هل زاد سعر السكر في التموين ل 18 جنيه .. الحكومة توضح    8 شهداء بينهم 3 أطفال في قصف إسرائيلي شرق مدينة خان يونس    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على منزلين شرق خان يونس إلى 10 شهداء    زلزال بقوة 5.9 درجات يضرب "إيشيكاوا" اليابانية    سماع دوي انفجارات عنيفة في أوكرانيا    «مبيدافعش بنص جنيه».. تعليق صادم من خالد الغندور بشأن مستوى زيزو    أفشة يكشف ما دار مع كولر بعد مباراة مازيمبي.. ولوم بسبب فرصتين مهدرتين    خوسيلو: لا أعرف أين سألعب.. وبعض اللاعبين لم يحتفلوا ب أبطال أوروبا    أفشة ابن الناس الطيبين، 7 تصريحات لا تفوتك لنجم الأهلي (فيديو)    أفشة يكشف سر فيديو الطرمبة بجانب والدته، وسبب فشل شقيقه في كرة القدم    دولة عربية تحظر ارتداء الكوفية الفلسطينية في امتحان البكالوريا    جورج وسوف يحيي حفلا فنيا في دبي 28 يونيو    إعادة فتح طريق " قفط القصير" بعد نقل مصابي حادث تصادم سيارتين إلي مستشفى قنا    قريبًا إعلان نتيجة الشهادة الإعدادية 2024    محافظ بورسعيد يودع حجاج الجمعيات الأهلية.. ويوجه مشرفي الحج بتوفير سبل الراحة    تعرف على آخر تحديث لأسعار الذهب.. «شوف عيار 21 بكام»    محمد الباز ل«بين السطور»: «المتحدة» لديها مهمة في عمق الأمن القومي المصري    «زي النهارده».. وفاة النجم العالمي أنتوني كوين 3 يونيو 2001    أسامة القوصي ل«الشاهد»: الإخوان فشلوا وصدروا لنا مشروعا إسلاميا غير واقعي    فضل صيام العشر الأوائل من ذي الحجة وفقا لما جاء في الكتاب والسنة النبوية    «رئاسة الحرمين» توضح أهم الأعمال المستحبة للحجاج عند دخول المسجد الحرام    وزير الصحة: تكليف مباشر من الرئيس السيسي لعلاج الأشقاء الفلسطينيين    تكات المحشي لطعم وريحة تجيب آخر الشارع.. مقدار الشوربة والأرز لكل كيلو    إعلام فلسطينى: اندلاع حريق فى معسكر لجيش الاحتلال قرب بلدة عناتا شمالى القدس    إصابة 8 مدنيين إثر قصف أوكراني استهدف جمهورية دونيتسك    إنفوجراف.. مشاركة وزير العمل في اجتماعِ المجموعةِ العربية لمؤتمر جنيف    منتدى الأعمال المصري المجري للاتصالات يستعرض فرص الشراكات بين البلدين    أفشة: أنا أفضل لاعب في مصر.. واختيار رجل المباراة في الدوري «كارثة»    العثور على جثة طالبة بالمرحلة الإعدادية في المنيا    تنخفض لأقل سعر.. أسعار الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الإثنين 3 يونيو بالصاغة    أفشة: 95% من الناس في مصر لا تفهم ما يدور في الملعب.. والقاضية ظلمتني    موقف الشناوي من عرض القادسية السعودي    السجيني: نزول الأسعار تراوح من 15 ل 20 % في الأسواق    الذكاء الاصطناعي يحدث ثورة في الكشف المبكر عن قصور القلب    "التعليم": شرائح زيادة مصروفات المدارس الخاصة تتم سنويا قبل العام الدراسي    المأزوم.. عماد الدين أديب: اقتراحات بايدن لإنهاء الحرب حلحلة في صورة هدنة    الإفتاء تكشف عن تحذير النبي من استباحة أعراض الناس: من أشنع الذنوب إثمًا    دعاء في جوف الليل: اللهم افتح علينا من خزائن فضلك ورحمتك ما تثبت به الإيمان في قلوبنا    أصعب 24 ساعة.