"الأدب اليهودي".. "الأدب الصهيوني".. "الأدب الإسرائيلي".. قد تبدو كلها أسماء متنوعة لنوع واحد من الأدب، لكن الحقيقة أن لكل منها دلالة مختلفة. الأدب اليهودي في موسوعته عن اليهود واليهودية والصهيونية، يرفض الدكتور عبد الوهاب المسيري هذا التصنيف؛ لكونه تصنيفا تعميميا يخرج بالعمل الأدبي عن الأبعاد الحقيقية المستخدَمة للتصنيف الأدبي، لهذا فإن الأرجح هو استخدام وصف صاحب العمل بأنه "أديب من الجماعات اليهودية"، وعدم انسحاب هذا الوصف على عمله؛ فوصف العمل باليهودية على أساس ديانة صاحبها يخرج به عن تصنيفه على أساس موضوعه أو مدرسته الأدبية... إلخ. كما نجد أن الأعمال الصادرة عن أدباء أو مفكرين يهود لا ينبغي أن تعبّر بالضرورة عن مسائل يهودية، فمن الوارد جدا أن يصدر عن كاتب يهودي أمريكي -مثلا- عمل بلا أية شخصية يهودية ولا أية علاقة باليهودية، وحتى إن تناول العمل موضوعا مرتبطا بجماعة بشرية يهودية فإنه يبقى مع ذلك منتميا للمجتمع الأكبر الذي يضمّ تلك الجماعة، ما دام قد تأثر بالمدارس الأدبية لذلك المجتمع، وهو ما حدث واقعيا من كتّاب مثل "كافكا" و"يعقوب صنوع" و"سول بيلو" و"فيليب روث".. فالأول تشيكي، والثاني مصري، بينما الآخران أمريكيان، وتصنيف أعمال أحدهم على أنها "يهودية" يخلق فوضى في تصنيفات الأعمال الأدبية، ويفتح بابا لتصنيفات من نوعية "أدب مسيحي" و"أدب إسلامي".. وبالطبع فإن هناك من يسعى دائما لفرض مثل تلك المسميات، في محاولة للصبّ في صالح أكذوبة الخصوصية اليهودية، وإضافة "تراث يهودي" وهمي، الأمر الذي ينمّ عن خواء عميق في المحتوى. الأدب الصهيوني أما وصف العمل الأدبي ب"الصهيوني" فهو أمر يمكن قبوله بتحفّظ وحذر، ولكن ليس من منطلق اعتناق كاتبه الصهيونية، بل من تضمّنه أفكارا تعبّر عن هذا المبدأ، بغضّ النظر عن الانتماء الديني للكاتب -فالصهيونية مبدأ قد يعتنقه غير اليهود- كالكاتبة المسيحية "جورج إليوت" التي كتبت رواية Daniel Deronda التي تحمل مضمونا صهيونيا واضحا، إذن فحتى اعتناق الكاتب للصهيونية لا يكفي لتصنيف عمله بأنه كذلك ما لم يتضمّن العمل ما يشير لذلك بوضوح. ولأنه ليس كل يهودي صهيونيا، كما أنه ليس كل صهيوني يهوديا، فإن اعتبار المصطلحين متساويين هو خطأ فادح، خاصة مع وجود كتابات يهودية مضادة للصهيونية! والحقيقة أن تصنيف عمل هذا الكاتب أو ذاك على أنه "أدب صهيوني" يتطلب دقّة شديدة في فهم المضمون -الظاهر والمبطّن- بحيث لا يكون العمل الصادر عن كاتب يهودي أو حتى صهيوني متهما بالصهيونية حتى يثبت العكس، كما عامل بعض النقاد بعض أعمال "فرانتز كافكا" بشكل بلغ حَدّ لَيّ أعناق رمزيات تلك الأعمال! الأدب الإسرائيلي كالعادة يهوى البعض خلط الأوراق، فيتحدثون عن كل أدب عبري اللغة باعتباره أدبا إسرائيليا، والإشارة واضحة بالطبع، فمن مصلحة دعاة "الإسرائيلية" أن يضيفوا لمجتمعهم "المصطنع" تراثا ما، والحقيقة أن كثيرا من الأعمال المكتوبة بالعبرية لا علاقة لها بإسرائيل، بل إن بعضها يسبق نشأة الكيان الصهيوني بقرون، مثل