يفتح المواطن الصومالي جهاز المذياع في منزله فيفاجأ بأصوات زئير ووقع حوافر لحيوانات مختلفة، ومواء، وزمجرة النمور، بل وأصوات أمواج المحيطات، وحتى أزيز الطلقات النارية. ولكنه لا يتعجب مثلما سيفعل أي مواطن يفتح مذياعه فيجد ذلك.. فالمواطن الصومالي يعرف أن هذا نوع من أنواع الاحتجاج على حظر بث الموسيقى الذي فرضته جماعات إسلامية متشددة هناك. إما وقف الموسيقى أو مواجهة العواقب والحكاية منذ البداية أن جماعة "حزب الإسلام" المدعومة من "حركة الشباب الإسلامية" المرتبطة بالقاعدة اتصلت بالمحطات الإذاعية الصومالية لتهددها بأن "عدم الانصياع للحظر على الموسيقى في غضون 10 أيام، قد يكون له عواقب"؛ وذلك بحجة أن الموسيقى محرمة شرعاً ويجب منعها. لم تكن هذه هي الحالة الأولى في الصومال؛ ففي بداية الشهر الحالي قامت الحركات الصومالية المتشددة بوقف بث هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في المناطق التي تسيطر عليها، واتهمتها بمساندة الاستعماريين والصليبيين ونشر الدعاية المسيحية. لو ابتعدنا عن تسطيح الأفكار والتسليم بأن هؤلاء إرهابيون ومتشددون وكفى، ونظرنا للأمر نظرة أعمق، سنجد أن ما يحدث في الصومال لا يفرق كثيراً عما يحدث على أرضنا، هنا في مصر بل و أغلب إن لم يكن كل الدول العربية.. الفرق الوحيد أن المتشددين هناك ملكوا القدرة على "الفعل"، بينما هنا ما زالت قدرتهم فقط تقتصر على "القول".. احتكار الحقيقة داء لا دواء له لذا فيهمنا كثيراً الولوج إلى مثل هذه الأفكار وتفنيدها، والأمر الملاحَظ أن أصل البلاء وأغلب مشاكلنا تنشأ من "اعتقاد البعض بأنه يحتكر الحقيقة المطلقة".. فمن منعوا بث الموسيقى في الصومال ومن يمنعونها لدينا انطلقوا من رأيهم الشخصي في موافقة أو معارضة فتاوى قديمة.. ليست هذه هي المشكلة بأي حال، فمن حق المفتي أو العالم أن يُدلي برأيه تبعاً لاعتقاده وتأويله للنص القرآني وللسنة المطهّرة.. ولكن المشكلة أن من يُقرّون بهذا الحق لأنفسهم يرفضونه لغيرهم، فيعطون لأنفسهم الحق في التأويل والشرح للنصوص الدينية المختلفة من أجل المنع، ولكنهم يسحبون هذا الحق عندما يستخدمه غيرهم من أجل الإباحة.. القواعد الفقهية المنسية سبب كل مشاكلنا هناك العديد من القواعد الفقهية المختلفة في عشرات المسائل، ولكن هناك قاعدتان فقهيتان، يمكن اعتبارهما المخرج من حالة استسهال التحريم لكل شيء التي أصبحنا نعيش فيها.. القاعدة الأولى: وهي من علم الأصول وتقول: "الأصل في الأشياء الإباحة"، وعلى ذلك فما لم يأتِ به أمر صريح بالتحريم في القرآن أو السنة فهو محلّل في عمومه ويخضع حُكمه تبعاً لآراء وتفسيرات العلماء. أما القاعدة الثانية: وهي الأهم هنا فهي قول الفقهاء: "إن للمكلف تقليد من أجاز شيئاً وقع فيه خلاف إذا كان العمل برأي المانع والمحرم سيسبب ضيقاً ومشقة عليه، فيقولون: من ابتُلِي بشيء من ذلك -أي مما وقع فيه الخلاف بين الحل والحرمة- فليقلد من أجاز"، وهي القاعدة التي أعاد التذكير بها كثيراً فضيلة مفتي الجمهورية الدكتور "علي جمعة".. إذن إذا كانت هناك مسألة ليست من "المعلوم من الدين بالضرورة" وهناك خلاف بين علماء المسلمين "الثقات" عليها، فهناك من أباحها، وهناك من حرّمها، فيجوز للمسلم اتّباع من أباح وتقليده في الإباحة.. فديننا ليس دين تشدد وعنف، ولا تقتصر تشريعاته على كلمات.. المنع.. التحريم.. التكفير العجيب أن أغلب علماء المنع، يتجاوزون هذه القاعدة تماماً، فيصرون على تقليد من حرَّم فقط، وإن كانوا يفعلون ذلك رغبة منهم في التقشف، أو الخروج من الخلاف وغيره من المبررات، فلا يجب عليهم قصر فتواهم للعامة من الناس على خيار المنع فقط دون ذكر خيارات الإباحة الأخرى. ولو عدنا لموقفنا الأول الذي بدأنا به