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم الإثنين: «درجات الحرارة تصل ل44»    دفن جثة شخص طعن بسكين خلال مشاجرة في بولاق الدكرور    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم دراجتين ناريتين بالوادي الجديد    دراسة صادمة: الاضطرابات العقلية قد تنتقل بالعدوى بين المراهقين    إصابة أمير المصري أثناء تصوير فيلم «Giant» العالمي (تفاصيل)    الفنان أحمد ماهر ينهار من البكاء بسبب نجله محمد (فيديو)    رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني يعلق على تطوير «الثانوية العامة»    «فرصة لا تعوض».. تنسيق مدرسة الذهب والمجوهرات بعد الاعدادية (مكافأة مالية أثناء الدراسة)    النيابة الإدارية تكرم القضاة المحاضرين بدورات مركز الدراسات القضائية بالهيئة    كوريا الشمالية توقف بالونات «القمامة» والجارة الجنوبية تتوعد برد قوي    عماد الدين حسين: مصر ترجمت موقفها بالتصدي لإسرائيل في المحافل الدولية    سعر المانجو والبطيخ والفاكهة في الأسواق اليوم الإثنين 3 يونيو 2024    استقرار سعر طن حديد عز والاستثمارى والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 3 يونيو 2024    محمد أحمد ماهر: لن أقبل بصفع والدى فى أى مشهد تمثيلى    حالة عصبية نادرة.. سيدة تتذكر تفاصيل حياتها حتى وهي جنين في بطن أمها    وزير العمل يشارك في اجتماع المجموعة العربية استعدادا لمؤتمر العمل الدولي بجنيف    التنظيم والإدارة: إتاحة الاستعلام عن نتيجة التظلم للمتقدمين لمسابقة معلم مساعد    اللجنة العامة ل«النواب» توافق على موزانة المجلس للسنة المالية 2024 /2025    مفتي الجمهورية: يجوز للمقيمين في الخارج ذبح الأضحية داخل مصر    أمناء الحوار الوطني يعلنون دعمهم ومساندتهم الموقف المصري بشأن القضية الفلسطينية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجامي رهين غربتَين: التصوف والشعر
نشر في صوت البلد يوم 03 - 06 - 2018

يقول عبدالرحمن الجامي في افتتاحية نصه البديع «يوسف وزليخا»: «يا إلهي، فكما أنعمتَ عليّ بقلب مفعم بالجواهر، اجعل لساني مبيناً لكنوز القلب، وعطر الدنيا بمسكي من أقصاها إلى أقصاها؛ واجعل لسان قلمي حلواً بأشعاري، واجعل صحيفتي معنبرة بعطري، فلم يعد للشِعر رونق، ولم يتبق من صحفه غير الاسم، ولم يعد متبقياً لدينا سوى الأحزان...
فهيا اخلع يا جامي الحياءَ، وقَدم ما عندك من صافي القول وثمالته».
وعي اغترابي بامتياز ذلك الذي يتجلى ناصعاً عبر مرايا نص مترع بزخم الشجن لدى الشاعر الصوفي العاشق رهين الغربتين، غربة الشاعر في زمان خلا من رونق الشعر، وكبار مبدعيه، ومرتادي محافله، وغربة الصوفي في هذا العالم الحسي الزائل العدمي الفاني.
بعبارة أخرى، إن الصوفي (الجامي) يعي وجوده في هذا العالم الشهادي بوصفه وجوداً مغترباً، ليس اغتراباً معرفياً وقيمياً، فحسب بل اغتراباً وجودياً بامتياز.
يقول ابن عربي: «أما غربة العارفين عن أوطانهم فهي مفارقتهم لإمكانهم، فإن الممكن وطنه الإمكان. ولما كان الممكن في وطنه الذي هو العدم مع ثبوت عينه سمع قول الحق له: كن، فسارع إلى الوجود، فكان ليرى موجوده، فاغترب عن وطنه؛ رغبة في شهود مَن قال له كن، فلما فتح عينه أشهده الحق أشكاله من المحدثات، ولم يشهد الحقَ الذي سارع في الوجود من أجله».
