حزب المصريين الأحرار بأسيوط يشارك في احتفالات عيد المحافظة القومي    لأول مرة بالأزهر.. منطقة الشرقية تدشن تطبيقا إلكترونيا لمتابعة امتحانات النقل بالمعاهد    130 مدرسة زراعية تتفوق في إنتاج المحاصيل وتوفر الألبان واللحوم    كل ما تريد معرفته عن قانون رعاية حقوق المسنين| إنفوجراف    صوامع الشرقية تستقبل 24 ألف طن قمح في موسم الحصاد    ختام فعاليات الأسبوع البيئي الأول لجامعة طيبة التكنولوجية    حسام أشرف يقود هجوم بلدية المحلة أمام المقاولون العرب    تحديد موعد الاجتماع الفني لمباراة الزمالك ودريمز الغاني    الأمن العام يضبط 3 تجار مخدرات بحوزتهم سلاح آلي بالدقهلية    جامعة طيبة التكنولوجية تختتم مشاركتها بمعرض التعليم التكنولوجي «إديوتك إيجيبت»    أحمد زاهر ينعى صلاح السعدني    ألمانيا ترفض بيانات السفارة الروسية عقب اعتقال مواطنين يشتبه أنهما يتجسسان لصالح موسكو    الصين تعرب عن خيبة أملها من الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة    1490 طنا.. وصول القافلة السادسة من مساعدات التحالف الوطني لأهالي غزة (صور)    اعتماد جداول امتحانات نهاية العام الدراسي في الوادي الجديد    عاجل: أسعار الذهب اليوم الجمعة 19-4-2024 في مصر    كلوب: التتويج بالدوري الإنجليزي ليس بأيدينا    وزير المالية فى جلسة نقاشية بواشنطن: مصر تتحرك بقوة لبناء نظام قوي للتأمين الصحي الشامل رغم التحديات الاقتصادية والضغوط المالية    محافظة الجيزة: قطع المياه لمدة 6 ساعات عن منطقة منشية البكاري.. اليوم    تجار العملة يتساقطون .. ضبط عدد من المضاربين بحوزتهم 29 مليون جنيه خلال 24 ساعة    إصابة شخصين إثر حادث تصادم 3 سيارات فى شارع التسعين بمنطقة التجمع    "رصدته كاميرات المراقبة".. ضبط عاطل سرق مبلغا ماليا من صيدلية بالقليوبية    وزير التنمية المحلية يعلن بدء المرحلة الثالثة والأخيرة لإزالة التعديات على أراضي الدولة ضمن الموجة ال22    إسعاد يونس تنعى الفنان صلاح السعدني بصورة من كواليس «فوزية البرجوازية»    4 أبراج ما بتعرفش الفشل في الشغل.. الحمل جريء وطموح والقوس مغامر    تعرف على أبرز مخرجات لجنة الثقافة والهوية الوطنية بالحوار الوطنى    موعد ومكان عزاء الفنان صلاح السعدني    الصحة: فحص 432 ألف طفل حديث الولادة ضمن مبادرة رئيس الجمهورية للكشف المبكر عن الأمراض الوراثية لحديثي الولادة    طريقة تحضير بخاخ الجيوب الأنفية في المنزل    فتح ممر إنساني نهاية إبريل.. إعلام عبري: عملية رفح محسومة والسؤال عن توقيتها    إسرائيل تبلغ أمريكا بتنفيذ ضربة على إيران    وضع حجر أساس مشروع موقف إقليمي جديد بمدينة المنيا الجديدة    ضبط 14799 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    كشف لغز بلاغات سرقة بالقاهرة وضبط مرتكبيها وإعادة المسروقات.. صور    الحكومة تنفي عودة عمل الموظفين يوم الأحد بنظام ال"أون لاين" من المنزل    الشعبة الفرنسية بحقوق عين شمس تنظم يوما رياضيا لطلابها    شهدها البابا تواضروس، تفاصيل وثيقة الكنيسة للتوعية بمخاطر زواج