جامعة الأقصر تنظم قافلة طبية ضمن مبادرة حياة كريمة    هل يستطيع أبو تريكة العودة لمصر بعد قرار النقض؟ عدلي حسين يجيب    نقابه الصحفيين تقر قواعد جديدة للمنتسبين من الخارج وأساتذة الصحافة والإعلام    البنك المركزي يقترض 55 مليار جنيه عبر أذون الخزانة    البرنامج الوطني لإدارة المخلفات: 11.5 مليون جنيه لدعم عمال النظافة    تحرك برلماني جديد بشأن قانون الإيجار القديم    الحكومة تحتضن رجال الصناعة    سبب فشل فرق الإنقاذ في العثور على طائرة الرئيس الإيراني (فيديو)    ليفاندوفسكى يقود هجوم برشلونة أمام رايو فاليكانو فى الدوري الإسباني    بايدن: دعيت إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة    الزمالك هيكسب، رسائل من الجمهور ل هنادي مهنا أثناء تواجدها باستاد القاهرة    أشرف صبحي يكرم شابا بعد فوزه بالمركز الثاني على العالم في الطاقة المتجددة    مدير بطولة أفريقيا للساق الواحدة: مصر تقدم بطولة قوية ونستهدف تنظيم كأس العالم    العثور على جثة فتاة في ظروف غامضة بالمنيا    السائق أوقع بهما.. حبس خادمتين بتهمة سرقة ذهب غادة عبد الرازق    قصة حب عمرها 30 سنة.. حكاية زواج صابرين من عامر الصباح (فيديو)    محمد إمام يكشف عن البوسترات الرسمية لفيلم اللعب مع العيال (صور)    ختام ملتقى الأقصر الدولي في دورته السابعة بمشاركة 20 فنانًا    إرنا: خامنئي يطمئن الإيرانيين بعدم تأثر إدارة الدولة بحادث مروحية الرئيس    بمناسبة مباراة الزمالك ونهضة البركان.. 3 أبراج «متعصبة» كرويًا (تعرف عليهم)    الرعاية الصحية: 5 ملايين مستفيد من التأمين الصحي الشامل بمحافظات المرحلة الأولى    جامعة حلوان تنظم قوافل طبية توعوية بمناطق الإسكان الاجتماعي بمدينة 15 مايو    في اليوم العالمي للمتاحف.. المتحف المصري بالتحرير يستقبل 15 ألف زائر    رسائل المسرح للجمهور في عرض "حواديتنا" لفرقة قصر ثقافة العريش    حزب الريادة: مصر كان لها اليد العليا فى دعم أهالي غزة وإدخال المساعدات لهم    «نيويورك تايمز»: هجوم روسيا في منطقة خاركوف وضع أوكرانيا في موقف صعب    أبرزهم «اللبن الرائب».. 4 مشروبات لتبريد الجسم في ظل ارتفاع درجات الحرارة    بنك مصر يطرح ودائع جديدة بسعر فائدة يصل إلى 22% | تفاصيل    نهائي الكونفدرالية.. توافد جماهيري على استاد القاهرة لمساندة الزمالك    دار الإفتاء توضح ما يقال من الذكر والدعاء في الحرّ الشديد.. تعرف عليه    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    بايرن ميونيخ يعلن رحيل الثنائي الإفريقي    افتتاح أولى دورات الحاسب الآلي للأطفال بمكتبة مصر العامة بدمنهور.. صور    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    رجل يعيش تحت الماء 93 يوما ويخرج أصغر سنا، ما القصة؟    "أهلًا بالعيد".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 فلكيًا في مصر وموعد وقفة عرفات    مصرع شخص غرقًا في ترعة بالأقصر    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    «الإفتاء» توضح حكم حج وعمرة من يساعد غيره في أداء المناسك بالكرسي المتحرك    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    10 نصائح للطلاب تساعدهم على تحصيل العلم واستثمار الوقت    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    إصابة 4 أشخاص في مشاجرة بين عائلتين بالفيوم    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    نائب رئيس "هيئة المجتمعات العمرانية" في زيارة إلى مدينة