إن وعي الغربة هنا وكما يتبلور لدى العارفين المحققين، ومنهم الجامي العارف الصوفي، وأحد عاشقي النص الحاتمي (ابن عربي)، هو وعي بالاغتراب الوجودي الميتافيزيقي. ذلك أن الأصل هو قرار الممكن في وطنه (الإمكان) حين كان ممتلكاً لإمكانية الوجود، أو كما يطلق عليه ابن عربي (العدم الإمكاني) وهو ما يفصل بينه، وبين العدم المحض، مستحيل الوجود.
لكن هذا الممكن المنطوي على أشواق الوجود بطبيعته، حين سمع الأمر التكويني في قوله تعالى (كن)، سارع إلى الوجود، ليس تحقيقاً لأشواقه الوجودية فحسب، بل رغبة عارمة في مشاهدة مَن قال له (كن). حينئذ، غادر الممكن وطنه الأصلي، وبرز في مرآة العالم الشهادي.
عالم الظلال إذا قيس بعالم الحقيقة، عالم الغيب الملكوتي.
غير أن الممكن المخلوق حين فتح عينه لم يرَ الحق لكنه رأى نظائره من المخلوقات المحدثة التي هي مرايا لتجليات الحق سبحانه عبر أسمائه وصفاته فيها.
عندها أدرك العارف الصوفي (الجامي) أنه صار في وطن الغربة حيث معاناة شقاء الانفصال الوجودي المؤسي، وحيث ينبغي أن تبدأ رحلة العودة معرفياً وقيمياً من أجل استرداد حالة الائتناس الطازجة بالأصل في موطن الأنس والرفقة، وهو ما لا يتحقق إلا بالإيغال في عمق الغربة نأياً من الأصل من أجل الاقتراب منه!
في هذا الفضاء الاغترابي، مزدوج الدلالة، تتلاقى بل تمتزح في تفاعل جدلي حيوي وخلاق غربة الشاعر، وغربة الصوفي عبر ذلك التواشج اللغوي الرمزي بين مفردتي الناي، والنأي، فيمنحنا ذلك الشجن مساحة مترعة بالحس التراجيدي المؤسي، ونكهة الجمال المفرط اللاذعة!
إنه ما يتجلى رائقاً في نص جلال الدين الرومي، في بداية كتابه «المثنوي»، إذ يقول: «استمع إلى هذا الناي يأخذ في الشكاية، ومن الفرقات يمضي في الحكاية.
منذ أن كان من الغاب اقتلاعي، ضجم الرجال والنساء في صوت التياعي. أبتغي صدراً يمزقه الفراق، كي أبث شرح آلام الاشتياق، كل من يبقى بعيداً عن أصوله، لا يزال يروم أيام وصاله» [الرومي، المثنوي، ج 1، ص 35].
ويشرح الجامي ما قاله الرومي في ما يلي: «مَن هو الناي؟! إنه ذلك الذي يتحدث لحظة بعد لحظة قائلاً: أنا فانٍ عن نفسي باقٍ بالحق، وشقّ عني لباسُ الوجود دفعة واحدة. ولقد صرتُ لا أنبس بشفتي إلا ما قاله، سواء كان الفرقان أو الإنجيل أو الزبور».
هكذا يرى الجامي أن الناي هو ذلك العبد الفاني عن نفسه ووجوده، وكل ما سواه، والباقي بالحق، والذي لم يعدله علم سوى بالله، وكأنه استردّ لحظة أخذ العهد والميثاق حين كان لم يكن بعد في وطن القبضة، وحيث كان الإقرار بالربوبية حين أشهدنا الله على أنفسنا لحظة الذر. حينها، وحيث الأزل كان العبد، وكأنه موج القدم ذلك الذي ينتهي متلاشياً عند ساحل البحر الإلهي.
