الاستعلام عن نتيجة الامتحان الالكتروني للمتقدمين لمسابقة شغل 243 وظيفة بوزارة العدل    يونس: أعضاء قيد "الصحفيين" لم تحدد موعدًا لاستكمال تحت التمرين والمشتغلين    مع اقتراب عيد الأضحى وحتى لا تنخدع.. اعرف الفرق بين اللحم البقري والجاموسي    أهم الملفات أمام وزير التضامن الجديد | تقرير    تموين الإسكندرية تشكل غرفة عمليات لمتابعة توافر السلع استعدادا لعيد الأضحى    خلال تجمع البريكس.. وزير النقل يبحث مع نظرائه بالإمارات وروسيا توطين الصناعة بمصر    وزير المالية: التأمين الصحي الشامل يجذب القطاع الخاص ويشجع التنافسية    جيش الاحتلال الإسرائيلي يهاجم مواقع لحزب الله بلبنان    وزير الرياضة: حسام حسن وصلاح «موضوع منتهي»    ضياء السيد: حسام حسن غير طريقة لعب منتخب مصر لرغبته في إشراك كل النجوم    الموجة الحارة مستمرة وانخفاض 6 درجات الأحد المقبل في المنيا    تحرير 9 محاضر لمخابز مخالفة ببلطيم في كفر الشيخ    100 لجنة لاستقبال 37 ألف و 432 طالباً وطالبة بامتحانات الثانوية العامة في المنيا    السيطرة على حريق نشب بشقة في منطقة المنيب دون إصابات    رئيس بعثة الحج: انتهاء تفويج الحجاج من القاهرة إلى المدينة المنورة    للمرة الأولى.. وزيرة الثقافة وسفير اليونان يشهدان عرض"الباليه الوطني اليوناني" بالأوبرا    إطلالة جريئة ل حلا شيحة في «زفاف جميلة عوض».. وأحمد سعد: «عاملين بلاوي» (صور)    القاهرة الإخبارية: بلينكن يسعى خلال زيارته لإسرائيل للتوصل لاتفاق تهدئة بغزة    «السبكى»: توقيع عقدي تعاون لتعزيز السياحة العلاجية ضمن «نرعاك في مصر»    المتحدة للخدمات الإعلامية تعلن تضامنها الكامل مع الإعلامية قصواء الخلالي    واشنطن تطالب إسرائيل بالشفافية عقب غارة على مدرسة الأونروا    التعليم العالي: إدراج 15 جامعة مصرية في تصنيف QS العالمي لعام 2025    إصابة 7 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بالطريق الدائري بالقليوبية    الموقع الرسمي ل نتيجة الشهادة الإعدادية محافظة القليوبية 2024 الترم الثاني (تظهر خلال ساعات)    ذا جارديان: "حزب العمال البريطانى" قد يعلن قريبا الاعتراف بدولة فلسطينية    لوكاكو يكشف إمكانية إنتقاله للدوري السعودي في الموسم الجديد    ماكرون يرحب بزيلينسكي في قصر الإليزيه    خالد جلال ناعيًا محمد لبيب: ترك أثرًا طيبًا    سلوى عثمان تكشف مواقف تعرضت لها مع عادل إمام    تعرف على فضل صيام التسعة أيام الأوائل من ذي الحجة    صيام العشر الأول من ذي الحجة 2024.. حكمها وفضلها والأعمال المستحبة بها    خلاف داخل الناتو بشأن تسمية مشروع دعم جديد لأوكرانيا    قافلة طبية مجانية بقرى النهضة وعائشة في الوادي الجديد    مرسى جميل عزيز l ملك الحروف .. و موسيقار الكلمات    خبراء عسكريون: الجمهورية الجديدة حاربت الإرهاب فكريًا وعسكريًا ونجحت فى مشروعات التنمية الشاملة    الإسكان: تم وجارٍ تنفيذ 11 مشروعًا لمياه الشرب وصرف صحى الحضر لخدمة أهالى محافظة مطروح    مداهمات واقتحامات ليلية من الاحتلال الإسرائيلي لمختلف مناطق الضفة الغربية    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 7 يونيو 2024.. ترقيه جديدة ل«الحمل» و«السرطان»يستقبل مولودًا جديدًا    منتخب السودان يتصدر مجموعة تصفيات كأس العالم على حساب السنغال    الأخضر بكامِ ؟.