العلمين الجديدة    «الرعاية الصحية»: طفرة غير مسبوقة في منظومة التأمين الطبي الشامل    ياسر إبراهيم: جاهز للمباريات وأتمنى المشاركة أمام الترجي في مباراة الحسم    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    حجازي يشارك في فعاليات المُنتدى العالمي للتعليم 2024 بلندن    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    سعر السكر اليوم.. الكيلو ب12.60 جنيه في «التموين»    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    أحمد أيوب: مصر تلعب دورا إنسانيًا ودبلوماسيًا لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هيثم حسين يخرج الذاكرة الكردية من عتمة الحرب
نشر في صوت البلد يوم 17 - 09 - 2017

منذ أن اشتعلت الحرب في سورية قبل ستّ سنوات تقريباً، بدأنا نشعر بحرارة الكتابات الروائية السورية وغزارتها. أعمال كثيرة ينشرها كتّاب سوريون، جدد ومكرّسون، بعضهم عالق بين الصمود والسقوط في الداخل، وبعضهم الآخر موزّع في أرجاء هذا العالم. الروايات كثيرة وهي بالتأكيد متفاوتة القيمة والجودة، لكنّها تعبّر- جميعها- عن حاجة عميقة إلى الكلام عمّا ظلّ مكتوماً في عتمات الداخل سنواتٍ طويلة.
ترسّخ رواية «عشبة ضارّة في الفردوس» (دار مسكيلياني ودار ميّارة)، للكاتب السوري المقيم في لندن هيثم حسين، هذه الرغبة العارمة في البوح بلا قيود. فالرواية تخالف في لعبة محكمة، الترتيب الزمني عبر استباقٍ تام لحادثة الغرق التي نعود إليها في الخاتمة. هكذا تبدأ الساردة حديثها منذ اللحظات الأخيرة في زمن الرواية: «لا أريد أن ينتشلني أحد من غرقي. هذه هي لحظة الانعتاق المطلقة التي ظللتُ أرنو إليها...» (ص 7).
وليس استمتاع الراوية بغرقها نوعاً من مازوشية مرضية، إنما رغبة بمواصلة صرخةٍ مدوية خرجت من أعماقها تحت مياه البحر، علماً أنّ «الصرخة» في قاموس السوري الذي عاش العهدين (الأب والابن) ليست سوى مرادف لمعنى الحريةٍ التي يتوق إليها الجميع.
يشكّل الماء مكان انطلاق الحدث الروائي، وهو رمز غنيّ الدلالات، يعني مرّة الخير والحياة والرزق، ومرّات الخوف والغموض والغرق. أمّا هنا فإنه يُشير في آنٍ إلى الدخول في الموت والخروج إلى الحياة، فكأنّه الشاهد على الولادة من عتمة الأرحام. ومن ذاك البرزخ العائم، تتوالد حكايات الراوية الرئيسة التي تسترجع ذكرياتها (حكايتها)، وبالتالي ذكريات (حيوات) أشخاصٍ آخرين في دائرتها، منهم والدها موروي، والدتها بهو، أختها جميلة، المساعد الأول، بريندار، نغم، وغيرهم.
تداخلات
تتقاطع الحكايات وتتكاثر الأحداث وتتنوّع الأمكنة وتختلف الأزمنة لكنها تظلّ مترابطة كأنها حديث واحد. ولعلّ التداخلات الكثيرة هي التي تجعل من الرواية بكاملها «حديثاً واحداً»، وهذا ما سبق أن شرحته الناقدة خالدة سعيد في أحد كتبها عندما أوضحت آلية التداخلات وقسّمتها إلى أنساقٍ تتخذ شكل التقاطع حيناً والتلاقي أحياناً. ولعلّ التداخلات الأولى تكمن في العاهات الجسدية عند معظم الشخصيات. فالابنة- الساردة وجدت نفسها على رأس مثلّث مأسوي يتألّف من أبٍ أعمى (موروي) وأم عرجاء (بهو)، وهي الابنة الدميمة، صاحبة القامة القصيرة والجسم الضائع بين الطفولة والذكورة، وربطة شعرها التي لا تغيرها وكأنّ الزمن قد تعطّل عندها. أمّا أختها جميلة، فهي اسم على مسمى، واستطاعت بمثالية شكلها أن تنجو بنفسها من ذاك المثلّث: «كنتُ أسمع كلمات أهل المنارة عن انعدام الشبه بيني وبين أختي، وكأنّ الواحدة منّا غريبة عن الأخرى، هي بملامحها الساحرة اللافتة...».