وإذا تحقق العبد بمبتغاه وصار ترجمان الحق عبره تنجلى كلماته التي لو كان البحر مداداً لما نفذت.
إنه الإنسان الكامل، موطن الأنس الإلهي، مَن استراح في ظل الحق وقال عنه ابن عربي في فصوصه ما يلي: «هو للحق بمنزلة إنسان العين من العين...
ولهذا سمّي إنساناً، فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم». وعود إلى الشاعر الجامي الصوفي المغترب، فربما نجد التباساً مثيراً ومدهشاً بين علاقة ذلك الشاعر الصوفي العاشق باللغة التي لم تعد لغة الشعراء، بل إنها أصبحت لغة سماوية نابعة من كون الشاعر الصوفي صوت الحق، ومن صوته وجد كلام الحق وجلاه الذي عبره يظهر في صوره المتنوعة (الفرقان، القرآن أو الإنجيل أو الزبور).
ولعله حين قال الفرقان بدلاً من القرآن إنما قصد الذي يفرق بين الحق والباطل، فيمتزج الوعي الرشيد بالحس الجمالي والحب والرحمة وموسيقى السماء.
ومن ها هنا يبدأ الجامي نصّه المارق، من مدارات البغي والتجاوز، وحيث يمتزج صفاء اللغة ونقاؤها الأصلي، أو المستحيل المشتهى، مع ثمالتها حين يفتقد البيان الجلي وتحل سكرة الخيال الجامحة، وتنفتح فضاءات التأويل المفتوح والثري. حين يغدو الحلم بوردة الخلد مشروعاً، ومتفتحاً عبر مرايا الكتابة الغائمة، وحيث يتبدى العالم المرئي محض ظل لعوالم الخيال الإلهية، ويصبح الكون عبقاً أسطورياً رغم كل ادعاءات الوجود الزائفة حينها ربما يلتقط الشاعر المسكين الفاني نقاء اللغة الوجودية، أو ما يمكن أن نطلق عليه المعنى الإلهي الوحشي، وللوصف دلالته، حيث لا يعرف إلا بالعجز عن إدراكه، أو كما يقول الجامي في عبارة ناصعة: «العقل مضطرب أمام ذاته، والطلب عاجز عن المعنى في طريقه... وعندما يرتفع صوت هيبة جلاله، في بلاطه الأبدي، فإن الملائكة تستحي من جهلها ويحار الفلك من دهشته، فخيرٌ لنا – نحن الحفنة بالرغبة – أن نجلو مرآتنا مِن صدأ الرغبة، ونلجأ إلى نسيان وجودنا، ونتخذ الصمت ملاذاً لنا».
في فضاء الحيرة المعرفية الثرية لا سبيل إلا الصمت، وهو ليس نقيض الكلام، بل هو تلك اللغة الوجودية النقية، لأنه الصمت الوجودي الأصلي، حيث لا رغبة ولا إرادة إلا إرادة الذات الإلهية ووجودها الأحادي المصمت، وقد انصهرت في آفاقها كل الممكنات الوجودية والإرادات الغيبية والكونية، والإنسانية، فما ثم إلا العودة للأصل الأحادي في ما وراء ثنائيات المعرفة والوجود والقيم!
لكنه وحده الشاعر من يمتلك الروح الحرة الباغية الجامحة، صاحب الخيال الفاتن من يستطيع أن يقتحم فضاءات الحيرة الخصبة، متقلباً مع تجليات الألوهية التي لا تتكرر وتتسع إلى ما لا نهاية.
ذلك أن المساحة الوحيدة التي يمكن أن تتلاقى داخلها النقائض المستحيلة، الإلهي منها والإنساني، هي مساحة الخيال بعوالمه العجائبية المدهشة.
فما ثم إلا حلم الشاعر وجنونه وخياله الشطحي ولغته المضيعة لنصاعة البيان، والمترعة بزخم الأساطير ووهج الخمر الفردوسية الصافية!