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري في تعاملات اليوم الجمعة 7 يونيو 2024    تفشي سلالة من إنفلونزا الطيور في مزرعة دواجن خامسة بأستراليا    افتتاح المهرجان الختامي لفرق الأقاليم ال46 بمسرح السامر بالعجوزة غدًا    مفاجأة.. دولة عربية تعلن إجازة عيد الأضحى يومين فقط    الأوقاف تفتتح 25 مساجد.. اليوم الجمعة    رغم الفوز.. نبيل الحلفاوي ينتقد مبارة مصر وبوركينا فاسو .. ماذا قال؟    الصيادلة: الدواء المصري حتى بعد الزيادة الأرخص في العالم    ما قانونية المكالمات الهاتفية لشركات التسويق العقاري؟ خبير يجيب (فيديو)    10.2 مليار جنيه قيمة التداول بالبورصة خلال جلسة نهاية الأسبوع    أمين الفتوى: إعداد الزوجة للطعام فضل منها وليس واجبا    «صلاة الجمعة».. مواقيت الصلاة اليوم في محافظات مصر    مجلس الزمالك يلبي طلب الطفل الفلسطيني خليل سامح    عيد الأضحى 2024| أحكام الأضحية في 17 سؤال    ساتر لجميع جسدها.. الإفتاء توضح الزي الشرعي للمرأة أثناء الحج    غانا تعاقب مالي في الوقت القاتل بتصفيات كأس العالم 2026    حظ عاثر للأهلي.. إصابة ثنائي دولي في ساعات    إبراهيم حسن: الحكم تحامل على المنتخب واطمئنان اللاعبين سبب تراجع المستوى    في عيد تأسيسها الأول.. الأنبا مرقس يكرس إيبارشية القوصية لقلب يسوع الأقدس    بمكون سحري وفي دقيقة واحدة .. طريقة تنظيف الممبار استعدادًا ل عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إريك إيمانويل شميت: الشرّ والخير يصنعان الإنسان
نشر في صوت البلد يوم 25 - 02 - 2018

قد يجهل القارئ العربي اسم الكاتب الفرنسي إريك إيمانويل شميت، ولكن ما إن تذكر اسم روايته الشهيرة «ميسيو إبراهيم وزهور القرآن» حتى يستفيض حديثاً عن كتابٍ تُرجم إلى العربية ولغات عالمية كثيرة، قبل أن يستحيل فيلماً بديعاً من بطولة عمر الشريف. هو أيضاً صاحب «الجانب الآخر»، الرواية التي أثارت سجالاً عالمياً بعدما قدّمت للمرة الأولى شخصية هيلتر بصورة مغايرة عما عهدناه في الكتب والأفلام، متناولاً هذه الظاهرة الديكتاتورية بأسلوب يمزج بين التخييل الإبداعي والتحليل النفسي.
وفي إطار زيارته الأخيرة بيروت، التقت «الحياة» شميت، الروائي والمسرحي وأستاذ الفلسفة، للحديث عن مجموعته القصصية الجديدة «انتقام الغفران» (Albin Michel) وعن دوره في لجنة تحكيم جائزة «غونكور»، إضافة إلى موضوعات أدبية وفنية أخرى...

- لنبدأ من كتابك الأحدث «انتقام الغفران»... إنه يعرض أربع قصص تتأرجح بين تيمتي «العفو» و «الانتقام» من خلال أربعة مصائر لشخصياتٍ عاشت مصادفات كثيرة نتيجة تحولات قدرية غير مفهومة في معظم الأحيان. ومن يقرأ المجموعة لا بدّ أن يسترجع ثنائية العفو والانتقام التي طغت على النصوص الدينية. فهل تقصّدت مقاربة الموضوع من سياقه الروحاني إم أنك فضّلت تقديم فكرة العفو ونقيضها في بعدها الفلسفي؟
فكرة الغفران ونقيضها موجودة أولاً في النصّ الديني، لذا يصعب علينا إخراجها من سياقها الروحاني. لكنّ الأمر تطّور صارت ثنائية الغفران الانتقام مادة فلسفية في القرن الثامن عشر مع كانط، لتتطور مع فلاسفة آخرين في القرون التالية. وبالنسبة إليّ، أظنّ أنّ الإنسان - بمعزل عن قناعاته الدينية أو الفلسفية - عليه أن يطرح على نفسه أسئلة قد تمنح الأشياء معانيها في هذه الحياة الغريبة. القصص قد تُقرأ بأسلوبين، لكنّها - على اختلاف تفاصيلها - تقدّم فكرة «الفداء» بالطريقة ذاتها تقريباً، وهي من التيمات الراسخة في النص الديني طبعاً. لكنني تناولت مسألة الفداء تحليلياً نفسياً: كيفية تلقّي التجربة، قرار التحوّل، تصويب الذات.