الأقارب    مارتينيز: حصلت على بطاقة صفراء ثانية بسبب سمعتي السيئة.. ولا أفهم القواعد    استمرار غياب رونالدو.. جدول مواعيد مباريات اليوم الجمعة والقنوات الناقلة    رضا عبد العال يعلق على أداء عبد الله السعيد مع الزمالك    إيرادات السينما أمس.. شقو في المقدمة وأسود ملون يتذيل القائمة    إبراهيم السمان: تحمست لدور محسن فى مسلسل حق عرب بسبب السيناريو    خطيب الأوقاف يؤكد: الصدق صفة المتقين وطريق الفائزين.. والأيمانات الكاذبة للباعة لترويج السلعة تمحق البركة.. فيديو    لماذا خلق الله الخلق؟.. خطيب المسجد الحرام: ليس ليتعزز بهم من ذلة    فضل الصلاة على النبي يوم الجمعة.. أفصل الصيغ لها    اقتصادية قناة السويس تشارك ب "مؤتمر التعاون والتبادل بين مصر والصين (تشيجيانج)"    استشهاد شاب فلسطيني وإصابة اثنين بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم "نور شمس" شمال الضفة    ليفركوزن يخطط لمواصلة سلسلته الاستثنائية    غداء اليوم.. طريقة تحضير كفتة الدجاج المشوية    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    طلب إحاطة لوزير الصحة بشأن استمرار نقص أدوية الأمراض المزمنة ولبن الأطفال    وزير المالية يعرض بيان الموازنة العامة الجديدة لعام 2024 /2025 أمام «النواب» الإثنين المقبل    موعد مباراة الترجي وصن داونز بدوري أبطال أفريقيا    حرب السودان.. كلفة اقتصادية هائلة ومعاناة مستمرة    والد شاب يعاني من ضمور عضلات يناشد وزير الصحة علاج نجله (فيديو)    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    فيتو أمريكي يُفسد قرارًا بمنح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«زمن» مي التلمساني المفقود
نشر في صوت البلد يوم 19 - 02 - 2017

كانت مي التلمساني، الكاتبة المصرية المقيمة في كندا، وستظلّ، في رحلة بحث دائمة عن الزمن المفقود، عن اللحظة الجوهرية التي تتسرب وتتبخر لنتساءل عن وجهتها. منذ أن بدأت الكتابة في عام 1995، عرفناها باحثة تيأس أحياناً لأنها لم تصل إلى غائية الرحلة، ثمّ تعيد الكتابة ولا تصل. ولكن في محاولة وصولها إلى إيثاكا، تصل إلى طبقات الزمن المتراكمة داخلنا- نحن جيل التسعينات- وتستحضره، بمنتهى التكثيف والتقشف.
يأتي هذا التكثيف من تتبعها لفكرة وتداعياتها، فتختفي تفاصيل السرد ليتصدر الإحساس المشهد، ويجيء التقشف من توظيف الكلمات لرسم صورة وليس حدث. وبتضفير الإحساس مع الصورة، تستعيد التلمساني مكانها الأثير والغرام الأول، شاشة السينما، تلك العين السحرية التي تُعيد قراءة العالم من زوايا متعددة. تبدو إعادة قراءة العالم مصطلح مستحيل، فالقراءة الأولى التي عشناها لا تتغير. القراءة تبقى، ويذهب الزمن، بحيث كان لا بد لمن تُقيم خارج أسوار هذا العالم (عالم الطفولة والمراهقة والصبا أي زمن التكوين) أن تسعى إلى استعادة ما فُقد من الزمن تأثراً بمارسيل بروست في سباعيته «البحث عن الزمن المفقود» (1905-1922)، وهو الكاتب الذي تناولت التلمساني أول أعماله- «الملذات والأيام»- في رسالة الماجستير من جامعة القاهرة.
