟ واكتشفت الأم أن ثمة علاقات مريبة تربط ابنها برفاق أكبر منه سنا، وأنه لا يستطيع الابتعاد عن أحدهم، ويريد أن يبقى معه طوال الوقت، ويضع صوره في حافظة نقوده! وفي إحدى المرات عرفت بطريق الصدفة ما لم تكن تتخيله عن سلوك ابنها الذي كانت تراهن عليه أن يكون سندا لها وللأسرة، فقد رأته هو وصديقه في وضع مشين داخل غرفته". ذلك نموذج لحالة جنسية مثلية، أو ما يعرف بالشذوذ الجنسي، والذي يبدو أن نسبته آخذة في الازدياد في السنوات الأخيرة؛ لأسباب عديدة نذكرها لاحقا.
كيف تنمو الهوية الجنسية في الطفولة المبكرة تكون العلاقة الأساسية للولد والبنت بالأم؛ فهي الحبيب الأول، وفي حين تستمر علاقة البنت وتوحّدها بالأم على نفس الطريق، نجد أن الولد يحتاج لعمل "تحويلة"، حيث يبتعد عن الأم ويقترب من الأب ليتوحد به ويستدمج صفاته الذكورية، وربما لهذا السبب نجد زيادة في حالات الجنسية المثلية (الشذوذ) في الذكور مقارنة بالإناث 2.8% : 1.4% ) إذن فالهوية الأنثوية هي الأصل، أما الهوية الذكورية فتحتاج لتنشئة معينة كي تبرز وتتأكد، وتحتاج لوجود رجل كي يتمّ التوحد معه في مرحلة معينة من العمر، لذلك قالوا "الرجل يربيه رجل". وقد كان سيجموند فرويد -عالم النفس الشهير- يقول إن اكتساب الهوية الجنسية يتم في المرحلة القضيبية من النمو الجنسي (من سن 3 إلى 5 سنوات) حين يدرك الطفل الذكر أن أباه ينافسه في حبّ أمه، فيما يسمّى "عقدة أوديب"، وبما أنه غير قادر على منافسة أبيه، بل يتوقع أن يقوم الأب بخصائه "قطع عضوه الذكري" عقابا له لذلك، فهو يتقمص صفات الأب ويتوحّد معه "التوحد مع المعتدي"، ويظل بداخله حنين عميق نحو المرأة، يظهر في مراحل النضج التالية متوجّها نحو الجنس الآخر لينشأ عنه الحب والزواج. أما البنت فتشعر بالحب نحو أبيها، ولكنها تكتشف أن أمها تنافسها في ذلك الحب، فيما يسمى "عقدة إلكترا" فتتوحد مع الأم خوفا منها، وتكتسب صفاتها، ويظل بداخلها حنين عميق نحو الرجل، يتجلى بعد ذلك في حب ناضج للجنس الآخر يدفع نحو الزواج. وحديثا وجد باحثون آخرون أن الطفل الذكر لا يتوحد مع أبيه فقط بدافع الخوف منه كما ذكر "فرويد"، وإنما قد يتوحد مع الأب بدافع الحب له، خاصة إذا وجد في الأب الشخص المسئول القوي الراعي والمحتوي والمؤثر، ودافئ المشاعر. وقد وجد أن الطفل يكون لديه بعض الإحساس بالأب ربما منذ الشهر الرابع من عمره، وحين يبلغ ثمانية عشر شهرا يستطيع أن يفرّق صور الأولاد عن صور الفتيات، ويفرّق صور الرجال عن صور النساء (طبقا لدراسات La Torre 1979) ومنذ هذا السن يبدأ الطفل في التحرك بعيدا عن الأم، ويقترب من الأب في الحالات السوية، وبداخله شعور بأنه مختلف عن أمه ومتشابه مع أبيه، أما البنت فتظلّ ترغب في قربها من أمها وتشعر بالتشابه معها. رغبة الأم في إبقاء طفلها بأحضانها يشكل أحياناً عازلاً بين الطفل والأب وإذا كان ثمة علاقة بين البيولوجي وبين الهوية الجنسية فهي في جاهزية التركيبات النفسية والعصبية لاستقبال معالم الذكورة أو الأنوثة في مرحلة بعينها من العمر، أما موضوع تأثير الجينات والهرمونات فلم تثبت صحتها، وإنما تبيّن أن من قاموا بالبحث فيها كانوا مثليين أو متحيزين لهم، لذلك كانت نتائجهم مشكوكا فيها ولم تتأكد بإعادة البحث، إنما كان الهدف منها الإيحاء بأن الهوية الجنسية تستند إلى حتمية بيولوجية، وأن الإنسان ليس له فيها خيار، وبذلك تُعفى "المثلي" أو "المثلية" من أي مسئولية تجاه ميوله أو ميولها، وتستبعد الجانب التربوي والبيئي من المسألة. وفي تلك المرحلة الحيوية والمهمة من النمو النفسي والاجتماعي حين يقترب الطفل من أبيه، فإنه يحتاج أن يشعر منه بالحب والقبول؛ حتى يتمكن من استدماج صفاته، وأن يقوم بعملية نقل تدريجي لكل برامج الرجولة من ذات الأب إلى ذاته. وفي الوقت الذي يحاول الطفل أن يتوحد بأبيه ويستدمج صفاته، يتوجب على الأب أن يبارك ذلك ويشجعه ويثني على صفات الذكورة المبكرة في ولده.