وهو تحريم الموسيقى، فسنجد أن هذا المبحث لا يمكن أن يقع ضمن "المعلوم من الدين بالضرورة"، فلا يوجد نص صريح بتحريم الموسيقى مطلقاً، وهو الأمر الذي احتج به كافة العلماء قديماً وحديثاً في إباحة الموسيقى. وعلى هذا فهناك من العلماء من حرّم الموسيقى، بأدلة وأحاديث قاموا بتأويلها وتفسيرها كما يرون وكما فهموها، وهو جهد يجزيهم الله عنه كل الخير. ولكن هناك أيضاً من "الثقات" سواء من السلف والتابعين أو علماء الوسط والعلماء المعاصرين، من أباح الموسيقى، واستدل على ذلك بتأويل لأحاديث ونصوص قرآنية أيضاً تبعاً لفهمهم الخاص لها. ابن حزم والغزالي والقرضاوي وغيرهم الكثير فها هو "ابن حزم الأندلسي" يبيح الموسيقى والغناء، بل ويردّ على أدلة المحرّمين قائلاً: "إنه لم يصحّ في باب تحريم الغناء حديث، وكل ما فيه فموضوع".. ثم يضيف: "والله لو أسند جميعه أو واحد منه فأكثر من طريق الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تردّدنا في الأخذ به". وكذلك سار على نهجه العلماء أبو الفضل المقدسيّ، وابن حجر العسقلاني، والماوردي، وابن قدامة الحنبلي، وابن طاهر القيسراني الحنبلي.. بل إن الإمام الشافعي ذاته وقف من الموسيقى والغناء موقفاً متوسطاً، فأباح سماع الحداء والرجز وإنشاد الشعر، وقراءة القرآن بالترنّم، وحتى الإمامان مالك، وأحمد ابن حنبل من الأئمة الأربعة لم يذهبا للتحريم بل كانا أقرب إلى الكراهة. ولو انتقلنا لأئمة الوسط لوجدنا على سبيل المثال الإمام "أبا حامد الغزالي" حيث انطلق من قاعدة "ليس كل الغناء حلالاً وليس كله حراماً"، وإنما حلاله حلال وحرامه حرام.. موضحاً عدم وجود نص صريح أو قياس على أفعال تؤكد حرمة الموسيقى والغناء، بل أضاف: "دلَّ النص والقياس جميعاً على إباحته". أما من العلماء المعاصرين فحدّث ولا حرج، ولا يمكننا حصرهم جميعًا، ولكن نذكر منهم: الشيخ يوسف القرضاوي من مصر. الشيخ عبد الله المنيع من السعودية. الشيخ عبد الستار أبو غدة من سوريا. والشيخ أحمد الكبيسي من العراق. والشيخ عبد العزيز المشعل من السعودية. والشيخ جاسم المطوع من الكويت. والشيخ محمد مختار السلامي من تونس. والشيخ الدكتور عصام أحمد البشير من السودان. والدكتور محمد عمارة من مصر. وكلها أسماء لها احترامها ومكانتها، ويُعتبرون بلا خلاف من العلماء "الثقات" الذين لا يُطعن في نزاهتم أو علمهم. فلماذا الإصرار على أن تتبع الأمة بأكملها أدلة من حرّم، وتتجاهل أدلة من أباح؟!! ليس هدفنا الآن هو إثبات تحليل الموسيقى من عدمه، فهذا ليس مجالنا، ولكن الهدف هو التأكيد على أن ما يسري على الموسيقى يسري على غيرها من العشرات وربما المئات من المسائل الخلافية المتعددة.. والتي دائماً ما نجد من يخرج ليؤكد أن الحكم بها نهائي وهو التحريم، دون أي فرصة للمراجعة أو الاستدلال بأدلة الغير.. والحقيقة أن المسلم يظل يحاول أن يتمسك بالأفضل والأضمن، فيتبع هذا العالم في تحريم ذاك، وهذا العالم في تحريم تلك، فيشعر أن الدُنيا بأسرها تضيق عليه، وأن الحياة -بل والدين ذاته- أضيق من ثقب إبرة، فإما أن يتحول لصورة المتشدد الذي يحاول أن يضيّق على الآخرين هو الآخر كما ضُيّق عليه، وإما أن ينفلت شيئاً فشيئاً ليترك حتى الأساسيات من الدين.. وهكذا نظلم ديننا ونحمّله ما ليس منه، ونظلم مجتمعنا بأن نضيّق عليه ونأسره في خانة واحدة لا تتغير.. هذا بالطبع بالإضافة إلى من يميلون إلى التشدد للتشدد كما في الصومال، فيتلقون هذه الفتاوى ليعمموها، ويطبقوها هذه المرة بقوة السلاح لا الكلمة.. في النهاية.. الصومال ليست ببعيدة، والفكر -حُلوه ومُره- قادر على الانتقال ملايين الأميال.. فلا نتمنى أن نستيقظ غداً ونفتح المذياع فنجد أصوات حيوانات الغابة هي كل ما يطلّ علينا.