تأتي التداخلات أيضاً على المستوى البراغماتي، لأنّ كل واحد من الأبطال قد اختار موقعاً لنفسه. هم لا يثبتون في مواقعهم الهامشية ولا يستسلمون لأقدارهم المكتوبة، بل يتحركون- مكانياً وذهنياً- من أجل صناعة أقدارٍ جديدة من اختيارهم. مع كل مرحلة جديدة، نراهم يرمّمون ذواتهم المهدمة ويكتشفون طرق السعادة من جديد، فكأنهم نموذج لحكاية «الإنسان» الذي يعيش الفقد فيبحث جاهداً عن البديل.
الراوية مثلاً تختار الصمت المطلق وتتسلّح بذاكرتها لتغدو الكتابة حركتها الوحيدة الممكنة. تترك الهامش لتتمركز في مقرٍّ قيادي تُعيد فيه ترتيب العالم بحسب رغبتها. أما والدها موروي «الأعمى» فينتقل من البلدة إلى المنارة ويستفيد من مال صهره (زوج جميلة) ليبني عمارات تغدو في ما بعد مجمعاً سكنياً يُطلق عليه «مدينة بزّق ولزّق»، فيكسب كثيراً من المال ويصير من وجهاء المنطقة، لينتصر بتفتّح بصيرته على عماء بصره. الأم أيضاً تتجاوز جسدها المعطوب، هي العرجاء، بأن تمارس الجنس مع رجالٍ يضعفون أمام إغوائها بعدما كانوا يتندّرون عليها. لكنّ جميلة التي لم تولد بعاهة ظاهرة استطاعت بدهائها الأنثوي أن تُغيّر قدرها. تزوّجت من أبي مأمون- رجل يكبرها بالسن- قبل أن تصبح نجمة معروفة فغيرت اسمها من «جميلة» إلى «جيمي».
المساعد الأول أيضاً رفض أن يبقى في مكانه عنصراً عادياً، فاختار المجازفة وأخرج كلّ الشرّ الذي في داخله ليُقنع قادته بأنّه أهل للثقة، فنجح في أن يبسط سطوته على البلدة وكأنه ضابط كبير. آخرون حرمتهم الحياة نعمها، لكنهم قرروا أن يصنعوا من ضعفهم قوة مثل محجوب الذي اختار لنفسه عمل «المخبر» ليحصد هيبةً لا يملكها عبر نثر الرعب في قلوب مواطنيه.
الشخصيات صنفان
تصوّر الرواية المجتمع السوري- الكردي، عبر حكايا النازحين من مدنهم وقراهم البعيدة في الشمال السوري إلى ضواحي العاصمة دمشق بعد سنة 2004، «السنة التي شهدت أحداثاً دامية وقع خلالها عشرات الضحايا، وتمّ سجن الألوف، وقد عُرفت في الأدبيات الكردية بانتفاضة 12 آذار. فلا يفصل الكاتب بين سيرة شخوصه (اجتماعياً) وسيرة المكان (سياسياً)، فكلّما دخلت البلاد مرحلة جديدة وجد الناس أنفسهم في حركة نزوح جديدة صوب مكان آخر وقدرٍ جديد.
ومع ذلك، فإنّ الشخصيات تتفوّق على الأحداث في رواية هيثم حسين، وإن كان يمكن الكاتب تعزيز عوالمها الجوانية في شكل أكبر. وتنقسم هذه الشخصيات إلى صنفين، إمّا «المتسلّق» وإمّا «عكّاز». ويحكم علاقة بعضهم ببعض قانون لعبة السلالم، بحيث يصعد الواحد على كتف الآخر. أمّا الجسد فيُعدّ أحد شروط هذه اللعبة، بحيث يتقدّم أحياناً كهدية إجبارية في محطات الوصول (الفنّ، السياسة...). وفي هذه اللعبة تُستبدل الوجوه بأقنعة حتى «يُشكّك الجميع بالجميع».
