قام "إيد ميلباند" -وزير الطاقة البريطاني السابق- بطي صفحة توني بلير وسياسته نهائياً، حينما تم انتخابه في 25 سبتمبر الجاري لرئاسة حزب العمّال البريطاني. انتخاب "ميلباند" أتى على حساب شقيقه الأكبر "ديفيد ميلباند" -وزير الخارجية السابق- بينما كانت بريطانيا كلها تنتظر أن ينتخب "العمال" الأخ الأكبر، فإن "العمال" فجّروا قنبلة من العيار الثقيل عبر انتخاب الأخ الأصغر. "العمال" انتخبوا "ميلباند"؛ لأن الأخير أوضح خلال برنامجه الانتخابي نيته إعادة الحزب إلى أقصى اليسار، وهو ما يعني فعلياً الخروج عن نهج "بلير" الذي صاغه عام 1994 حينما تولّى رئاسة الحزب، ونجح بهذا النهج في الوصول إلى سدة حكم بريطانيا في انتخابات 1997 بنسبة 45%، وهي نسبة مذهلة بالنسبة لأسلوب بريطانيا الانتخابي الصعب، إضافة إلى صعوبة حصد هذه النسبة في دولة ديمقراطية. وكان نهج "بلير" يُسمّى "الطريق الثالث"، وهي سياسة ابتكرها السياسي الأمريكي بيل كلينتون، وخاض بها انتخابات الرئاسة في نوفمبر 1992، ووصل بها إلى كرسي الحكم، وتسعى إلى دمج قيم الرأسمالية والاشتراكية عبر ما سُمّي ب"وسط اليسار". وحينما نجح بيل كلينتون في إدخال الحزب الديمقراطي الأمريكي إلى البيت الأبيض بعد غياب 12 سنة، رأى "بلير" أن هذه السياسة هي القادرة على إيصال "العمّال" إلى الوزارة البريطانية بعد غياب 18 سنة، وهو ما حدث بالفعل. وبعد "بلير" بعامين تقريباً، طبّق هذه النظرية السياسي الاشتراكي الألماني "جيرهارد شرودر"، ونجح في الانتخابات الألمانية. واعتبر نهج "الطريق الثالث" هو أبرز فكر سياسي سيطر على العالم في التسعينيات، أو ما سمّي بحقبة ما بعد الحرب الباردة، وانهيار الفكر الشيوعي. وبعد "بلير" استمر خلَفه "جوردن براون" في وضع حزب العمّال في وسط اليسار، وكان "ديفيد ميلباند" ينوي إكمال مسيرة "بلير" و"براون"، ولكن الأخ الأصغر "إيد ميلباند" كان له رأي آخر، تمثّل في رفض هذه السياسة الوسطية التي أضاعت هوية اليسار العتيدة، وأنه حان الوقت لعودة "العمال" إلى مكانهم الطبيعي في أقصى اليسار. ويمكن القول بأن انتخاب البريطانيين لزعيم المعارضة من أقصى اليسار يعكس توجّهاً جديداً جرى في عدد من الانتخابات التي جرت في العالم خلال الفترة الماضية، ألا وهو رفض الوسطية السياسية، فتجد نتيجة الانتخابات مقسّمة بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، مثلما جرى في هولندا والسويد، حينما انتخبت القوى السياسية المناهضة للأجانب للمرة الأولى بهذه الكثافة، أو ما جرى في ألمانيا حينما خرج الحزب الاشتراكي بقيادة "فرانك شتاينماير" من الوزارة الائتلافية لصالح اليمين المحافظ، وفي استراليا استمرّ "العمال" يسيطرون على الحكومة. "ميلباند" وفقاً لجده وأبيه يهودي.. بينما تؤكد بعض المواقع الإلكترونية أنه ملحد ولعلّ هذا الانقسام سببه الأزمة الاقتصادية التي جعلت الناخب الغربي يجنح إلى التشدد السياسي، فمن يرى أن اليمين قادر على إخراج البلاد من التردي الاقتصادي يسارع إلى انتخاب أكثر الأحزاب ميلاً إلى اليمين، بينما الناخب الذي يرى أن الحل في اليسار يسارع إلى انتخاب أكثر القوى السياسية يسارية، مما خلق حالة من التشدد والانقسام في أوروبا بأسرها، وما انتخاب المتشدد اليساري إيد ميلباند لرئاسة حزب العمال البريطاني إلا حلقة جديدة من حلقات هذا التشدد والانقسام الذي جرى في العالم الغربي بعد الأزمة الاقتصادية الأبرز منذ سبعة عقود. ومن المتوقع أن يكون "ميلباند" هو المنافس الأساسي لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون خلال الانتخابات البريطانية العامة المقرر عقدها في 11 يونيو 2015، ويأمل "العمال" أن يعيد إيد ميلباند "العمال" إلى حكم بريطانيا مرة أخرى. إيد ميلباند في سطور وُلد إدوارد ميلباند في 24 ديسمبر 1969 بالعاصمة البريطانية لندن، جدّه هو اليهودي البولندي "صامويل ميلباند" الذي حارب في الحرب البولندية - السوفيتية (1919-1921) ثم فرّ إلى بلجيكا، وعقب اجتياح القوات النازية لأوروبا فرّ "صمويل" مجدداً إلى بريطانيا، ومعه ابنه "أدولف ميلباند". وفي بريطانيا قام "أدولف ميلباند" بتغيير اسمه إلى "رالف ميلباند"، ويعتبر من أهم قادة الفكر الشيوعي البريطاني خلال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وناهض الحرب الأمريكية ضد فيتنام قائلاً: "الولاياتالمتحدةالأمريكية ترتكب "كتالوج" من الفظائع في فيتنام من أجل الكذبة الكبرى"، وناهض تأييد الحكومة العمالية لهذه الحرب، ويُعتبر من أكثر رجالات حزب العمال تشدداً وشيوعية. وهكذا وفي بيت هذا الشيوعي المتشدد، نشأ زعيم المعارضة البريطانية الجديد إيد ميلباند بسياسته اليسارية القوية، انتخب عضواً بمجلس العموم البريطاني عام 2005، وتقلّد فوراً منصباً وزارياً، فأصبح وزير الدولة لشئون "دوقية لانكستر" ما بين عامي 2007 و2008، ثم وزيراً للطاقة وتغير المناخ ما بين عامي 2008 و2010. ويعتبر ديانة ميلباند لغزاً؛ فالرجل وفقاً لجده وأبيه يهودياً، وحينما كان أخوه ديفيد ميلباند وزيراً للخارجية أعلن أن الوزير الشاب يهودي، ولكن اليوم وبعد خروج الاثنين من مجلس الوزراء فوجئ البعض بأن المواقع الإلكترونية تؤكّد أن ديفيد ميلباند ملحد، بينما اختفت تماماً كافة المعلومات عن ديانة إيد ميلباند. ولم تكن هذه هي الحالة الأولى التي جرت هذا العام، فحينما كان رئيس الوزراء الحالي ديفيد كاميرون زعيماً للمعارضة أعلن أنه يهودي، ولكن فور توليه الوزارة أعلنت وسائل الإعلام أنه مسيحي!