تُنشئ مي التلمساني عبارة «عين سحرية» ولا تجد سوى مسمى «قصص» لتضعه علي الغلاف (الدار المصرية اللبنانية، 2016)، ولستُ على يقين من صحة الجنس الأدبي، فالسبعة مشاهد (مع تقسيم المشهد الأخير إلى اثني عشر جزءاً/مشهداً) متتالية تستعيد زمناً مفقوداً ولا تدع حيلة إلا وتجرّبها من أجل هذه الاستعادة، فتضفر عينها مع الأدب والموسيقى والسينما، لتخرج من ثنايا هذه الأجناس بلحظة منفلتة أو هاربة، لا تستقر بل تستمر في المراوغة.
تبدأ الكاتبة بمحاولة الإمساك بأصعب لحظة، لحظة تصوير المشهد على الشاشة، وكيف يعيش النجم- عبد الحليم حافظ- زمنه المفقود على مدار عشر سنوات. فكأنه كان يخطّط لرحلة «تسلل منظم» من الحياة. تسعى التلمساني في هذا المشهد إلى تثبيت لحظة الشجن والوعي بالفقد، وتُطور المسألة في مشهد «شرع المحبين»، إذ تمنح هنادي (زهرة العلا) صوتها في فيلم «دعاء الكروان»، وتجعل لها مساحة حضور أكثر تميزاً من العمل الأدبي والفيلم السينمائي. وباستنطاق هنادي يستعيد الوعي تلك اللحظة المفقودة من السيناريو.
هي تحاول سكن بيوت قديمة لتستحضر زمنها الغائب. تندمج في الأحلام، فتراوغها اللحظة، حتى تستسلم وتصل إلى زمن تسعى إلى امتلاكه، زمن الأب- صوتاً وحضوراً ورائحة. يبدو محمول الأب ثرياً جداً في النص، حتى أنها تكرس له مشاهد عدة، تدخل كلها في زمن التكوين، اللحظة التي نتعلم فيها الكيفية التي نصافح بها العالم، حتى أن يدها ويد الأب تتداخلان في عينها السحرية، تتداخل معهما في دائرة حلزونية ليس بها أي ثغرة. ثم تنتزع اللحظة المفقودة مرة أخرى عبر استعادة تفاعلهما مع السينما، فتبقى الصورة أقوى من الكلمة، تحاور الفيلم وأبطاله وتتماهى مع أورفيوس لجان كوكتو، وأوبرا كارمن.
ولأنه علّمها الفصاحة التي تعتبرها «كتابة ذهنية»، فإنها وجدت بلاغة في الصمت الشبيه بنهاية أوبرا كارمن، ذاك الصمت الذي يُخيم على المشاهد كافة، بحيث تدور محاولات استعادة الزمن المفقود في وعي الكتابة ذاتها فتتحول إلى كتابة ذهنية. على الطرف الآخر، تظهر الأم لتؤكد استحالة عودة ذاك الزمن. تظهر الأم بمحمول الحاضر، ألم الجسد- «سبعة عشر نوعاً من الألم»- الذي يوقظ الراوية من محاولات استعادة طعم اللحظة مع الأصدقاء. نسمع أنات الأم ودعائها وكأنها منبه لثقل الحاضر ووجوده الراسخ الذي لا يُمكن تجاهله، الألم الذي «يظهر فجأة في صورة بكاء وتأوهات، ويتأكد لأن ثمة جمهوراً يشهد عليه».
بتحطم كل المحاولات لا تجد الكاتبة مفراً من «استعادة هليوبوليس»، وهو عنوان المشهد الأخير. وكأن مروية «هليوبوليس» التي أصدرتها الكاتبة عام 2001 (دار شرقيات) لا تكفي لتثبيت المكان الذي تفتح فيه الوعي، فجاءت «استعادة هليوبوليس» لتعيد المروي والمسرود من قبل، عبر الرائحة وهو ما يستدعي قصة أنتيغون، التي منعت وصول رائحة جثة أخيها إلى الملك.