ولكن، هل ننجح فعلاً في أن نتغيّر؟ هذا السؤال يحضر طبعاً، إضافة إلى أسئلة أخرى مثل: هل نحن ضحايا أنفسنا؟ ضحايا الآخرين؟ أم ضحايا القدر ومفاجآته؟ إنها أسئلة وجودية تعزّزها التأملات الروحانية مثلما تعززها القراءات الفلسفية. الإنسان نفسه هو المعضلة. هل يعفو أم ينتقم؟ هذا ما يُطالعنا إزاء قراءة القصص الأربع التي تقدّم شخصيات تتعرّض لمواقف عبثية، قدرية، لا يد لها فيها إلّا أنها تدفعها إلى أن تعيد النظر في وجودها وأفكارها لتُحقق أخيراً لحظة وعيها. لكي تتغيّر وتتطوّر.
- تحكي القصة الأولى من المجموعة عن شقيقتين توأمين تجمعهما علاقة عجيبة تختلط فيها مشاعر الأخوة والحب والارتباط بمشاعر نقيضة مثل الغيرة والكره والجفاء... هل أردت أن تكون هذه القصة «الحديثة» صدًى لقصة هابيل وقابيل المعروفة؟
نعم، أحبّ دائماً العودة إلى الحكايات الموروثة والأساطير، أكانت حاضرة في النصوص المقدسة أو في القصص الإغريقية القديمة، ثم أعمل على تقديمها في سياق راهن. لقد أقحمت فعلاً قصة هابيل وقابيل في قصة التوأمين، بطريقة خفية، لأنني أحبّ أن أعود إلى الموضوعات التي تناولتها الأديان قديماً، ومن ثم أعلمنها وأضعها في سياقها الواقعي الحدثاوي الراهن. قصة الشقيقتين هذه تحوي درساً من المهم أن نلتفت إليه جميعاً، وهو أنّ مشاعر الحبّ والبغض لا تقتصر فقط على علاقتنا بالغرباء، بل إنّ الإخوة أيضاً يحدث بينهم كره وقطيعة وانتقام. هذا الموضوع ليس آنياً، بل إنه أزلي. وإن دققنا في المسألة هذه فسنفهم الطبيعة البشرية أكثر، ولربما سنرى إلى الآخر بعينٍ أكثر رأفة ورحمة.
من يتأمّل هذا العالم، منذ وجوده إلى اليوم، يتأكّد أنّ المشكلة ليست في الأيديولوجيا وإنما في علاقة الإنسان مع هذه الأيديولوجيا، وليست في الدين وإنما في علاقة الإنسان مع الأديان. في داخل كلّ منّا وحش نسجنه في قفص حتى لا يخرج منّا وينتبه الآخر إلى عدوانيتنا، ولكن يحدث أحياناً أن يُحرّر بعضهم الوحش الكامن داخله فيقتل ويُرهّب ويُعنّف.
- من يتابع مسيرتك الإبداعية يرى أنّك تسعى إلى تصحيح مفهومنا عن الآخر. وهذا ما برز في مجموعتك القصصية الجديدة تماماً كما في أعمال سابقة مثل «ميسيو إبراهيم وزهور القرآن» أو في «الجانب الآخر». هل تعتقد أنّ الأدب قادر على إحداث تغيير ما في زمن تتفاقم فيه آفات الكره والتعصّب والخوف من الآخر؟
انطلاقاً من التزامي الأدبي، أحاول دائماً في كل عمل أقدمه أنّ أحمّل القارئ مسؤولية ما. أسعى إلى أن أكشف له زاوية قد لا يكون التفت إليها سابقاً. الآخر جزء منّا. وجود «الأنا» يرتبط بوجود «الآخر». وما نخاف منه لدى الآخر ربما يكون داخلنا من دون أن ندرك ذلك. نتعامل مع الآخر أحياناً بالطريقة نفسها التي تعاطى فيها الفتى اليهودي موييس (موسى) مع الشيخ العربي المسلم إبراهيم، قبل أن تولد بينهما صداقة قوية تجعله يكتشف أنّ ما سمعه من أبيه عن المسلمين لا ينطبق بتاتاً على السيّد الطيّب إبراهيم. الرواية لم تكن دعوة «فولكلورية» إلى الحب والتسامح، وإنما حثّ الناس على ضرورة التخلّص من الأحكام المسبقة والاستفادة من تجاربنا بغية تحقيق التحوّل الجذري.
