في الصباح استيقظ في موعده، تحرّك من سريره ببطء وجلس على كرسيّه المفضل، سمعت خطواته الواهنة وسط قرقعة الأواني التي تغسلها، التفتت وكشفت الغطاء عن البرّاد الذي تركته من ربع ساعة على نار هادئة تحسباً لاستيقاظه؛ فوجدته يغلي، صبت له الشاي في فنجانه الفخاري ذي الورود الحمراء وقدّمته إلى يديه وقالت: صباح الخير. ****** منذ فقد بصره من ثلاث سنوات.. لم تعد تضع له الأشياء على الترابيزة كما كان يحدث؛ بل تعطيها في يده مباشرة.. لم يكن يتقبل العطاء إلا منها، كان يرفض أن يدلّه أي شخص أياً كان على أي طريق، كان يفضّل أن يدهسه قطار على أن يسحبه الأغراب من يده كالأعمى.. هي الوحيدة التي كان يستسلم لاحتضانها لذراعه، ووافق أن يذهب معها إلى أماكن جديدة لم يزُرها وقتما كان مبصراً، كان يتصرف كمبصر ويستمتع باندهاشها من طول البرج وجنائن القلعة. سبعون عاماً من عمرهما في القاهرة ولم يدركا أن فيها برجاً وقلعة.. خمسة وأربعون عاماً من الزواج وابنان وأحفاد ولم يدخل هذه الأماكن إلا عندما أراد مكافأتها على خدمتها له أيام المرض، ويريها ما لم يره ولم يعُد لديه أمل في أن يراه. ****** سيصلّي الظهر.. بعدها ستحضر مكعبات التفاح المسلوق، وتعطيه الطبق ليتناول فطوره بتؤدة وفم فرغ من كل أسنانه يأكل التفاح. جالسة هي على كنبة أمامه تتأمله، تجري دمعة على خدها عندما تتذكر ألمه في الليالي، وجهه شاحب جداً اليوم، الأمراض تكاثرت عليه في الفترة الأخيرة، قررت أن تذبح له بطتها العزيزة، إنه يأخذ الكثير من الأدوية وتلزمه التغذية.. هكذا تحادث نفسها! دمعة أخرى تسقط، فيقطع السكوت بحنو بالغ ويسألها: لماذا تبكين؟ انتفضت من داخلها "كيف عرف؟!" سكتت.. فسكت هو الآخر. ****** قضت النهار كله في طهي البطة وإعداد الأرز الذي يسميه أحفادها "معجن"، لا يهم إن كان لا يعجبهم، المهم أن يستطيع هو ابتلاعه بسهولة. قام من صلاة العصر.. وجلس في كرسيّه ومد يده إلى جانبه يمسك الراديو الترانزيستور ليسمع الأخبار كعادته، أخذ يقلّب في القنوات.. وفاجأته الأزمة!! تأوّه.. سقطت الأشياء من يديها، وجرت عليه، لم يكن قادراً على الكلام؛ ولكنه كان يتمتم بالشهادتين كعادته في نوبات التعب الشديدة، وضع رأسه على صدرها.. ومات. ****** مضت أعوام كثيرة... وهي تعيش من بعده.. لا يدرك أبناؤها ولا أحفادها أن لها رغبات في رجل سبقها إلى دار الحق، أن لها قلباً يشتاق للقاء حبيبه. في ليالي وحدتها تتذكر آخر ليلة بينهما، تتذكر لمسته ليدها وضغطه عليها وتبكي رحيله. ****** تتذكر هذه الأشياء كلها.. رغم أن الزهايمر لم يترك لها الفرصة؛ لتذكر العديد والعديد من الأشياء الأخرى؛ مما جعل أبناءها وأحفادها دائمي السخرية منها. ****** في هذه اللحظات المقدسة.. عندما تجمع شتات ذهنها وتعتصر عقلها، تتذكر كل ملامحه وخطوط جسده.. تغلق عيناها عليها.. وتنتظره أن يأتي ليأخذها كعادته.