وفي الوقت ذاته يستدعي ذلك رائحة «كعك المادلين»، التي حفزت مارسيل بروست على الكتابة. وعبر هذه العين السحرية، تلتقط مي التلمساني تفاصيل الوعي التي سقطت منها عام 2001، الأصوات والروائح والأسماء والهدايا والقراءات والصور الفوتوغرافية والأصدقاء والبيئة المدرسية التي تشهد على خيباتنا. تلك الخيبة التي تُحولها الكاتبة إلى انتصار بفضل المتابعة الدقيقة للأفلام السينمائية.
يبدو هذا المشهد الطويل وكأنه شهادة كاملة على زمن مفقود، زمن ولّى، ولن يعود حتى مع إعادة الكتابة. إنها شهادة يعاود فيها الأب الظهور بحضور طاغي، على رغم صمته الدائم، فكأنها بلاغة الصمت. هي شهادة على المكان، ولكن بدلاً من الحديث عن المكان راحت تستعيد ما حدث فيه. المكان في النهاية لا بد أن يكون مسكوناً (إنسانياً)، ولا بد له من الإعمار ليبقي حياً، وإعمار المكان من دون حياة مستحيل. «الزمن يمر والمكان يبقي، يحفظ سر الزمن ورائحته. كيف مر الزمن؟ وأين راح؟ لا أحد يعرف. المكان يعرف»... لذلك كان عليها استعادة المكان، وتماماً كما مر عبد الحليم حافظ بلقطتين يفصل بينهما عقد من الزمان، يمرّ المكان مع التلمساني بلقطتين، الأولى عندما أرست وجوده والثانية في محاولة استعادة زمنه المفقود. تعتمد المشاهد كلها في «عين سحرية» على المفهوم الفلسفي البرجسوني للحياة بوصفها ديمومة تراكم، وهو ما يعني أن الزمن هناك سواء كان مفقوداً أم مستعاداً، الحياة لدى مي التلمساني هي تراكمات «لحظات من تاريخ النظر».
كانت مي التلمساني، الكاتبة المصرية المقيمة في كندا، وستظلّ، في رحلة بحث دائمة عن الزمن المفقود، عن اللحظة الجوهرية التي تتسرب وتتبخر لنتساءل عن وجهتها. منذ أن بدأت الكتابة في عام 1995، عرفناها باحثة تيأس أحياناً لأنها لم تصل إلى غائية الرحلة، ثمّ تعيد الكتابة ولا تصل. ولكن في محاولة وصولها إلى إيثاكا، تصل إلى طبقات الزمن المتراكمة داخلنا- نحن جيل التسعينات- وتستحضره، بمنتهى التكثيف والتقشف.
يأتي هذا التكثيف من تتبعها لفكرة وتداعياتها، فتختفي تفاصيل السرد ليتصدر الإحساس المشهد، ويجيء التقشف من توظيف الكلمات لرسم صورة وليس حدث. وبتضفير الإحساس مع الصورة، تستعيد التلمساني مكانها الأثير والغرام الأول، شاشة السينما، تلك العين السحرية التي تُعيد قراءة العالم من زوايا متعددة. تبدو إعادة قراءة العالم مصطلح مستحيل، فالقراءة الأولى التي عشناها لا تتغير. القراءة تبقى، ويذهب الزمن، بحيث كان لا بد لمن تُقيم خارج أسوار هذا العالم (عالم الطفولة والمراهقة والصبا أي زمن التكوين) أن تسعى إلى استعادة ما فُقد من الزمن تأثراً بمارسيل بروست في سباعيته «البحث عن الزمن المفقود» (1905-1922)، وهو الكاتب الذي تناولت التلمساني أول أعماله- «الملذات والأيام»- في رسالة الماجستير من جامعة القاهرة.