- هل أنت من اختار عمر الشريف لأداء شخصية السيد إبراهيم؟ كيف وجدته؟ وهل كان كما تخيلته أثناء كتابتك الرواية؟
عمر الشريف كان اختيارنا الأول وسعدنا جميعاً عندما وافق على الدور. هو شخص أكثر من رائع، إنسانياً وفنياً. أحببته كثيراً في الدور كما أحبّه العالم كلّه. منح دور إبراهيم بعداً وجدانياً رهيباً. كان لي فرصة أن أتعرف إليه عن كثب قبل رحيله، وكنّا على اتصال دائم، فوجدته شخصية مبهرة في الواقع كما في الأفلام. وما زلت أذكر فرحة أمي حين علمت أن عمر الشريف سيمثّل في فيلم مقتبس عن روايتي، يومذاك فقط اعتبرتني كاتباً ناجحاً، على رغم كل الأعمال التي كتبتها والجوائز التي حصدتها.
- بالعودة إلى رواياتك، قدمت في «الجانب الآخر» صورة مزدوجة عن شخصية هتلر. بعضهم وجد في هذه المقاربة الجديدة تبريراً لعنف زعيم النازية الأشهر، ما عرّضك لهجوم عنيف من بعض القرّاء، لا سيما اليهود. ولكن، ما كان هدفك من وراء هذا العمل؟
نعم، هي صورة مزدوجة عن ظاهرة وضعت دائماً في إطار واحد. قدمت الصورة الحقيقية والمتخيلة عن هتلر. في الأولى، عرضت مسيرة أدولف الذي ترك كلية الفنون وأصبح ديكتاتوراً نازياً، وفي الثانية جعلته يدخل كلية الفنون وينجح في دراسته فيها ليصير فناناً يهتم بالجمال والإبداع بدلاً من الكره والقتل. ولم يكن قصدي تبرير سلوكاته الديكتاتورية الرهيبة، وإنما أحببت تقديم تفسيرات أخرى للواقع، أو ربما تخيّل ما كان يمكن حدوثه لو تغيّرت الظروف المحيطة. وفي هذا العمل، ثمة رفض للأفكار المطلقة وبحث عميق في الداخل الإنساني المنقسم بين خيرٍ وشرّ. هذه الفلسفة تجعلنا أكثر تقبلاً للآخر ومسامحة له. الالتزام هو أن نضع القراء أمام مسؤولية تتلخّص في دراسة جميع الاحتمالات. أصدقائي اليهود رفضوا مقاربتي للموضوع نهائياً، وهناك قرّاء في ألمانيا ممن ينتمون إلى الجيل الذي عايش ويلات النازية وحروبها لم يتقبلوا الكتاب أيضاً. لكنّ الرواية لاقت إعجاب الجيل الجديد في ألمانيا وفي أوروبا، وحقق العمل انتشاراً واسعاً حول العالم لأنه قدّم كتابة جديدة ومختلفة، خارج الكتابات الجامدة كلّها حول ظاهرة هتلر وحقبته الزمنية.
- شاركت هذا العام عضواً في لجنة تحكيم الجائزة الفرنسية الأعرق «غونكور»، وفازت فيها رواية إريك فوييار التي تعود حوادثها إلى زمن الحرب العالمية الثانية. كيف وجدتها؟ وكيف تفسّر فوز رواية أخرى تتحدث عن الحقبة ذاتها «بجائزة رونودو»؟
قبل أن أجيبك، أحب أن أبيّن لك أنّ ما قدّمته في «الجانب الآخر» هو الطريقة العكسية لما قدمه فوييار في روايته الفائزة وعنوانها «جدول الأعمال». لقد اعتمدت مقاربة نفسية لموضوعي، بينما اهتم هو بالحوادث والمشاهد أكثر من الشخصيات، وهذا إن دلّ فعلى تباين الأساليب والطرائق بين الروائيين، وإن تناولوا الشخصيات أو الحقبات ذاتها.
