"دور مصر الرائد في المنطقة!" لماذا مصر بالذات؟!! عندما نراجع المتغيرات المصرية على المستويين الداخلي والخارجي، ونحسب قدر تراجعنا الهائل في مختلف المجالات، لا نستطيع أن نغفل تراجع أدائنا السياسي الخارجي، ولا نمنع أنفسنا من الشعور بالمرارة عندما نرى هذه الدولة العربية الصغيرة أو تلك تحتل مكاننا في دور طالما لعبناه في المنطقة. المؤلم أن كثيراً من المصريين -وأعني بهم رجال الشارع العاديين والشباب المهتم بالسياسة- يفاجئونني عند مناقشتهم في هذا الأمر بأنهم يعتبرون ذلك "علامة صحية" من منطلق أن مشاكل دول المنطقة "باب يأتينا منه الريح" علينا أن "نسدّه ونستريح"!. هناك حالة إغفال لحقيقة أن الدولة -أي دولة- حين تقرر أن تنفق وقتًا ومالاً وجهدًا للتفاعل مع الأوضاع السياسية المجاورة فإن ذلك لا يكون على سبيل "التطوّع" بل يكون -غالبًا- لخدمة الأهداف والتطلعات السياسية لها، ولحماية أمنها القومي ومصالحها الخارجية.. فنِطاق التحركات العاطفية في عالم السياسة ليس بالاتساع الذي يظنه البعض، ومصر لا تَعتبر مشاكل دول المنطقة مشاكلها الخاصة من منطلق عاطفي بقدر ما يكون ذلك من منطلق عملي يصب في النهاية في مصلحة الدولة، بغض النظر عما يُقال في وسائل الإعلام من عبارات منمّقة تتحدث عن "شعور مصر بالواجب نحو دول المنطقة" و"مصر الشقيقة الكبرى" و"مصر السبّاقة لمد يد العون للإخوة العرب"!. "مباحثات ومناقشات ومشاورات وكبار مسئولينا يتنقلون هنا وهناك، وما المكسب؟ ما الذي يمكن أن نجنيه من دخولنا طرفًا في شئون دول ومجتمعات تقع خلف حدودنا، بل وأحيانًا فيما وراء تلك الحدود بدولة أو دولتين أو أكثر؟ ألم تلسعنا نيران تلك المناطق المشتعلة بما فيه الكفاية؟ من استشهاد سفيرنا السابق في العراق في 2005 وقبلها بعامين الاعتداء بالضرب على وزير خارجيتنا في المسجد الأقصى، فضلاً عن تصديع رؤوسنا بما يجري في السودان! ومع ذلك ما زلنا نواصل نفس السياسة في الاهتمام بأمور الآخرين بإصرار عجيب!". "لماذا لا نأخد لأنفسنا فترة نقرر فيها أن تكون مصر دولة منغلقة على ذاتها لتتفرغ لإعادة بناء نفسها، كما فعلت أمريكا فيما قبل الحرب العالمية الأولى؟ لماذا لا نتعلم من نموذج سويسرا الدولة الأكثر حيادًا في العالم، التي بلغ من حيادها أنها لم تنضم للأمم المتحدة سوى في 2002؟". كثيرًا ما أسمع القولين السابقين عندما أكون طرفا أو متابعا لنقاش بين وجهتي النظر؛ الأولى التي تنادي بحفاظ مصر على دورها السياسي في المنطقة، والأخرى المُطالِبة بأن تعزل مصر نفسها عن مشكلات الجوار وتتفرغ لمشاكلها الداخلية. بالتأكيد فإن قائل العبارة سالفة الذكر يكون من أصحاب الرأي الآخر، في حين أني أنتمي لأصحاب الرأي الأول. جدير بالذكر أن تلك المناقشات عادة ما يكون أطرافها شبابا من مرحلتي العمرية، بهم ما بهم من إحباطات وهموم ناجمة عن المتغيرات السلبية بالمجتمع، مما ينعكس -غالبًا- على آرائهم. (وأنا هنا أتحدث عن "بعض" هؤلاء الشباب لا عن مجملهم). بصراحة شديدة.. مَن منا لم تدُرْ هذه التساؤلات في ذهنه ولو لمرة واحدة عابرة؟ تساؤلات أخرى أعترف أن الأفكار سالفة الذكر قد زارت ذهني كثيرًا، وصالت فيه وجالت، ولكني كنت حين أتتبعها أجدني أمام سؤالين هامين: الأول هو: "لماذا حين أتتبع في تاريخ سعي مصر للعب دور ما في المنطقة أجد الخيط طويلا ممتدا لعهود موغلة في القدم كعهد الدولة الفرعونية القديمة؟" مصر الفرعونية مقسّمة فترات حكمها بين 30 أسرة، ويضيف إليها دكتور ناصر الأنصاري في كتابه "المجمل في تاريخ مصر" 18 أسرة أخرى (والأسرة هنا لا تعني الارتباط الأسري بل مجموعة الحكام المنتمين لنظام واحد) ما بين أسرات رومانية وعربية وطولونية وأيوبية ومملوكية وعثمانية وجمهورية وغيرها... أي أن المجموع 48 أسرة (نظام حاكم).. كل تلك الأسرات كانت من أولوياتها القصوى أن يكون لمصر دور إقليمي ممتد لمساحة شاسعة شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا.. وممن حكموا مصر في تلك الأنظمة حكام أقوياء محنّكون لهم من الخبرة السياسية ما يثبت أن تفعيلهم للدور المصري في المنطقة لم يكن اعتباطيًا أو عاطفيًا مجردًا أو عبثيًا. إن مطاردة أحمس للهكسوس في فلسطين، وحرب رمسيس الثاني ضد الحيثيين في العراق، وسعي أحمد بن طولون للسيطرة على الشام، وحملة محمد علي باشا على الوهابيين في جزيرة العرب، وحملات الخديوي إسماعيل في السودان، وإرسال عبد الناصر قوات لليمن لم تكن بالتحركات غير المدروسة ولا المهمِلة لمصلحة مصر. والأمر سواء فيما إذا كانت مصلحة النظام أو مصلحة الدولة، ففيما يخصّ الأمن القومي تتقارب المسافات بين هذين النوعين من المصالح، فسقوط الدولة سيؤدي بالضرورة لسقوط النظام، مما يعني اضطرار هذا الأخير للحفاظ على الأمن القومي للدولة، وتأمين النطاق الخارجي لهذا الأمن. السؤال الثاني: "هل زمننا هذا ما زال زمن التحركات السياسية غير القائمة على مصلحة معلنة أو خفية؟".. هل ما زالت مساحة التفاعل السياسي القائم على العاطفة والمعنويات بنفس الاتساع الذي كانت عليه قديمًا؟ ألا نلاحظ أن مواد صناعة القرار السياسي قد تغيّرت؟، فتراجعت مواد: "الأخوّة التاريخية" و"علاقات الدم والعِرق" و"الانتماء الطائفي والثقافي" لصالح مواد أخرى نفعية مثل: "المصالح المشتركة" و"ارتباط المنافع" هذا هو نمط العالم، ومصر حتى لو كانت لها خصوصيتها الثقافية والفكرية فإنها تبقى جزءاً من هذا العالم وعليها التحدث بلغته أو على الأقل فهم تلك اللغة وإجادة التعامل بها عند اللزوم. إذن لا يوجد أدنى سبب لافتراض أن مصر تتعامل مع قضايا المنطقة بطريقة "الأجر على الله"، وهذا ينطبق على أية دولة في العالم، فإذا كانت أنظمة الدول المختلفة تتحرك داخليًا -في الغالب- لأجل تحقيق مكاسب سياسية لا مجرد الشعور بالرضا عن النفس، فماذا يكون دافعها خارجيًا؟ عالم بلا جدران قد يقول البعض إن مصر يُمكنها أن تحقق مصالحها دون "التورّط" في أزمات الآخرين، ولكن ماذا عن حماية الأمن القومي المصري؟ هذا بيت القصيد! فثمة أمر واقع يقول إن فكرة أن نغلق بابنا على أنفسنا ونستريح هي فكرة خيالية أكثر من اللازم، فالتاريخ -والواقع الحالي- يثبتان حقيقة أن كل دولة أو نظام حكم أو مؤسسة لا بد لها من عدو ما يخطط ضدها أو خصم يتربص بها. نحن نعيش في عالم بلا جدران على الإطلاق، وكم من مجتمع حسب نفسه آمنًا لمجرد أنه ليس طرفًا في أية أزمات أو مشكلات، ثم فوجئ بضربة قوية توجّه لأمنه واستقراره، سواء تمثّلت تلك الضربة في عمل عسكري صريح أو جريمة إرهابية أو مخطط سري لزعزعة الاستقرار، وكلما كان ذلك المجتمع ثريًا بالموارد ومتميزًا من الناحية الجغرافية ارتفعت احتمالات تعرّضه للخطر. هذه قاعدة يفرضها الأمر الواقع، ومصر ليست استثناءً، بل إنها تعتبر على أساس تلك القاعدة من أكثر المجتمعات عرضة للخطر. فلنأخذ مثالاً بمصر في العصر العثماني -عصر الانغلاق الأكبر لمصر على نفسها- في 1798م تعرّضت لحملة عسكرية منظمة من فرنسا بقيادة نابليون بونابرت، الذي كان يخطط لجعلها قاعدة شرقية لدولته، لماذا؟ لأجل توجيه ضربة موجعة لإنجلترا وقطع طريق تلك الأخيرة على مستعمراتها في آسيا! أي أن المصري البسيط استيقظ يومًا فوجد مدافع "ساري عسكر بونابرطه" تدكّ منزله، وجنوده يقتطعون من رزقه؛ فقط لأن هناك صراعا تاريخيا يدور بين دولتين تقعان في قارة أخرى، وتبعدان عنه بأميال كثيرة! كل ذنب هذا المصري أن وطنه ثري بالموارد ويقع في منطقة محل أطماع الناس. إذن فهذا قدرنا؛ أن نلعب دورًا ما خارجيًا ولو رغم أنوفنا، فليكن ذلك إذن بإرادتنا ووفق تخطيطنا ولخدمة مصالحنا ما دام سيحدث لا محالة! أليس هكذا يقتضي العقل؟ بداية الكلام والخلاصة؟ ليس هذا وقت "الخلاصة" بَعد، فكل هذا من قبيل بداية الكلام عن الأسباب المنطقية لأن تتحمل مصر "صداع الرأس" الناجم عن دخولها طرفًا فاعلاً في شئون الآخرين.. هذا إن افترضنا أنها بالفعل شئونهم وحدهم! صحيح أن دور مصر الخارجي يتعرض أحيانًا لتذبذب قوي وأوقات تراجُع، ولكنه موجود على أية حال، وثمة واقع تاريخي يقول إن وجود مصر كلاعب على الساحة الإقليمية هو الأصل، وغيابها هو الاستثناء.. بداية الكلام.. هي أن ننظر للساحات التي تلعب فيها مصر ذلك الدور القديم، ولتكن أمثلتنا ثلاثة مناطق: فلسطين والشام، السودان ووادي النيل، العراق ومنطقة الخليج.. لعلنا بالتعرض لتلك الأمثلة نفهم إجابة السؤال: لماذا يجب أن نعتبر أن دور مصر الإقليمي مسألة أمن قومي؟ فلنبدأ الكلام إذن.. (يتبع) مصادر المعلومات: 1- المجمل في تاريخ مصر: د.ناصر الأنصاري. 2- موسوعة مصر القديمة: سليم حسن. 3- شخصية مصر: جمال حمدان. 4- المصريون والفرنسيون في القاهرة 1798-1801: أندريه ريمون. 5- تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان. 6- تاريخ الطولونيين والأخشيديين والحمدانيين: د.محمد سهيل طقوش. 7- محمد علي وأولاده: د.جمال بدوي. 8- لمصر لا لعبد الناصر: محمد حسنين هيكل. 9- تاريخ العرب الحديث: د.رأفت الشيخ. 10- أمريكا والعالم: د.رأفت الشيخ.