وحده هذا الحلم الشعري الخيالي الأسطوري الذي يستطيع أن يمنحنا لائحاً سريع الزوال من نفحة الخلود، وإحساساً عذباً بالمنحة الوجودية الأولى، ناهيك بسكرة العصيان وعذاب الانفصال بوصفه شقاء وجودياً ومعرفياً، لكنه رغم كل هذا يشكل ذروة تحقيق الإنسان بماهيته الحقة في ممالك الدهشة، إذ يتفاعل التراجيدي والجمالي جدلياً في لحظة المباغتة الوجودية الأولى حين اكتشاف محنة الوجود المستعار وحميمية المغايرة!
لكنه الاحتفاء بمزيج الجمال/ الجلال حيث يهيمن الشاعر ظل الإله، أو هذا ما اشتهاه الجامي، وتجرأ على طلبه، مواجهاً حرية الاختيار المستحيلة، وباحثاً عن خلوده في طينة العدم، ساعياً للتحرر من أسر الصور متأرجحاً في سعيه بين اليأس والرجاء، وقد انعكست أحلامه متكشفة عبر مرايا يوسف وزليخة، وقصة من أجمل قصص العشق الإنساني أو هذا ما نظن!
يقول عبدالرحمن الجامي في افتتاحية نصه البديع «يوسف وزليخا»: «يا إلهي، فكما أنعمتَ عليّ بقلب مفعم بالجواهر، اجعل لساني مبيناً لكنوز القلب، وعطر الدنيا بمسكي من أقصاها إلى أقصاها؛ واجعل لسان قلمي حلواً بأشعاري، واجعل صحيفتي معنبرة بعطري، فلم يعد للشِعر رونق، ولم يتبق من صحفه غير الاسم، ولم يعد متبقياً لدينا سوى الأحزان...
فهيا اخلع يا جامي الحياءَ، وقَدم ما عندك من صافي القول وثمالته».
وعي اغترابي بامتياز ذلك الذي يتجلى ناصعاً عبر مرايا نص مترع بزخم الشجن لدى الشاعر الصوفي العاشق رهين الغربتين، غربة الشاعر في زمان خلا من رونق الشعر، وكبار مبدعيه، ومرتادي محافله، وغربة الصوفي في هذا العالم الحسي الزائل العدمي الفاني.
بعبارة أخرى، إن الصوفي (الجامي) يعي وجوده في هذا العالم الشهادي بوصفه وجوداً مغترباً، ليس اغتراباً معرفياً وقيمياً، فحسب بل اغتراباً وجودياً بامتياز.
يقول ابن عربي: «أما غربة العارفين عن أوطانهم فهي مفارقتهم لإمكانهم، فإن الممكن وطنه الإمكان. ولما كان الممكن في وطنه الذي هو العدم مع ثبوت عينه سمع قول الحق له: كن، فسارع إلى الوجود، فكان ليرى موجوده، فاغترب عن وطنه؛ رغبة في شهود مَن قال له كن، فلما فتح عينه أشهده الحق أشكاله من المحدثات، ولم يشهد الحقَ الذي سارع في الوجود من أجله».
إن وعي الغربة هنا وكما يتبلور لدى العارفين المحققين، ومنهم الجامي العارف الصوفي، وأحد عاشقي النص الحاتمي (ابن عربي)، هو وعي بالاغتراب الوجودي الميتافيزيقي. ذلك أن الأصل هو قرار الممكن في وطنه (الإمكان) حين كان ممتلكاً لإمكانية الوجود، أو كما يطلق عليه ابن عربي (العدم الإمكاني) وهو ما يفصل بينه، وبين العدم المحض، مستحيل الوجود.
لكن هذا الممكن المنطوي على أشواق الوجود بطبيعته، حين سمع الأمر التكويني في قوله تعالى (كن)، سارع إلى الوجود، ليس تحقيقاً لأشواقه الوجودية فحسب، بل رغبة عارمة في مشاهدة مَن قال له (كن). حينئذ، غادر الممكن وطنه الأصلي، وبرز في مرآة العالم الشهادي.