«جدول الأعمال» التي حصدت «غونكور» تختلف أيضاً عن رواية أوليفيه غيز «اختفاء جوزف منغيليه» الفائزة بجائزة «رونودو». أراد بعضهم تبرير الأمر وتسييسه لكنها كانت مصادفة بحتاً. الروايتان جميلتان وتأخذان من الحرب العالمية الثانية إطاراً أساسياً للحوادث، لكنّ أجواءهما مختلفة تماماً. «جدول الأعمال» كتاب عن سلطة الأثرياء، عن القوة والمال ولعبة المصالح. تقتفي حكاية الصناعيين الألمان الكبار ممن عاشوا تحولات جذرية خلال الحرب. أمّا رواية غيز فتحكي القصة الحقيقية لهروب الطبيب النازي الذي وصل إلى الأرجنتين عام 1949 واختبأ خلف أسماء مستعارة كثيرة، معتقداً أن في إمكانه صنع حياة جديدة له في بوينس آيرس، لكنّه يظلّ ملاحقاً فيترك الأرجنتين، منتقلا إلى الباراغواي ومنها إلى البرازيل، متنكرا وقلقاً إلى أن يتم العثور عليه ميتاً في ظروفٍ غامضة على شاطئ عام 1979. هي رواية عن المطاردة وعن غياب الشعور بالذنب عند الإنسان المجرم.
- ماذا يعني لك ككاتب أن تكون محكّماً في لجنة غونكور؟
«غونكور» منحتني فرصة العودة إلى متابعة حركة النشر وقراءة الأعمال الروائية الجديدة. فأنا أعترف بأنني لا أقرأ عندما أكون منكباً على الكتابة، كأنني أحب أن أبقى سجيناً داخل عالمي المتخيّل من دون أن تشغلني مخيلات الآخرين. هذا إضافة إلى أنّ الكتابة، كما تعلمين، تسرق الوقت. لهذا، فإنني أكتب في النهار، وأشعر ليلا بأنني مستنزف تماماً وأحتاج إلى سماع الموسيقى فقط كي أحافظ على صفاء ذهني لأكمل عملي في اليوم التالي. وهنا أتذكّر جواب فيكتور هوغو الشهير حين سُئِل عمّا إذا كان يقرأ، فردّ قائلاً: «وهل البقرة تشرب الحليب؟».
وعندما اقتُرح عليّ أن أكون ضمن لجنة غونكور، قلتُ في نفسي أن هذا العمل سيدفعني إلى الخروج من عاداتي وأن أكتشف الكتابات الروائية الجديدة، وبالفعل تفاجأت بحجم المواهب الجديدة، لا سيما الأصوات الفرنكوفونية النسائية التي تكتب بجرأة عن موضوعات مهمة وآنية، وأذكر منها كوثر عضيمي وأليس زينيتير. ولعلّ اهتمام القرّاء بالأدب الفرنكوفوني اليوم ينبع من قوة الكلمة وتأثيرها لكونها تخرج من كتّاب يملكون ثراءً داخلياً نتيجة تنوّع ثقافاتهم وأهمية أسئلتهم حول مفاهيم ما زالت عالقة مثل أزمة الوجود والهوية المزدوجة والتعددية وغيرها.
قد يجهل القارئ العربي اسم الكاتب الفرنسي إريك إيمانويل شميت، ولكن ما إن تذكر اسم روايته الشهيرة «ميسيو إبراهيم وزهور القرآن» حتى يستفيض حديثاً عن كتابٍ تُرجم إلى العربية ولغات عالمية كثيرة، قبل أن يستحيل فيلماً بديعاً من بطولة عمر الشريف. هو أيضاً صاحب «الجانب الآخر»، الرواية التي أثارت سجالاً عالمياً بعدما قدّمت للمرة الأولى شخصية هيلتر بصورة مغايرة عما عهدناه في الكتب والأفلام، متناولاً هذه الظاهرة الديكتاتورية بأسلوب يمزج بين التخييل الإبداعي والتحليل النفسي.
وفي إطار زيارته الأخيرة بيروت، التقت «الحياة» شميت، الروائي والمسرحي وأستاذ الفلسفة، للحديث عن مجموعته القصصية الجديدة «انتقام الغفران» (Albin Michel) وعن دوره في لجنة تحكيم جائزة «غونكور»، إضافة إلى موضوعات أدبية وفنية أخرى...