إذن فالطفل الذكر يحتاج إلى أن يقطع المسافة بين عالم الأنوثة ممثلا في الأم، إلى عالم الذكورة ممثلا في الأب، وليتم هذا الانتقال بنجاح يحتاج إلى دفع وتشجيع وقبول من الأب، ويحتاج أيضا إلى دفع وتشجيع من الأم، وكلاهما (الأب والأم) في حالة كونهما سويّين يقومان بذلك، وتكون النتيجة أن يكتسب ابنهما صفات وخصائص عالم الرجال ويصبح فخورا بها.
وقد يكون في أحوال أخرى رغبة لدى الأم في أن تستبقي ولدها في أحضانها وقريبا منها فتغريه -بوعي أو دون وعي- بالبقاء قريبا منها، بالدلال وتلبية كل ما يطلب على أمل البقاء معها، وربما تشكّل عازلا بينه وبين أبيه. في المقابل قد تكون صفات الأب غير مشجعة للطفل على أن يبتعد عن عالم الأنوثة، ويدخل في عالم الذكورة، كأن يكون الأب جافّ المشاعر أو قاسيا في تعاملاته، أو كثير الإهانة والنقد والتوبيخ للطفل أو مبتعدا عنه (جسديا أو وجدانيا)، أو رافضا له أو متصارعا معه وكأنه منافس له على الذكورة في البيت، أو خائفا منه أن يسلبه القيادة في يوم من الأيام، أو يشعر بالغيرة منه حيث ينافسه على قلب الأم، أو مشغولا عنه. والأب يعلّم الطفل أن بإمكانه أن يقترب منه ويبتعد بعض الشيء عن أمه، ومع هذا يظل محتفظا بعلاقة حميمية مع كليهما، ويظل محتفظا فوق هذا باستقلاله كإنسان له إرادة واختيار حتى في هذه المرحلة المبكرة من العمر، إذن حين تنجح هذه العلاقة الثلاثية (الطفل - الأم - الأب) في التوازن ينشأ الولد سويّا، ويكتسب الهوية الذكرية في سلاسة، ويستبقي في داخله الحنين إلى الأنثى، ولكن مع أخرى غير الأم ينتظر التكامل معها في مرحلة ما من مراحل نموه. وهكذا كلما كانت معالم الرجولة في الأب واضحة ومؤكدة كانت درجة التوحد معها قوية، خاصة إذا ما شعر الطفل بالقبول والحب من أبيه، أما إذا كانت معالم الرجولة باهتة لدى الأب فإن الطفل قد لا يجد فروقا كبيرة بين أبيه وأمه، فينشأ في حيرة بين الهوية الأنثوية والهوية الذكورية الباهتة، ويصبح الأمر أكثر صعوبة حين تكون الأم لديها بعض سمات الرجولة كالخشونة والسيطرة.
ومن خلال درجات الأنوثة والذكورة في الأم والأب تنشأ درجات متباينة من الهوية الأنثوية أو الذكورية أو المختلطة لدى الطفل. ومن هنا يأخذنا الحوار إلى حديث جديد نتعرف فيه بالحالات التي فشلت فيها رحلة التحول إلى عالم "الرجولة" فانتظرونا في الحلقة القادمة،،، عن موقع أون إسلام