أعمال بعض الأدباء اليهود المنتمين للدولة العربية في الأندلس، حين كتبوا بالعبرية أعمالا تأثّرت بالمقامات والغزليات العربية، بل يمتد الأمر لأعمق من ذلك تاريخيا، للنصوص التوراتية والأسفار والمزامير المكتوبة منذ القرون الأولى لليهودية، ولا يمكن اعتبار ذلك أدبا إسرائيليا، حيث إنه ينتمي للتراث الديني اليهودي، أو لتراث المجتمعات التي ضمّت مبدعي تلك الأعمال، سواء كانت مجتمعات يهودية خالصة كمملكة يهودا، أو مجتمعات عاش بها يهود كأقليات دينية. وعودة للدكتور عبد الوهاب المسيري، حيث يؤكد أن الأدب الإسرائيلي يبدأ عمره من العام 1960، حيث كانت علامة ميلاده تعبيره عن أفكار الجيل الذي وُلِدَ في أرض فلسطين من المستوطين المهاجرين لها، ويتضمّن هذا الأدب تأثيرات انتقال اليهود من مجتمعاتهم الأصلية لمجتمع المهجر، وما صاحب ذلك من مخاوف من المجهول، وتساؤلات حول المستقبل، وتكهنات حول شكل التعايش مع الأماكن والبشر. فهو إذن لم يتحوّل لمجرد امتداد للأدب المكتوب بالعبرية لبعض المهاجرين اليهود، وإنما هو أدب نشأ مستقلا بذاته في المجتمع الناشئ على الأرض المحتلة، وبرزت فيه أسماء مثل "ديفيد أفيدان"، "حانوخ لفين"، "ناثان زاخ"، "يونا فولاخ"... وغيرهم. ومرّ هذا الأدب ببعض مراحل التأثر، كتأثير موجات الهجرة الأولى، والتي حملت تأثيرات آداب بلادها؛ فالروس حملوا تأثير دستويفسكي وتشيكوف، والألمان جاءوا بتأثيرات الأدباء الألمان، وكذلك الإنجليز والفرنسيون والبولنديون... إلخ. وما مزجوه بين تلك التأثيرات وتأثيرات مشاعر الأمل في الحياة الجديدة والخوف من التعلّق بآمال وطموحات واهية، ثم الموجات التالية التي اتّصف أدبها بالثقة في المبادئ والوعود الصهيونية، وظهرت التيارات الأدبية المختلفة، حتى تلك المعارضة لإسرائيل ذاتها! والمثير للدهشة والجدل ظهور طائفة من الكتّاب العرب الفلسطينيين يكتبون بالعبرية، مثل "أنطون شماس"، "سهام داوود"، "توفيق زياد"، و"نعيم عرايدي"... وهم جميعا كانوا مصنّفين كأدباء عرب يعيشون في إسرائيل، ولكن اتجاههم للكتابة بالعبرية -إلى جانب العربية بالطبع- بدأ منذ سبعينيات القرن العشرين، بل كان لدى بعضهم مهارة في توظيف اللغة العبرية أذهلت الإسرائيليين أنفسهم، كما فعل "أنطون شماس" في روايته "أرابيسك" الصادرة سنة 1986. ختام يقول الكاتب "نائل الطوخي" -المهتمّ بالأدب الإسرائيلي- إن بعض المتحمّسين بشدة للقضية العربية يرفضون الاعتراف بوجود أدب إسرائيلي، ويرفضون الحديث عنه، رغم أن العقل يقول بأن علينا معرفة كافة مظاهر حياة عدونا، خاصة مع شدة تأثير المتغيرات في أدبه، مما يعني أن مطالعة ذلك الأدب بالقراءة الواعية يفيد بشدة في قراءة مكنونات هذا المجتمع. وبالفعل، ثمة جهود لذلك، بعضها فردي كمدوّنة الكاتب "نائل الطوخي" والتي تحمل اسم "هكذا تحدث كوهين"، أو كقيام بعض دور النشر، ومنها المركز القومي للترجمة، بترجمة بعض الأعمال الإسرائيلية للعربية، لتقديمها للقارئ المصري -والعربي- ليتعرف بشكل أكبر على المحتوى الفكري للعدو.