وإذا أردنا أن نفهم طبيعة العلاقات الجدلية بين شخصيات الرواية (الأم الخائنة- الأب الداهية- جميلة الطموحة، منجونة الصامتة، بريندار الوسيم الضائع، المساعد الأول المتسلّط، أبو مأمون الزوج المخدوع...)، علينا أن نقرأها وفق مثلّث الشخصيات الذي قدّمه تودوروف في نصّه المميز عن «علاقات خطيرة» للفرنسي لاكلو، بحيث عرض نموذجاً مدهشاً عن دينامية العلاقات بين الشخصيات وفق ثلاثة أمور: «الرغبة- التواصل- المشاركة»، ومن ثمّ يخضع هذا المثلّث إلى مسوغات معاكسة تُشكّل مثلثاً مناقضاً قوامه: «الكره، الوشاية، العوائق». هكذا نجد أنّ الشخصيات في الرواية، مهما بدت متقاربة، تبقى في الواقع علاقات هشة يعوزها الحبّ والأمان. أمّا هذه العلاقات فليست سوى صورة رمزية عن علاقة أساسية تجمع المواطن بنظامه. «الحياة حرب يا بني ». يتذكّر هذه الكلمات ترنّ في أذنيه. يجاهد للتخلّص منها، والتصرّف بعفوية حقيقيّة لا متكلّفة، ولكن يصعب عليه ذلك، هو القادم من بلدٍ زرع فيه نظرية المؤامرة من قِبل كلّ شيء على كلّ شيء. أصبح كائناً بوليسيّاً كغيره من دون أن يدري، ينظر إلى الأمور من معيار الأمن والتآمر، يدقّق في خلفيّات الأحداث، يحيلها إلى جذر تآمريّ». وتبقى المشاعر البريئة (الوحيدة) في النص هي تلك التي حملتها الراوية تجاه برينارد، الذي وجدته فوق رأسها على الشاطئ محاولاً إنقاذها بعد الغرق في أحد قوارب الموت.
«عشبة ضارّة في الفردوس» تنضم بفرادة وخصوصية إلى روايات الحرب السورية لتكتب التاريخ نفسه بذاكرةٍ كردية تعتقت كثيراً في عتمة الظلال والهوامش.
منذ أن اشتعلت الحرب في سورية قبل ستّ سنوات تقريباً، بدأنا نشعر بحرارة الكتابات الروائية السورية وغزارتها. أعمال كثيرة ينشرها كتّاب سوريون، جدد ومكرّسون، بعضهم عالق بين الصمود والسقوط في الداخل، وبعضهم الآخر موزّع في أرجاء هذا العالم. الروايات كثيرة وهي بالتأكيد متفاوتة القيمة والجودة، لكنّها تعبّر- جميعها- عن حاجة عميقة إلى الكلام عمّا ظلّ مكتوماً في عتمات الداخل سنواتٍ طويلة.
ترسّخ رواية «عشبة ضارّة في الفردوس» (دار مسكيلياني ودار ميّارة)، للكاتب السوري المقيم في لندن هيثم حسين، هذه الرغبة العارمة في البوح بلا قيود. فالرواية تخالف في لعبة محكمة، الترتيب الزمني عبر استباقٍ تام لحادثة الغرق التي نعود إليها في الخاتمة. هكذا تبدأ الساردة حديثها منذ اللحظات الأخيرة في زمن الرواية: «لا أريد أن ينتشلني أحد من غرقي. هذه هي لحظة الانعتاق المطلقة التي ظللتُ أرنو إليها...» (ص 7).
وليس استمتاع الراوية بغرقها نوعاً من مازوشية مرضية، إنما رغبة بمواصلة صرخةٍ مدوية خرجت من أعماقها تحت مياه البحر، علماً أنّ «الصرخة» في قاموس السوري الذي عاش العهدين (الأب والابن) ليست سوى مرادف لمعنى الحريةٍ التي يتوق إليها الجميع.
