نعمة الوطن العربي -ونقمته- أن كل جناح منه تتوفّر به عناصر جذبه الخاصة بشكل لا يقلّ كمّاً وكيفاً عما لغيره من أجنحة ومناطق الوطن العربي الكبير، سواء تمثّلت تلك العناصر في موقع جغرافي متميّز، أو ثروات معدنية وبترولية، أو سيطرة على معابر مائية مهمة. ربما لذلك يلاحظ قارئ التاريخ أن المنطقة العربية أكثر منطقة في العالم تعرّضت لمحاولات الغزو والاستعمار والسيطرة. والناظر بسطحية للقطاع الخليجي من العالم العربي يراه عالماً خاصاً منفصلاً عنا بكل ما فيه من مظاهر الترف المفرط والثراء الفاحش والإغراق في الاستهلاكية "السفيهة"، ومن التناقض بين "انتحال" الطابع الإسلامي للمجتمع، والسير في ركاب أمريكا، الدولة التي يعتبرها الإسلاميون الأصوليون العدو الأكبر للإسلام. بينما المتأمل بتركيز للساحة الخليجية يُدرِك أنها بمثابة ثغرة كبيرة في أمننا القومي علينا وضعها تحت أعيننا واعتبارها شأننا الخاص. لماذا؟ إجابة هذا السؤال تتطلّب أن أقصّ عليكم قصة صغيرة لكن مهمة. قصة صغيرة: توارث الروس -عبر الأجيال- نصيحة القيصر بطرس الأكبر (1672-1725) بأن يسعوا للوصول إلى "المياه الدافئة"، أي أن يمدوا نفوذهم لسواحل المتوسط والخليج والمحيط الهندي. وبالفعل وقعت عدة محاولات روسية لذلك، سواء من خلال المحاولات الروسية لغزو تركيا خلال العقود الأخيرة للحكم العثماني، أو محاولة السيطرة على إيران في منتصف القرن العشرين خلال عهد الشاه السابق، وأخيراً عملية غزوهم لأفغانستان في 1979 فيما اعتبره بعض المراقبين خطوة لغزو باكستان أو إيران بعد ذلك، الأمر الذي كان يمثّل كارثة حقيقية للمصالح الأمريكية في المنطقة. فأمريكا تعرف أن مَن يسيطر على هذا الجانب من الخليج العربي يكون قد سيطر على مضيق "هرمز"، الذي تمر عبره يومياً كميات من البترول تقدّر بالملايين، ويكون كذلك على مرمى ضربة مدفع من الجانب العربي من الخليج، والذي تشغل أغلبية مساحته السعودية التي لا تكفي طاقتها السكانية لتكوين جيش يستطيع تحقيق الحد الأدنى من الحماية للدولة، مما يعني سهولة اجتياحها من قِبل القوة السوفيتية العاتية، آنذاك. هنا كانت فكرة الأمريكيين إذن في إقناع الدول الإسلامية -بالذات السعودية ومصر- بمساعدة الأفغان المقاومين للاحتلال السوفيتي، ثم بعد ذلك انتهاز أول فرصة مع غزو العراق للكويت (1990) وحرب الخليج (1991) لزرع الوجود العسكري الأمريكي الصريح في جسد السعودية -والخليج عامة- بمباركة كاملة من بعض الأنظمة كالسعودي والكويتي والقطري. وتركت تلك الأنظمة الصقر الأمريكي يبيض ويفرخ على أراضيها بمباركتها ودعمها بل وطلبها أيضاً، حتى تحوّلت تلك الأراضي إلى قواعد انطلاق للهجمات الأمريكية على العراق، حتى سقوط نظام صدام حسين واحتلال الأمريكيين لدولة عربية كاملة تمثل البوابة بين العالم الإسلامي العربي والعالم الإسلامي غير العربي! وبذلك نفّذت أمريكا نصيحة بطرس الأكبر لصالحها، وسيطرت على المساحة الكبرى من الخليج العربي، ولم يبقَ أمامها سوى فرض سيطرتها على الجانب الإيراني منه ليتحوّل الخليج إلى بحيرة أمريكية. الإنجاز الأمريكي لم يكن ليتحقق لولا تعاون الأنظمة الخليجية معه، فالسعوديون هم الذين طلبوا تدخّل الأمريكيين صراحة لحماية السعودية من المخطط العراقي لغزوها بعدما اجتاح العراقيون الكويت. ثم بعد تحرير تلك الأخيرة ترسّخت لدى الأنظمة سالفة الذكر فكرة أن حمايتها لا تكون إلا باستمرار الوجود الأمريكي. ودعونا هنا نلاحظ أن الأمريكيين هم الذين ساهموا من قبل في صناعة جزء لا يستهان به من قوة الجيش العراقي من