عالم الظلال إذا قيس بعالم الحقيقة، عالم الغيب الملكوتي.
غير أن الممكن المخلوق حين فتح عينه لم يرَ الحق لكنه رأى نظائره من المخلوقات المحدثة التي هي مرايا لتجليات الحق سبحانه عبر أسمائه وصفاته فيها.
عندها أدرك العارف الصوفي (الجامي) أنه صار في وطن الغربة حيث معاناة شقاء الانفصال الوجودي المؤسي، وحيث ينبغي أن تبدأ رحلة العودة معرفياً وقيمياً من أجل استرداد حالة الائتناس الطازجة بالأصل في موطن الأنس والرفقة، وهو ما لا يتحقق إلا بالإيغال في عمق الغربة نأياً من الأصل من أجل الاقتراب منه!
في هذا الفضاء الاغترابي، مزدوج الدلالة، تتلاقى بل تمتزح في تفاعل جدلي حيوي وخلاق غربة الشاعر، وغربة الصوفي عبر ذلك التواشج اللغوي الرمزي بين مفردتي الناي، والنأي، فيمنحنا ذلك الشجن مساحة مترعة بالحس التراجيدي المؤسي، ونكهة الجمال المفرط اللاذعة!
إنه ما يتجلى رائقاً في نص جلال الدين الرومي، في بداية كتابه «المثنوي»، إذ يقول: «استمع إلى هذا الناي يأخذ في الشكاية، ومن الفرقات يمضي في الحكاية.
منذ أن كان من الغاب اقتلاعي، ضجم الرجال والنساء في صوت التياعي. أبتغي صدراً يمزقه الفراق، كي أبث شرح آلام الاشتياق، كل من يبقى بعيداً عن أصوله، لا يزال يروم أيام وصاله» [الرومي، المثنوي، ج 1، ص 35].
ويشرح الجامي ما قاله الرومي في ما يلي: «مَن هو الناي؟! إنه ذلك الذي يتحدث لحظة بعد لحظة قائلاً: أنا فانٍ عن نفسي باقٍ بالحق، وشقّ عني لباسُ الوجود دفعة واحدة. ولقد صرتُ لا أنبس بشفتي إلا ما قاله، سواء كان الفرقان أو الإنجيل أو الزبور».
هكذا يرى الجامي أن الناي هو ذلك العبد الفاني عن نفسه ووجوده، وكل ما سواه، والباقي بالحق، والذي لم يعدله علم سوى بالله، وكأنه استردّ لحظة أخذ العهد والميثاق حين كان لم يكن بعد في وطن القبضة، وحيث كان الإقرار بالربوبية حين أشهدنا الله على أنفسنا لحظة الذر. حينها، وحيث الأزل كان العبد، وكأنه موج القدم ذلك الذي ينتهي متلاشياً عند ساحل البحر الإلهي.
وإذا تحقق العبد بمبتغاه وصار ترجمان الحق عبره تنجلى كلماته التي لو كان البحر مداداً لما نفذت.
إنه الإنسان الكامل، موطن الأنس الإلهي، مَن استراح في ظل الحق وقال عنه ابن عربي في فصوصه ما يلي: «هو للحق بمنزلة إنسان العين من العين...
ولهذا سمّي إنساناً، فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم». وعود إلى الشاعر الجامي الصوفي المغترب، فربما نجد التباساً مثيراً ومدهشاً بين علاقة ذلك الشاعر الصوفي العاشق باللغة التي لم تعد لغة الشعراء، بل إنها أصبحت لغة سماوية نابعة من كون الشاعر الصوفي صوت الحق، ومن صوته وجد كلام الحق وجلاه الذي عبره يظهر في صوره المتنوعة (الفرقان، القرآن أو الإنجيل أو الزبور).
ولعله حين قال الفرقان بدلاً من القرآن إنما قصد الذي يفرق بين الحق والباطل، فيمتزج الوعي الرشيد بالحس الجمالي والحب والرحمة وموسيقى السماء.