يشكّل الماء مكان انطلاق الحدث الروائي، وهو رمز غنيّ الدلالات، يعني مرّة الخير والحياة والرزق، ومرّات الخوف والغموض والغرق. أمّا هنا فإنه يُشير في آنٍ إلى الدخول في الموت والخروج إلى الحياة، فكأنّه الشاهد على الولادة من عتمة الأرحام. ومن ذاك البرزخ العائم، تتوالد حكايات الراوية الرئيسة التي تسترجع ذكرياتها (حكايتها)، وبالتالي ذكريات (حيوات) أشخاصٍ آخرين في دائرتها، منهم والدها موروي، والدتها بهو، أختها جميلة، المساعد الأول، بريندار، نغم، وغيرهم.
تداخلات
تتقاطع الحكايات وتتكاثر الأحداث وتتنوّع الأمكنة وتختلف الأزمنة لكنها تظلّ مترابطة كأنها حديث واحد. ولعلّ التداخلات الكثيرة هي التي تجعل من الرواية بكاملها «حديثاً واحداً»، وهذا ما سبق أن شرحته الناقدة خالدة سعيد في أحد كتبها عندما أوضحت آلية التداخلات وقسّمتها إلى أنساقٍ تتخذ شكل التقاطع حيناً والتلاقي أحياناً. ولعلّ التداخلات الأولى تكمن في العاهات الجسدية عند معظم الشخصيات. فالابنة- الساردة وجدت نفسها على رأس مثلّث مأسوي يتألّف من أبٍ أعمى (موروي) وأم عرجاء (بهو)، وهي الابنة الدميمة، صاحبة القامة القصيرة والجسم الضائع بين الطفولة والذكورة، وربطة شعرها التي لا تغيرها وكأنّ الزمن قد تعطّل عندها. أمّا أختها جميلة، فهي اسم على مسمى، واستطاعت بمثالية شكلها أن تنجو بنفسها من ذاك المثلّث: «كنتُ أسمع كلمات أهل المنارة عن انعدام الشبه بيني وبين أختي، وكأنّ الواحدة منّا غريبة عن الأخرى، هي بملامحها الساحرة اللافتة...».
تأتي التداخلات أيضاً على المستوى البراغماتي، لأنّ كل واحد من الأبطال قد اختار موقعاً لنفسه. هم لا يثبتون في مواقعهم الهامشية ولا يستسلمون لأقدارهم المكتوبة، بل يتحركون- مكانياً وذهنياً- من أجل صناعة أقدارٍ جديدة من اختيارهم. مع كل مرحلة جديدة، نراهم يرمّمون ذواتهم المهدمة ويكتشفون طرق السعادة من جديد، فكأنهم نموذج لحكاية «الإنسان» الذي يعيش الفقد فيبحث جاهداً عن البديل.
الراوية مثلاً تختار الصمت المطلق وتتسلّح بذاكرتها لتغدو الكتابة حركتها الوحيدة الممكنة. تترك الهامش لتتمركز في مقرٍّ قيادي تُعيد فيه ترتيب العالم بحسب رغبتها. أما والدها موروي «الأعمى» فينتقل من البلدة إلى المنارة ويستفيد من مال صهره (زوج جميلة) ليبني عمارات تغدو في ما بعد مجمعاً سكنياً يُطلق عليه «مدينة بزّق ولزّق»، فيكسب كثيراً من المال ويصير من وجهاء المنطقة، لينتصر بتفتّح بصيرته على عماء بصره. الأم أيضاً تتجاوز جسدها المعطوب، هي العرجاء، بأن تمارس الجنس مع رجالٍ يضعفون أمام إغوائها بعدما كانوا يتندّرون عليها. لكنّ جميلة التي لم تولد بعاهة ظاهرة استطاعت بدهائها الأنثوي أن تُغيّر قدرها. تزوّجت من أبي مأمون- رجل يكبرها بالسن- قبل أن تصبح نجمة معروفة فغيرت اسمها من «جميلة» إلى «جيمي».