خلال تزويدهم العراق بالسلاح خلال الحرب العراقية الإيرانية، أي أن أمريكا فعلت كالدجّال الذي يأتي بالثعابين في كمّه ويطلقها في بيتك في غفلة منك، ثم يدّعي أمامك القدرة على طرد الثعابين، ويُشعِرَك أنها كانت ستلتهمك لولا نجدته لك، ولكن ذلك الدجال لم يحمل ثعابينه ويرحل، بل بقي عندك بعد أن أقنعك أن وجوده هو الضمان الوحيد لحماية بيتك من الثعابين. نعمة الوطن العربي -ونقمته- أن كل جناح منه تتوفّر به عناصر جذبه الخاصة بشكل لا يقلّ كمّاً وكيفاً عما لغيره
العلاقات الجيدة مع الخليج مسألة أمن قومي الخليج شأن مصري.. لماذا؟ ربما يسأل البعض: وما علاقة القصة السابقة بأمننا القومي؟ والإجابة هي أن ما يجري على الضفة الأخرى من البحر الأحمر الذي يحدّ معظم جانبنا الشرقي هو بالتأكيد يمسّنا، ولننظر للأمر في نقاط لتكون أفكارنا أكثر تنظيماً: 1- الاهتمام الأمريكي بمنطقة الخليج قديم، وكذلك نشاط الأمريكيين فيها، ولكن هذا النشاط تضاعف فيما بعد حرب أكتوبر، والمحنة التي مرّ بها الغرب عندما قُطِعَ عنه النفط العربي دعماً لمصر في حربها مع إسرائيل، وردًّا على الدعم الأمريكي لتلك الأخيرة.. المتأمل لتلك الحقيقة يدرك -ببساطة- أن من يضع يده على نفط الخليج فإنه يكون قد حرَم مصر -والعرب عموماً- من سلاح أثبت فاعليته سابقاً.. والسعي الجدي من الأمريكيين لذلك لا يمكن أن يُفَسَّر بحسن النوايا، خاصة أن العلاقات الدولية لا تستمر دائماً على نفس الوتيرة، فاليوم نحن -رسمياً- أصدقاء أمريكا، ولكن ماذا عن الغد؟ 2- كما أسلفتُ القول فإن العلاقات الدولية لا تبقى كما هي، وإن كان النظام المصري اليوم على وفاق مع نظيره الأمريكي فمن يدري ما قد يأتي غداً، والمفترض من رجال السياسة أن يطلقوا للنظر البعيد عنانه للمستقبل، ويراعوا كل السيناريوهات المستقبلية، هل من الأمان عندئذ أن يكون الجيش الأمريكي على الضفة الأخرى من بحر يحدّ معظم جانبنا الشرقي وفوق أرض لا تفصلنا عنها سوى كيلو مترات ليست بالكثيرة؟ 3- تعالوا نتحدّث بصراحة.. الوجود الأمريكي في الخليج حوّل بعض دوله إلى "دول وظيفية" أي دول وظيفتها تنفيذ أجندة خاصة بالدولة الكبرى الراعية لها، ولنلاحظ أن أنظمة أغلب تلك الدول لم تتشكّل على أساس من وجود تاريخي أو مبايعة شعبية أو أهداف قومية موحدة، بل على أساس تقسيمات قام بها الاستعمار قبل أن يحمل عصاه ويرحل، وتمت بدعم من الدول الغربية الكبرى التي كانت تحرص بالتأكيد على حماية مصالحها المستقبلية في المنطقة، مما يعني أن للأنظمة المذكورة شعوراً بالاحتياج لذلك "الخواجة" الأجنبي الذي صنعها.. وهذه مسألة خطيرة تبرز كلما وُجِدَ في الروابط العربية ضعف يجعل كل بيت عربي يبحث عمن يسدّ فراغ غياب البيت العربي الكبير.. وظيفية تلك الدول تعتبر كارثة محققة، فهذا يعني تحوّلها لمخلب قط في يد الدولة الراعية لها، يعلم الله كيف يمكن أن تستخدمه يوماً. 4- الدول كالبشر يصيبها الطمع، فإذا كانت أمريكا قد طمعت في مضيق هرمز، وسيطرت لأجله على الجانب العربي من الخليج، وتسعى الآن للتحرّش بالجانب الإيراني منه، فمن يدري ألا يأتي دور مضيق باب المندب والبحر الأحمر يوماً، خاصة أنها بالفعل تسيطر على الجانب الشرقي منه بوجودها العسكري في السعودية؟ تلك المعطيات السابقة تعني أن الشأن الخليجي في واقع الأمر شأن مصري وعربي، فعندما يعتمد جزء كبير من القوة السياسية لمصر على انتمائها لمجتمع الدول العربية فإنها -بالتأكيد- ملزمة بأن تتعامل بحذر وبراعة مع واقع وجود ثغرة عميقة في الجدار الآمن للبيت العربي يتسلل منها الأغراب.
