أظنني أكتب أفضل مما أتكلم، لهذا أعيد سرد الحكاية، وأمشي في ظلالها. تقول الحكاية: تعددت حوادث التدمير الغامضة في محمية "كروجر" بجنوب إفريقيا. ومحمية "كروجر" ليست واحدة من الأدغال الإفريقية المعتادة والمباحة للصيادين يفعلون فيها ما يحلو لهم. إنها محمية يُحظَر على الصيادين دخولها. ومن يتسلل منهم إليها يُقبَض عليه ويُحاكَم ويدخل السجن أو يدفع غرامة باهظة تبعا لحجم الجُرم الذي ارتكبه. وهذا ما جعل حوادث التدمير الأخيرة في المحمية لغزا تعيّن على مشرفي "كروجر" وحرّاسها أن يحلّوه. حيوانات قوية مثل جاموس الكاب ووحيد القرن أُصيبت بجراح قاتلة، وتحطمت بعض عظامها القوية. وحيوانات أصغر مثل الغزلان وحمير الزرد لاقت حتفها سحقا. وافترض حراس الغابة أن هناك صيادين مجرمين أمكنهم التسلل إلى الغابة ليلا بسيارات قوية وعاثوا فيها دهسا وقتلا. لكن لماذا؟ هذا السؤال زاد من حيرة المسئولين عن كروجر، فهم يعرفون أن الصيادين يقتلون الحيوانات لأخذ أجزاء منها لبيعها سرا مثل أنياب الأفيال أو جلود النمور أو قرون وحيد القرن. أما أن يكتفوا بإصابة الحيوانات أو قتلها وتركها كاملة فهو أمر غريب يتطلب البحث وتشديد المراقبة. لم تسفر المراقبة عن ضبط أي صيادين متسللين. لكن إحدى الفتيات المشرفات فكرت في أن من يستطيع إحداث جروح كبيرة كالتي رأوها وفي حيوانات قوية مثل وحيد القرن لا بد أن يكون شيئاً أقوى وأكبر من وحيد القرن. ولم تجد في الغابة أكبر من الأفيال فأخذت في مراقبتها من بعيد بمنظار يصل مداه إلى عدة كيلومترات. كانت الأفيال بالفعل هي من يرتكب جرائم قتل وجرح حيوانات عديدة وتدمير مساحات واسعة من الأشجار والنباتات. شاهدت ذلك بنفسها عبر المنظار. وبمتابعة هذه الأحداث الدامية استطاعت أن تحدد الأفيال التي ترتكب هذه الحوادث. إنها مجموعة من الأفيال الفتيان التي لا يتجاوز عمر الواحد منها ثمانية عشر عاما، والفيل في هذه السن يُعتَبَر ولداً لأن الفيل لا يصبح راشداً إلا في سن الثلاثين. لكن ما سرُّ هذا السلوك الغريب الذي لا يصدر أبداً عن الأفيال حتى وهي في عمر الولدنة؟ بالبحث تبين أن هذه الأفيال الطائشة هي مجموعة الأفيال التي أحضروها إلى المحمية وهي صغيرة بعد أن قتل الصيادون آباءها وأمهاتها في غابات أخرى وبلدان قريبة. لم تتربَّ هذه الأفيال وسط أفراد من الأفيال أكبر منها تعلّمها حدود التصرفات والسلوك الحكيم المعروف عن الأفيال الإفريقية. كيف يمكن تهذيب هذه الأفيال الرعناء وإيقاف جنوحها ومسلكها الطائش المُخرِّب؟ قامت إدارة المحمية بإحضار مجموعة من الأفيال الكبيرة في عمر الأمهات والآباء والجدات وأطلقتها مع الأفيال الطائشة. وكان مدهشاً أن يختفي سلوك الولْدنة المدمّر لدى الأفيال الشابة، فوجود الأفيال الكبيرة أسرع بتكوين عائلات من الأفيال يلتزم فيها الجميع بمراعاة حدود التصرف وسلوك الحكمة الذي تشتهر به أفيال إفريقيا منذ أزمان سحيقة. انتهى سرد الحكاية، لكن ظلها لم يكفَّ عن الامتداد معي، من جنوب إفريقيا حتى هنا، وكأنها طريق "القاهرة - الكاب" الذي كان البريطانيون يخططون لشقه حتى يربطوا بين مستعمراتهم في القارة السمراء المنهوبة، من أقصى جنوبها حتى أقصى الشمال، لكن مرور الزمن وتطورات الأمور لم تسمح للبريطانيين باستكمال مشروعهم مع زوال الظاهرة الاستعمارية. اشتعلت حروب التحرير، وبزغت آمال حركات التحرر الوطني في كل القارة، ثم بردت الثورات وخمدت الفورات، وظهر استعمار جديد في معظم بلدان إفريقيا، استعمار غريب عجيب من بعض أبناء القارة المنهوبة نفسها، استعمار لا يقل شراهة في التسلط والنهب عن الاستعمار الأجنبي، بل يتفوق أفراده في التخريب الاقتصادي والتشريعي والقيمي إلى درجة الحماقة والعربدة. فما تفسير سلوك هؤلاء؟ وكيف تتوقَف عربدتهم؟ يعيدنا ظل حكاية الأفيال الرعناء إلى الحكاية نفسها، فنجد التفسير والحل، ونستعين بعلم النفس، فيتأكد التناظُر بين هذه الحيوانات مع هؤلاء البشر، وإن بعدت الشُقّة وتباينت الملامح. الأفيال الصغيرة الجانحة كان جنوحها راجعاً إلى افتقاد حكمة السلوك المكتسبة من قانون العيش المشترك في أُسر متماسكة للأفيال الإفريقية التي تقودها "الأم الكبيرة" أي الفيلة الأكبر سنا وحكمة بين الأمهات، وتحرسها فتوة وصرامة الآباء التي تحفّ بقوافل هذه الأفيال في سيرها الطويل عبر الغابة والبراري بحثا عن الماء والعشب. لكن بعض البشر المعربدين سياسياً واقتصادياً وتشريعياً وقيمياً في مجتمعاتهم وأوطانهم ليسوا يتامى، بل لهم في هذه الأوطان آباء وأمهات معظمهم أفاضل وفضليات، فمن أين جاءوا بهذه العربدة؟ هنا يتدخل علم النفس، ليقول لنا إن الأبوة والأمومة ليست مجرد وجود مادي، بل هي حضور قيَمي من شقين هما "المطريركية" و"البطريركية"، أو "سلطة الأب" و"سلطة الأم". سلطة الأم كما يراها عالم النفس "باخ أوفن" هي مبادئ اجتماعية وأخلاقية تؤكد علاقات الدم والارتباط بالأرض، بينما سلطة الأب هي نظام يحترم القانون ويتسم بالعقلانية. ويعمِّق عالم النفس "إيريك فروم" هذين المفهومين فيبين أن مبادئ سلطة الأم تؤكد أن الجميع سواسية حيث تحب الأم أطفالها كلهم بلا قيد ولا شرط، حباً لا تباين فيه كونهم جميعا أطفالها هي بالذات، ومن هذه الأمومة الوالدة تنشأ الأخوّة العامة لجميع البشر في ظل "سحر الأمومة". بل أكثر من ذلك يمتد "سحر الأمومة" هذا فيشمل بمحبته كل الكائنات الأخرى متخطياً حدود الذات؛ ليحافظ على وجود الغير ويُجمِّله، ومن هذا السحر الأمومي يبدأ كل نهوض إبداعي وأخلاقي، وكل نعمة في الحياة، وكل حب شديد وتفانٍ ورعاية. بل يمتد هذا السحر الأمومي ليشمل سلطة الأب بالتقدير والعرفان والتكميل والتهذيب، وعدم الجنوح بالصرامة والطاعة الأبوية إلى منحدرات التعسف والقمع. المسألة إذن تتطلب إعادة تربية هؤلاء المعربدين في الحِمى، كما أُعيدت تربية الأفيال الرعناء في المحمية، مع ملاحظة أن الرعونة البشرية ليست وقفاً على صغار السن، فهي لا تتوقف على العمر، وهي لا أم ولا أب لها إلا غطرسة الشعور بالقوة والانفراد، ومن ثم التمادي في استباحة ما يخص الإخوة من نفس الأم، الأرض، الوطن، وبعربدة صارت واضحة وفجّة ولا معقولة، وخطرة حتى على هؤلاء المعربدين أنفسهم، وعلى رُعاتهم، وعلى كل الأرض التي يعربدون في حماها. لهذا لزمت إعادة التربية، ولا أظن البشر طيّعين كالأفيال الصغيرة، فلا إعادة تربية لهؤلاء إلا بتمسكنا نحن بإعلاء قيم سلطة الأم السوية، واستعادة هيبة المبادئ في سلطة الأب السوية أيضا. باختصار: الإصرار على نهوض دولة الحق والعدل والحرية. نشر بجريدة الشروق 1 أبريل 2010