المساعد الأول أيضاً رفض أن يبقى في مكانه عنصراً عادياً، فاختار المجازفة وأخرج كلّ الشرّ الذي في داخله ليُقنع قادته بأنّه أهل للثقة، فنجح في أن يبسط سطوته على البلدة وكأنه ضابط كبير. آخرون حرمتهم الحياة نعمها، لكنهم قرروا أن يصنعوا من ضعفهم قوة مثل محجوب الذي اختار لنفسه عمل «المخبر» ليحصد هيبةً لا يملكها عبر نثر الرعب في قلوب مواطنيه.
الشخصيات صنفان
تصوّر الرواية المجتمع السوري- الكردي، عبر حكايا النازحين من مدنهم وقراهم البعيدة في الشمال السوري إلى ضواحي العاصمة دمشق بعد سنة 2004، «السنة التي شهدت أحداثاً دامية وقع خلالها عشرات الضحايا، وتمّ سجن الألوف، وقد عُرفت في الأدبيات الكردية بانتفاضة 12 آذار. فلا يفصل الكاتب بين سيرة شخوصه (اجتماعياً) وسيرة المكان (سياسياً)، فكلّما دخلت البلاد مرحلة جديدة وجد الناس أنفسهم في حركة نزوح جديدة صوب مكان آخر وقدرٍ جديد.
ومع ذلك، فإنّ الشخصيات تتفوّق على الأحداث في رواية هيثم حسين، وإن كان يمكن الكاتب تعزيز عوالمها الجوانية في شكل أكبر. وتنقسم هذه الشخصيات إلى صنفين، إمّا «المتسلّق» وإمّا «عكّاز». ويحكم علاقة بعضهم ببعض قانون لعبة السلالم، بحيث يصعد الواحد على كتف الآخر. أمّا الجسد فيُعدّ أحد شروط هذه اللعبة، بحيث يتقدّم أحياناً كهدية إجبارية في محطات الوصول (الفنّ، السياسة...). وفي هذه اللعبة تُستبدل الوجوه بأقنعة حتى «يُشكّك الجميع بالجميع».
وإذا أردنا أن نفهم طبيعة العلاقات الجدلية بين شخصيات الرواية (الأم الخائنة- الأب الداهية- جميلة الطموحة، منجونة الصامتة، بريندار الوسيم الضائع، المساعد الأول المتسلّط، أبو مأمون الزوج المخدوع...)، علينا أن نقرأها وفق مثلّث الشخصيات الذي قدّمه تودوروف في نصّه المميز عن «علاقات خطيرة» للفرنسي لاكلو، بحيث عرض نموذجاً مدهشاً عن دينامية العلاقات بين الشخصيات وفق ثلاثة أمور: «الرغبة- التواصل- المشاركة»، ومن ثمّ يخضع هذا المثلّث إلى مسوغات معاكسة تُشكّل مثلثاً مناقضاً قوامه: «الكره، الوشاية، العوائق». هكذا نجد أنّ الشخصيات في الرواية، مهما بدت متقاربة، تبقى في الواقع علاقات هشة يعوزها الحبّ والأمان. أمّا هذه العلاقات فليست سوى صورة رمزية عن علاقة أساسية تجمع المواطن بنظامه. «الحياة حرب يا بني ». يتذكّر هذه الكلمات ترنّ في أذنيه. يجاهد للتخلّص منها، والتصرّف بعفوية حقيقيّة لا متكلّفة، ولكن يصعب عليه ذلك، هو القادم من بلدٍ زرع فيه نظرية المؤامرة من قِبل كلّ شيء على كلّ شيء. أصبح كائناً بوليسيّاً كغيره من دون أن يدري، ينظر إلى الأمور من معيار الأمن والتآمر، يدقّق في خلفيّات الأحداث، يحيلها إلى جذر تآمريّ». وتبقى المشاعر البريئة (الوحيدة) في النص هي تلك التي حملتها الراوية تجاه برينارد، الذي وجدته فوق رأسها على الشاطئ محاولاً إنقاذها بعد الغرق في أحد قوارب الموت.
«عشبة ضارّة في الفردوس» تنضم بفرادة وخصوصية إلى روايات الحرب السورية لتكتب التاريخ نفسه بذاكرةٍ كردية تعتقت كثيراً في عتمة الظلال والهوامش.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.