تسرب إلى المجتمع المصري النسخة السعودية من التدين سَعْوَدَة مصر! ثمة سبب آخر لضرورة وضع مصر عينها على الخليج، هو تلك التحولات التي جرت لمصر منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي. فالمجتمع المصري طوال أكثر من خمسة وثلاثين عاماً يتعرض لمحاولات ل"سَعْوَدَته" أي تحويل بعض أهم جوانبه إلى النمط السعودي، منذ كارثة "الانفتاح" الاقتصادي، وما ترتب عليه من تحوّل المجتمع المصري إلى واحد من أبشع المجتمعات الاستهلاكية في العالم، وكذلك تسلل "النسخة السعودية" من التدين المعتمد على التشدد على الشكليات دون الجوهريات، والاعتماد على فقه يدور في فلك أمور مثل الحجاب والنقاب والاختلاط (وهي قضايا مهمة بالتأكيد، ولكنها ليست الأهم في ديننا قياساً بأمور مثل الجهاد والعدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر والجهل والمرض) دون أن يجرؤ أساطينه على الحديث بكلمة واحدة عن الوجود الأمريكي على أرض الحرمين؛ مراعاة -على حد قولهم- لحرمة الخروج على ولي الأمر (!!!). ذلك الشكل المختلّ من التدين بدأ في التسلل لنا مع العائدين من سنوات العمل بالخليج، ثم تحوّل لتيار عاتٍ له شيوخه ومدارسه ومساجده وقنواته التليفزيونية، في وقت تعاني فيه المؤسسة الدينية المصرية التهميش عن المعركة الحقيقية للمجتمع المصري، وتعاني فيه البنية الاجتماعية المصرية اختلال التوازن الاجتماعي بين الطبقات وضبابية المعايير الأخلاقية واهتزاز صورة العدالة في أعين الناس.. أمر كهذا يدفعنا لأن ننتبه إلى أن التعامل مع تسلل تلك القيم الدينية والاجتماعية السلبية لنا لا يتوقّف عند حدودنا، بل يمتد إلى أن نضع المجتمع المصدّر تحت أعيننا، ونفهم ما يجري فيه وكيف تُنتَج فيه تلك "الواردات"؛ لنتمكن من التعامل مع خطر وصولها لنا. ختام الجزء الثالث: هذا عن الخليج.. ولا يمكننا الحديث عن الخليج دون ذكر العراق، فبالرغم من انتمائه جغرافياً للهلال الخصيب والشام، فإنه يرتبط عملياً بشكل أكبر بالشأن الخليجي.. فإلى العراق إذن.... (يُتبع)
مصادر المعلومات: 1- الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق: محمد حسنين هيكل. 2- مدافع آية الله: محمد حسنين هيكل. 3- خريف الغضب: محمد حسنين هيكل. 4- الخليج المكشوف: محمد حسنين هيكل. 5- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: د.عبد الوهاب المسيري. 6- وصف مصر في نهاية القرن العشرين: د.جلال أمين. 7- المسلمون وأوروبا: د.قاسم عبده قاسم. 8- تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان. 9- تاريخ العرب الحديث: د.رأفت الشيخ. 10- تاريخ تطوّر حدود مصر الشرقية: د.ألفت الخشاب. 11- ماذا حدث للمصريين: د.جلال أمين. 12- عصر الجماهير الغفيرة: د.جلال أمين. 13- مصر والمصريين في عهد مبارك: د.جلال أمين. 14- أمريكا والعالم: د.رأفت الشيخ. 15- البروج المشيدة: لورانس رايت. 16- بلاك ووتر: جيرمي سكيل. 17- العولمة: د.جلال أمين. 18- اختلال العالم: أمين معلوف. 19- إيران وولاية الفقيه: مصطفى اللباد. 20- نظرية الواحد بالمائة: رون سسكند. 21- دعاة يحكمون عقول المصريين: محمد فتحي.
واقرأ أيضاً مسألة أمن قومي..(1) لماذا نحمّل أنفسنا الهَمّ؟ مسألة أمن قومي..(2) ذلك القادم من الشرق