قانون الاحتمالات يعلن براءته التامة مما حدَث ويحدُثْ لأصوات المعارضة ومنابر الفكر المستقل في مصر.. كنا نظن أن منع الإعلامي القدير حمدي قنديل من الظهور في الإعلام الحكومي أو المستقلّ مجرد حالة خاصة، تنطبق على كلماته القاسية التي لا تضاهيها كلمات، ونقده العنيف القائم على رصد خطايا وطن تعفّنت بنيته التحتية من الفساد، ونخر السوس أعمدته، حتى ليكاد يسقط فوق رؤوس الجميع، لكن الأمر صار يمتدّ ليطول الجميع في عملية حصد واقتلاع لكل ما هو معارض -محترم أو غير محترم- من جذوره.. إبراهيم عيسى تتمّ تنحيته من برنامج "بلدنا بالمصري" على قناة ON.TV، وبعدها بأيام معدودة يقال من رئاسة تحرير جريدة "الدستور" التي نهضت بسقف الحرية في مصر، لتصدر بعدها الجريدة نفسها بمعارضة مزيفة، وصفحات مهترئة خالية من الروح والحياة، وفي التوقيت نفسه يتمّ التعنت مع قناة "أوربت" ليقف بثها ويقف معه برنامج "القاهرة اليوم" الذي تربّع على عرش ال"توك شو" في مصر والوطن العربي، ويجلس مقدمه عمرو أديب في البيت، بعد أن ظل لسنوات المتحدّث الأول باسم رجل الشارع العادي أو "الغلبان" إن شئنا الدقة، ليكون إسكاته وتقليص حريته الإعلامية هي المكافأة للرجل الذي جمع 50 مليون جنيه لمتضرري السيول، وظل يجمع كل ليلة قدر في شهر رمضان المبارك ملايين الجنيهات لصالح الفقراء والمساكين! بعدها بأيام قلائل يتم إيقاف الإعلامي علاء صادق ومنعه من الظهور على التليفزيون المصري؛ لمجرد أنه انتقد وزير الداخلية، وعلّق في رقبته ما حدث لجندي الإطفاء والدفاع المدني المسكين الذي تكالب عليه حفنة من المتعصّبين التونسيين في مباراة فريقي الأهلي والترجي التونسي باستاد القاهرة الدولي، وظلوا يدهسونه ويركلونه كالكلاب المسعورة لدقائق طويلة على الهواء مباشرة، وأمام العالم كله، دون أن يحرّك رجال الأمن المصريون بالاستاد ساكناً، ليشهد العالم كله تخاذل "مصر" مع عساكرها "الغلابة"، وهوان كرامة المصريين أمام أشقائهم العرب، وعندما يقول إعلامي رياضي -لم يعارض النظام أو الحكومة طوال حياته- كلمة حق عابرة، ويذكر فيها -عن حق واستحقاق- سيرة "البيه الوزير" يكون مصيره المحتوم هو الإيقاف. وقبل أن نفيق من حملة الاغتيال الإعلامي لكل من تسوّل له نفسه المساس بمسئولين محددين، أو الخوض في موضوعات معينة، ها هو جهاز تنظيم الاتصالات يمنع شركات البثّ الفضائي في مصر من تقديم خدمات البثّ المباشر للقنوات التليفزيونية الخاصة، وعدم السماح لتلك القنوات بالبثّ المباشر من مصر إلا من خلال استديوهات مدينة الإنتاج الإعلامي الحكومية، حتى يتمّ التحكم فيها، وتضييق الخناق عليها، ووضعها تحت الميكروسكوب، وبالطبع أكثر القنوات المعنية بهذا القرار قنوات مثل "الجزيرة" و"العربية"، إذ يكفي في فترة الانتخابات التشريعية والرئاسية أن يخبرها البيه المسئول -أي مسئول- بعدم وجود استديوهات شاغرة لبثّ تغطية تلك الانتخابات! وفي نفس سياق الحملة الشرسة على المعارضة، انفردت جريدة "الوفد" مؤخراً بنشر تقرير خطير عن أسعار البلطجة، وكيفية توظيفها ضد المعارضة المصرية في الانتخابات القادمة.. الحقّ يقال فإن من شدة خطورة المعلومات الواردة في التقرير، ظننت أنه مجرد تقرير ساخر أو خيالي، لينبعث صوت معترض بداخلي، غير مصدّق أن الأمور قد تفاقمت إلى هذا الحد، قبل أن أتأكد يقيناً أن التقرير -بكل أسف- حقيقي مائة بالمائة، ومستنداً على دراسة ميدانية تحت عنوان "كرسي البرلمان وخفايا عالم البلطجيات والسيناريو المتوقّع"، وأن من قام بإعداد تلك الدراسة رجل أمن رفيع المستوى اسمه "رفعت عبد الحميد"، ويحمل رتبة "لواء"، ويعمل حالياً خبيراً في العلوم الجنائية، لذا اسمحوا لي أن أورد لكم مقتطفات مما جاء بالتقرير مع كامل التأكيد على واقعيته:
ردح سادة (نشيد/ تتشالي تتهبدي) 800 جنيه.. ردح + قلة أدب 1600 جنيه.. فضيحة بجلاجل (داخل نطاق العمل) 3000 جنيه.. هتك عرض 5000 جنيه.. ضرب بالروسية 400 جنيه.. شنكل حرامية 200 جنيه.. ضرب يفضي إلى موت 15000 جنيه.. تحرّش جنسي 700 جنيه.. ضرب بعاهة 6300 جنيه، استعمال آلة حادة 4000 جنيه.. تشويه بموادّ كيماوية 12000 جنيه.. مهاجمة مجموعات من الناس 25000 جنيه.. مهاجمة بلطجية المرشح المنافس 25000 جنيه.. مقاومة السلطات 6000 جنيه.. الترويع والتخويف فقط (اتصال تليفوني ورسائل تهديد) 1000 جنيه.. إسقاط مرشح منافس وجرّ شكل وإصابات مفتعلة 47000 جنيه.. تخويف أنصار مرشح منافس 3000 جنيه.. هتّيفة وتصفيق وكومبارس 50 جنيها للفرد.. تقطيع لافتات الخصم 30 جنيها لكل حالة.. منع مؤتمر الخصم 10000 جنيه.. إهانة بالموسيقى والأغاني (باودّعك آخر وداع) 500 جنيه في الساعة.. بودي جاردات "كونج فو" لزوم الفشخرة 270 جنيها للفرد.. والدفع كاش مقدماً، والأسعار شاملة الحبس الاحتياطي، والعلاج بالمستشفيات، والدفع بالدولار؛ لكوتة المرأة وسيدات المجتمع الثريّات، وهناك أسعار خاصة وتخفيضات هائلة للوزراء الحاليين والسابقين والحزب الوطني الديمقراطي، وأسعار أخرى ساخنة لرجال الأعمال المرشحين لأول مرة، وبالدولار لمن سبق له الجلوس على الكرسي، بينما تبلغ أسعار أحزاب المعارضة والمستقلين 3 أضعاف الوطني، وتصل لخمسة أضعاف مع الجماعات المحظورة، ونواب قرارات العلاج، والمتهمين في قضايا المال العام، وهناك أسعار خاصة للجملة والتنفيذ في وقت واحد!
هل يملك أحد أن يقنعني بعدم وجود علاقة بين منع وتكميم كل هؤلاء الإعلاميين والمعارضين في توقيتات متتالية، وبين اقتراب انتخابات مجلس الشعب والرئاسة، التي وصلت فيها أسعار البلطجة إلى هذا الحد، وكأن هناك تسعيرة رسمية للبلطجة المشروعة في مصر؟! أهكذا تطبق الحكومة وعودها بتوفير الشفافية وعدم التزوير في أهم انتخابات تشريعية ورئاسية في تاريخ مصر، الذي كان من المفترض أن يشهد لحظة "انقلاب" وتغيير للمسار؟ أهذا هو أزهى عصور الديمقراطية الذي يحياه المصريون؟ أهذا هو البديل الديمقراطي لعهود ديكتاتورية استبدادية قيّدت حريات المواطنين سابقاً؟ صار الأمر مخيفاً ومرعباً، وصار القلم الذي أكتب به يرتجف؛ خوفاً من أن تكون هذه آخر مقالاته، في عصر لم تعد به أي معايير واضحة وصريحة، وديمقراطية تبيح لك فعل وقول ما تريد، بينما يملك "الكبار" أيضاً كيفية اتخاذ رد الفعل كما يريدون، لتستيقظ من نومك وتكتشف أن جريدتك التي تكتب بها أو تقرأها قد تغيّرت سياستها التحريرية، وأن برنامجك المفضل قد تمّ إلغاؤه، وأن قناتك التي تحرص على متابعتها قد اختفت من على الخريطة، وكله دون تورط مباشر من الحكومة التي صارت تنتهج منهج "الخزوقة" ودقّ الأسافين من تحت لتحت، بينما تبتسم في وجهك بحب وحنان وسماحة، وسيادتك ملهي بارتفاع أسعار اللحوم، والدواجن، والطماطم، والفاصوليا، وانقطاع الماء، وزيادة أسعار الكهرباء، والاختناق المروري، لتمضي خطة خداعهم الاستراتيجي، ويتمّ تنفيذها بالحرف الواحد، وأنت ما زلت مشغولاً وغارقاً حتى أذنيك.