- لنبدأ من كتابك الأحدث «انتقام الغفران»... إنه يعرض أربع قصص تتأرجح بين تيمتي «العفو» و «الانتقام» من خلال أربعة مصائر لشخصياتٍ عاشت مصادفات كثيرة نتيجة تحولات قدرية غير مفهومة في معظم الأحيان. ومن يقرأ المجموعة لا بدّ أن يسترجع ثنائية العفو والانتقام التي طغت على النصوص الدينية. فهل تقصّدت مقاربة الموضوع من سياقه الروحاني إم أنك فضّلت تقديم فكرة العفو ونقيضها في بعدها الفلسفي؟
فكرة الغفران ونقيضها موجودة أولاً في النصّ الديني، لذا يصعب علينا إخراجها من سياقها الروحاني. لكنّ الأمر تطّور صارت ثنائية الغفران الانتقام مادة فلسفية في القرن الثامن عشر مع كانط، لتتطور مع فلاسفة آخرين في القرون التالية. وبالنسبة إليّ، أظنّ أنّ الإنسان - بمعزل عن قناعاته الدينية أو الفلسفية - عليه أن يطرح على نفسه أسئلة قد تمنح الأشياء معانيها في هذه الحياة الغريبة. القصص قد تُقرأ بأسلوبين، لكنّها - على اختلاف تفاصيلها - تقدّم فكرة «الفداء» بالطريقة ذاتها تقريباً، وهي من التيمات الراسخة في النص الديني طبعاً. لكنني تناولت مسألة الفداء تحليلياً نفسياً: كيفية تلقّي التجربة، قرار التحوّل، تصويب الذات.
ولكن، هل ننجح فعلاً في أن نتغيّر؟ هذا السؤال يحضر طبعاً، إضافة إلى أسئلة أخرى مثل: هل نحن ضحايا أنفسنا؟ ضحايا الآخرين؟ أم ضحايا القدر ومفاجآته؟ إنها أسئلة وجودية تعزّزها التأملات الروحانية مثلما تعززها القراءات الفلسفية. الإنسان نفسه هو المعضلة. هل يعفو أم ينتقم؟ هذا ما يُطالعنا إزاء قراءة القصص الأربع التي تقدّم شخصيات تتعرّض لمواقف عبثية، قدرية، لا يد لها فيها إلّا أنها تدفعها إلى أن تعيد النظر في وجودها وأفكارها لتُحقق أخيراً لحظة وعيها. لكي تتغيّر وتتطوّر.
- تحكي القصة الأولى من المجموعة عن شقيقتين توأمين تجمعهما علاقة عجيبة تختلط فيها مشاعر الأخوة والحب والارتباط بمشاعر نقيضة مثل الغيرة والكره والجفاء... هل أردت أن تكون هذه القصة «الحديثة» صدًى لقصة هابيل وقابيل المعروفة؟
نعم، أحبّ دائماً العودة إلى الحكايات الموروثة والأساطير، أكانت حاضرة في النصوص المقدسة أو في القصص الإغريقية القديمة، ثم أعمل على تقديمها في سياق راهن. لقد أقحمت فعلاً قصة هابيل وقابيل في قصة التوأمين، بطريقة خفية، لأنني أحبّ أن أعود إلى الموضوعات التي تناولتها الأديان قديماً، ومن ثم أعلمنها وأضعها في سياقها الواقعي الحدثاوي الراهن. قصة الشقيقتين هذه تحوي درساً من المهم أن نلتفت إليه جميعاً، وهو أنّ مشاعر الحبّ والبغض لا تقتصر فقط على علاقتنا بالغرباء، بل إنّ الإخوة أيضاً يحدث بينهم كره وقطيعة وانتقام. هذا الموضوع ليس آنياً، بل إنه أزلي. وإن دققنا في المسألة هذه فسنفهم الطبيعة البشرية أكثر، ولربما سنرى إلى الآخر بعينٍ أكثر رأفة ورحمة.
من يتأمّل هذا العالم، منذ وجوده إلى اليوم، يتأكّد أنّ المشكلة ليست في الأيديولوجيا وإنما في علاقة الإنسان مع هذه الأيديولوجيا، وليست في الدين وإنما في علاقة الإنسان مع الأديان. في داخل كلّ منّا وحش نسجنه في قفص حتى لا يخرج منّا وينتبه الآخر إلى عدوانيتنا، ولكن يحدث أحياناً أن يُحرّر بعضهم الوحش الكامن داخله فيقتل ويُرهّب ويُعنّف.