ومن ها هنا يبدأ الجامي نصّه المارق، من مدارات البغي والتجاوز، وحيث يمتزج صفاء اللغة ونقاؤها الأصلي، أو المستحيل المشتهى، مع ثمالتها حين يفتقد البيان الجلي وتحل سكرة الخيال الجامحة، وتنفتح فضاءات التأويل المفتوح والثري. حين يغدو الحلم بوردة الخلد مشروعاً، ومتفتحاً عبر مرايا الكتابة الغائمة، وحيث يتبدى العالم المرئي محض ظل لعوالم الخيال الإلهية، ويصبح الكون عبقاً أسطورياً رغم كل ادعاءات الوجود الزائفة حينها ربما يلتقط الشاعر المسكين الفاني نقاء اللغة الوجودية، أو ما يمكن أن نطلق عليه المعنى الإلهي الوحشي، وللوصف دلالته، حيث لا يعرف إلا بالعجز عن إدراكه، أو كما يقول الجامي في عبارة ناصعة: «العقل مضطرب أمام ذاته، والطلب عاجز عن المعنى في طريقه... وعندما يرتفع صوت هيبة جلاله، في بلاطه الأبدي، فإن الملائكة تستحي من جهلها ويحار الفلك من دهشته، فخيرٌ لنا – نحن الحفنة بالرغبة – أن نجلو مرآتنا مِن صدأ الرغبة، ونلجأ إلى نسيان وجودنا، ونتخذ الصمت ملاذاً لنا».
في فضاء الحيرة المعرفية الثرية لا سبيل إلا الصمت، وهو ليس نقيض الكلام، بل هو تلك اللغة الوجودية النقية، لأنه الصمت الوجودي الأصلي، حيث لا رغبة ولا إرادة إلا إرادة الذات الإلهية ووجودها الأحادي المصمت، وقد انصهرت في آفاقها كل الممكنات الوجودية والإرادات الغيبية والكونية، والإنسانية، فما ثم إلا العودة للأصل الأحادي في ما وراء ثنائيات المعرفة والوجود والقيم!
لكنه وحده الشاعر من يمتلك الروح الحرة الباغية الجامحة، صاحب الخيال الفاتن من يستطيع أن يقتحم فضاءات الحيرة الخصبة، متقلباً مع تجليات الألوهية التي لا تتكرر وتتسع إلى ما لا نهاية.
ذلك أن المساحة الوحيدة التي يمكن أن تتلاقى داخلها النقائض المستحيلة، الإلهي منها والإنساني، هي مساحة الخيال بعوالمه العجائبية المدهشة.
فما ثم إلا حلم الشاعر وجنونه وخياله الشطحي ولغته المضيعة لنصاعة البيان، والمترعة بزخم الأساطير ووهج الخمر الفردوسية الصافية!
وحده هذا الحلم الشعري الخيالي الأسطوري الذي يستطيع أن يمنحنا لائحاً سريع الزوال من نفحة الخلود، وإحساساً عذباً بالمنحة الوجودية الأولى، ناهيك بسكرة العصيان وعذاب الانفصال بوصفه شقاء وجودياً ومعرفياً، لكنه رغم كل هذا يشكل ذروة تحقيق الإنسان بماهيته الحقة في ممالك الدهشة، إذ يتفاعل التراجيدي والجمالي جدلياً في لحظة المباغتة الوجودية الأولى حين اكتشاف محنة الوجود المستعار وحميمية المغايرة!
لكنه الاحتفاء بمزيج الجمال/ الجلال حيث يهيمن الشاعر ظل الإله، أو هذا ما اشتهاه الجامي، وتجرأ على طلبه، مواجهاً حرية الاختيار المستحيلة، وباحثاً عن خلوده في طينة العدم، ساعياً للتحرر من أسر الصور متأرجحاً في سعيه بين اليأس والرجاء، وقد انعكست أحلامه متكشفة عبر مرايا يوسف وزليخة، وقصة من أجمل قصص العشق الإنساني أو هذا ما نظن!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.