المكان: جنوبفرنسا.. حمام "ريبيس دي كوربيير" للسباحة تتقدم سيدتان من حرف الحمام مرتديتين "زي البحر الشرعي" أو هكذا يطلقون عليه، وتبدآن في الاستعداد لمعانقة مياه الحمام قبل أن يستوقفهما رجلان مهيبا المنظر، بدا عليهما أنهما من أمن الحمام. الأمن: لا يمكنكما نزول المياه بهذه الملابس. السيدتان: نحن مواطنتان فرنسيتان، ولنا كامل الحقوق في أن نرتدي ما نشاء ونفعل ما نشاء. الأمن: هذه هي قوانين الحمام، ولا بد وأن تُحترم، ويجب أن تُبدّل هذه الثياب أو ترحلا عن الحمام. زوج إحدى السيدتين: هل جننت؟ هل تريد لزوجتي أن تتعرى أمام الأغراب، هذا مستحيل هذا مستحيل.. الأمن يقتادهما إلى خارج الحمام وسط صمت ومتابعة الجميع قبل أن يعود كل شخص إلى ما كان يفعله. كل ما سبق كان حوارا تخيليا لوقائع حقيقية وقعت لسيدتين مسلمتين في حمام السباحة المذكور سلفا، وبالفعل قام الأمن بطردهما خارج الحمام. هذه الواقعة تتخطّى مجرد التذرع بالاضطهاد الديني للمسلمين بفرنسا، ولكنها تمثل التصادم الحاصل بين مفهوم الحرية الشخصية لدينا كمسلمين، وبين مفهوم الالتزام بالتعليمات وبالقوانين في الوقت ذاته. فلو تأملنا قليلاً في هذه الواقعة، سنجد أن الأمر بسيط جداً.. حمام سباحة له قوانينه واشتراطاته (الصحية) فيما يتعلق بملابس نزلاء الحمام، فمعروف على سبيل المثال في مصر أنه يمنع على الرجال ارتداء أية ملابس باستثناء المايوه وبالنسبة للنساء سمح لهم (احتراما للعادات والتقاليد) بارتداء ملابس كاملة على أن تكون كلها من مادة البوليستر التي لا تُسرّب ألوانها في مياه الحمام، فتسبّب التلوث الصحي للنزلاء، وبعض حمامات السباحة في مصر نفسها تمنع النزول بغير المايوهات. إذن في هذه الواقعة لدينا التباس واضح كما قلنا بين احترام النظام واحترام الحرية الشخصية، فالنقاب أو الحجاب أو الخمار هو بالتأكيد حرية شخصية ما دامت لم تتعدّ حدود حرية الشخص المتمتع بهذه الحرية إلى حريات الآخرين.. ولكن عندما تتخطّى هذه الحرية الشخصية حريات الآخرين في بعض المواقف، لا بد وأن نحترم النظام أو نبتعد عنه والمعنى المقصود هو.. أن ارتداء "زي البحر الشرعي" ممنوع في حمامات السباحة العامة وفق اشتراطات صحية ونظام يطبّق على المسيحي قبل المسلم، ولا يختص فيه بالتمييز لأحد ضد أحد، إذن أمامي أنا كمسلم خيار من اثنين إما أن أحترم هذا النظام (أرتدي المايوه) أو أبتعد عن هذا النظام (لا أذهب للحمامات العامة من الأساس)، وليس في ذلك دعوة إلى الملتزمات بالتخلي عن التزاماتهن الدينية تجاه الله عز وجل، ولكنه مجرّد شرح وتوضيح للبدائل المتاحة في موقف مثل هذا الموقف. الوضع ذاته ينطبق على الموضوع الجدلي المتعلق بالنقاب، فدون الدخول في خلاف -ليس هذا مكانه- حول فرضية النقاب، فهو حرية شخصية بحتة لصاحبه، يأثم من يمنعه ويأثم من يفرضه، ولكن عندما تتعارض هذه الحرية الشخصية مع حريات الآخرين تلغى هذه الحرية، فعندما تتطلب بعض الاشتراطات الأمنية كشف الوجه للمرأة المنتقبة (دوريات الشرطة المتنقلة ليلا - المطارات - مقابلات العمل الشخصية التي يكون للمظهر فيها دور مهم)، ففي هذه الحالة إما أن نتخلى عن هذه الحرية الشخصية أو أن نبتعد عن النظام تماماً. تتابع الخبر في دهشة، وتضرب بكف نظيرتها وتقول بقدر بالغ من الغيظ: "ما حبكتش يعني ينزلوا حمام سباحة"، عبارات كهذه عبّرت "دعاء" -صحفية بموقع "بص وطل"- عن استغرابها من موقف السيدتين المسلمتين. فهي ترى أن "السيستم سيستم" لا بد وأن يُحترم سواء كان في فرنسا أو حتى في إثيوبيا، فإما أن ترتدي المايوه أو لا ترتديه تماما وتبقى في منزلها، الوضع بسيط وسهل. وتعتدل "دعاء" في جلستها وتستطرد: أنا فتاة ومسلمة ولا أتعاطف معهم على الإطلاق، فالنظام ما يزعلش حد ولا داعي لأن نجعل من الاضطهاد الديني مسمار جحا الذي نعلّق عليه أخطاءنا الخاصة بعدم احترام السيستم. البعض رغم كل شيء انتقد هذا التصرف الذي أقدمت عليه إدارة الحمام بطرد الفتاتين، متسائلين عن مبادئ الثورة الفرنسية الحرة التي تمنع فتاتين من ارتداء ما تريدان، ومتسائلين في الوقت نفسه: لماذا يتحرك الأجانب بمنتهى الحرية في مصر بينما المسلمات في فرنسا يواجهن شتى الصعوبات؟ "الأجانب ما بوّظوش السيستم في مصر لأن السيستم أصلا ماعندوش مشكلة مع إن الأجانب يلبسوا براحتهم ويتصرفوا براحتهم، كل واحد وله قوانينه وماهوش ذنب الأجانب طالما قوانين بلدك مش معارضة إن الناس تمشي عريانة في الشارع"، هكذا ردت "دعاء" بغضب على هذه الانتقادات "اللي تغيظ" حسب وصفها، وتعتقد فيها تذللا وادّعاءً بالضعف، رغم أنه لا يعدو كونه عدم قدرة على احترام القوانين. المشكلة في مثل هذه التصرفات أنها تعطي انطباعا عاما عن العرب والمسلمين بأنهم يكرهون النظام، والأسوأ أنهم يُفهمون الغرب أن الدين هو من يرفض النظام، رغم أن الإسلام هو من وضع أسساً لنظام قوي طبّقته "المدينة" ومن ثم الأمة كلها، وعندما دخل الإسلام مصر لم يغيّر من طباع ولا عادات أهلها، وعندما دخل إيران لم يغيّر من شكلها أو لبسها، كما أنه لم يغيّر شيئا من طباع مكةوالمدينة ولبسهم وتقاليدهم المعروفة باستثناء تلك التي حرّمها الإسلام. إن احترام النظام لا يتعارض مع الإسلام بل يؤكده فهل تعقلون؟