- من يتابع مسيرتك الإبداعية يرى أنّك تسعى إلى تصحيح مفهومنا عن الآخر. وهذا ما برز في مجموعتك القصصية الجديدة تماماً كما في أعمال سابقة مثل «ميسيو إبراهيم وزهور القرآن» أو في «الجانب الآخر». هل تعتقد أنّ الأدب قادر على إحداث تغيير ما في زمن تتفاقم فيه آفات الكره والتعصّب والخوف من الآخر؟
انطلاقاً من التزامي الأدبي، أحاول دائماً في كل عمل أقدمه أنّ أحمّل القارئ مسؤولية ما. أسعى إلى أن أكشف له زاوية قد لا يكون التفت إليها سابقاً. الآخر جزء منّا. وجود «الأنا» يرتبط بوجود «الآخر». وما نخاف منه لدى الآخر ربما يكون داخلنا من دون أن ندرك ذلك. نتعامل مع الآخر أحياناً بالطريقة نفسها التي تعاطى فيها الفتى اليهودي موييس (موسى) مع الشيخ العربي المسلم إبراهيم، قبل أن تولد بينهما صداقة قوية تجعله يكتشف أنّ ما سمعه من أبيه عن المسلمين لا ينطبق بتاتاً على السيّد الطيّب إبراهيم. الرواية لم تكن دعوة «فولكلورية» إلى الحب والتسامح، وإنما حثّ الناس على ضرورة التخلّص من الأحكام المسبقة والاستفادة من تجاربنا بغية تحقيق التحوّل الجذري.
- هل أنت من اختار عمر الشريف لأداء شخصية السيد إبراهيم؟ كيف وجدته؟ وهل كان كما تخيلته أثناء كتابتك الرواية؟
عمر الشريف كان اختيارنا الأول وسعدنا جميعاً عندما وافق على الدور. هو شخص أكثر من رائع، إنسانياً وفنياً. أحببته كثيراً في الدور كما أحبّه العالم كلّه. منح دور إبراهيم بعداً وجدانياً رهيباً. كان لي فرصة أن أتعرف إليه عن كثب قبل رحيله، وكنّا على اتصال دائم، فوجدته شخصية مبهرة في الواقع كما في الأفلام. وما زلت أذكر فرحة أمي حين علمت أن عمر الشريف سيمثّل في فيلم مقتبس عن روايتي، يومذاك فقط اعتبرتني كاتباً ناجحاً، على رغم كل الأعمال التي كتبتها والجوائز التي حصدتها.
- بالعودة إلى رواياتك، قدمت في «الجانب الآخر» صورة مزدوجة عن شخصية هتلر. بعضهم وجد في هذه المقاربة الجديدة تبريراً لعنف زعيم النازية الأشهر، ما عرّضك لهجوم عنيف من بعض القرّاء، لا سيما اليهود. ولكن، ما كان هدفك من وراء هذا العمل؟
نعم، هي صورة مزدوجة عن ظاهرة وضعت دائماً في إطار واحد. قدمت الصورة الحقيقية والمتخيلة عن هتلر. في الأولى، عرضت مسيرة أدولف الذي ترك كلية الفنون وأصبح ديكتاتوراً نازياً، وفي الثانية جعلته يدخل كلية الفنون وينجح في دراسته فيها ليصير فناناً يهتم بالجمال والإبداع بدلاً من الكره والقتل. ولم يكن قصدي تبرير سلوكاته الديكتاتورية الرهيبة، وإنما أحببت تقديم تفسيرات أخرى للواقع، أو ربما تخيّل ما كان يمكن حدوثه لو تغيّرت الظروف المحيطة. وفي هذا العمل، ثمة رفض للأفكار المطلقة وبحث عميق في الداخل الإنساني المنقسم بين خيرٍ وشرّ. هذه الفلسفة تجعلنا أكثر تقبلاً للآخر ومسامحة له. الالتزام هو أن نضع القراء أمام مسؤولية تتلخّص في دراسة جميع الاحتمالات. أصدقائي اليهود رفضوا مقاربتي للموضوع نهائياً، وهناك قرّاء في ألمانيا ممن ينتمون إلى الجيل الذي عايش ويلات النازية وحروبها لم يتقبلوا الكتاب أيضاً. لكنّ الرواية لاقت إعجاب الجيل الجديد في ألمانيا وفي أوروبا، وحقق العمل انتشاراً واسعاً حول العالم لأنه قدّم كتابة جديدة ومختلفة، خارج الكتابات الجامدة كلّها حول ظاهرة هتلر وحقبته الزمنية.
- شاركت هذا العام عضواً في لجنة تحكيم الجائزة الفرنسية الأعرق «غونكور»، وفازت فيها رواية إريك فوييار التي تعود حوادثها إلى زمن الحرب العالمية الثانية. كيف وجدتها؟ وكيف تفسّر فوز رواية أخرى تتحدث عن الحقبة ذاتها «بجائزة رونودو»؟
قبل أن أجيبك، أحب أن أبيّن لك أنّ ما قدّمته في «الجانب الآخر» هو الطريقة العكسية لما قدمه فوييار في روايته الفائزة وعنوانها «جدول الأعمال». لقد اعتمدت مقاربة نفسية لموضوعي، بينما اهتم هو بالحوادث والمشاهد أكثر من الشخصيات، وهذا إن دلّ فعلى تباين الأساليب والطرائق بين الروائيين، وإن تناولوا الشخصيات أو الحقبات ذاتها.
«جدول الأعمال» التي حصدت «غونكور» تختلف أيضاً عن رواية أوليفيه غيز «اختفاء جوزف منغيليه» الفائزة بجائزة «رونودو». أراد بعضهم تبرير الأمر وتسييسه لكنها كانت مصادفة بحتاً. الروايتان جميلتان وتأخذان من الحرب العالمية الثانية إطاراً أساسياً للحوادث، لكنّ أجواءهما مختلفة تماماً. «جدول الأعمال» كتاب عن سلطة الأثرياء، عن القوة والمال ولعبة المصالح. تقتفي حكاية الصناعيين الألمان الكبار ممن عاشوا تحولات جذرية خلال الحرب. أمّا رواية غيز فتحكي القصة الحقيقية لهروب الطبيب النازي الذي وصل إلى الأرجنتين عام 1949 واختبأ خلف أسماء مستعارة كثيرة، معتقداً أن في إمكانه صنع حياة جديدة له في بوينس آيرس، لكنّه يظلّ ملاحقاً فيترك الأرجنتين، منتقلا إلى الباراغواي ومنها إلى البرازيل، متنكرا وقلقاً إلى أن يتم العثور عليه ميتاً في ظروفٍ غامضة على شاطئ عام 1979. هي رواية عن المطاردة وعن غياب الشعور بالذنب عند الإنسان المجرم.
- ماذا يعني لك ككاتب أن تكون محكّماً في لجنة غونكور؟
«غونكور» منحتني فرصة العودة إلى متابعة حركة النشر وقراءة الأعمال الروائية الجديدة. فأنا أعترف بأنني لا أقرأ عندما أكون منكباً على الكتابة، كأنني أحب أن أبقى سجيناً داخل عالمي المتخيّل من دون أن تشغلني مخيلات الآخرين. هذا إضافة إلى أنّ الكتابة، كما تعلمين، تسرق الوقت. لهذا، فإنني أكتب في النهار، وأشعر ليلا بأنني مستنزف تماماً وأحتاج إلى سماع الموسيقى فقط كي أحافظ على صفاء ذهني لأكمل عملي في اليوم التالي. وهنا أتذكّر جواب فيكتور هوغو الشهير حين سُئِل عمّا إذا كان يقرأ، فردّ قائلاً: «وهل البقرة تشرب الحليب؟».
وعندما اقتُرح عليّ أن أكون ضمن لجنة غونكور، قلتُ في نفسي أن هذا العمل سيدفعني إلى الخروج من عاداتي وأن أكتشف الكتابات الروائية الجديدة، وبالفعل تفاجأت بحجم المواهب الجديدة، لا سيما الأصوات الفرنكوفونية النسائية التي تكتب بجرأة عن موضوعات مهمة وآنية، وأذكر منها كوثر عضيمي وأليس زينيتير. ولعلّ اهتمام القرّاء بالأدب الفرنكوفوني اليوم ينبع من قوة الكلمة وتأثيرها لكونها تخرج من كتّاب يملكون ثراءً داخلياً نتيجة تنوّع ثقافاتهم وأهمية أسئلتهم حول مفاهيم ما زالت عالقة مثل أزمة الوجود والهوية المزدوجة والتعددية وغيرها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.