تُنشئ مي التلمساني عبارة «عين سحرية» ولا تجد سوى مسمى «قصص» لتضعه علي الغلاف (الدار المصرية اللبنانية، 2016)، ولستُ على يقين من صحة الجنس الأدبي، فالسبعة مشاهد (مع تقسيم المشهد الأخير إلى اثني عشر جزءاً/مشهداً) متتالية تستعيد زمناً مفقوداً ولا تدع حيلة إلا وتجرّبها من أجل هذه الاستعادة، فتضفر عينها مع الأدب والموسيقى والسينما، لتخرج من ثنايا هذه الأجناس بلحظة منفلتة أو هاربة، لا تستقر بل تستمر في المراوغة.
تبدأ الكاتبة بمحاولة الإمساك بأصعب لحظة، لحظة تصوير المشهد على الشاشة، وكيف يعيش النجم- عبد الحليم حافظ- زمنه المفقود على مدار عشر سنوات. فكأنه كان يخطّط لرحلة «تسلل منظم» من الحياة. تسعى التلمساني في هذا المشهد إلى تثبيت لحظة الشجن والوعي بالفقد، وتُطور المسألة في مشهد «شرع المحبين»، إذ تمنح هنادي (زهرة العلا) صوتها في فيلم «دعاء الكروان»، وتجعل لها مساحة حضور أكثر تميزاً من العمل الأدبي والفيلم السينمائي. وباستنطاق هنادي يستعيد الوعي تلك اللحظة المفقودة من السيناريو.
هي تحاول سكن بيوت قديمة لتستحضر زمنها الغائب. تندمج في الأحلام، فتراوغها اللحظة، حتى تستسلم وتصل إلى زمن تسعى إلى امتلاكه، زمن الأب- صوتاً وحضوراً ورائحة. يبدو محمول الأب ثرياً جداً في النص، حتى أنها تكرس له مشاهد عدة، تدخل كلها في زمن التكوين، اللحظة التي نتعلم فيها الكيفية التي نصافح بها العالم، حتى أن يدها ويد الأب تتداخلان في عينها السحرية، تتداخل معهما في دائرة حلزونية ليس بها أي ثغرة. ثم تنتزع اللحظة المفقودة مرة أخرى عبر استعادة تفاعلهما مع السينما، فتبقى الصورة أقوى من الكلمة، تحاور الفيلم وأبطاله وتتماهى مع أورفيوس لجان كوكتو، وأوبرا كارمن.
ولأنه علّمها الفصاحة التي تعتبرها «كتابة ذهنية»، فإنها وجدت بلاغة في الصمت الشبيه بنهاية أوبرا كارمن، ذاك الصمت الذي يُخيم على المشاهد كافة، بحيث تدور محاولات استعادة الزمن المفقود في وعي الكتابة ذاتها فتتحول إلى كتابة ذهنية. على الطرف الآخر، تظهر الأم لتؤكد استحالة عودة ذاك الزمن. تظهر الأم بمحمول الحاضر، ألم الجسد- «سبعة عشر نوعاً من الألم»- الذي يوقظ الراوية من محاولات استعادة طعم اللحظة مع الأصدقاء. نسمع أنات الأم ودعائها وكأنها منبه لثقل الحاضر ووجوده الراسخ الذي لا يُمكن تجاهله، الألم الذي «يظهر فجأة في صورة بكاء وتأوهات، ويتأكد لأن ثمة جمهوراً يشهد عليه».
بتحطم كل المحاولات لا تجد الكاتبة مفراً من «استعادة هليوبوليس»، وهو عنوان المشهد الأخير. وكأن مروية «هليوبوليس» التي أصدرتها الكاتبة عام 2001 (دار شرقيات) لا تكفي لتثبيت المكان الذي تفتح فيه الوعي، فجاءت «استعادة هليوبوليس» لتعيد المروي والمسرود من قبل، عبر الرائحة وهو ما يستدعي قصة أنتيغون، التي منعت وصول رائحة جثة أخيها إلى الملك.
وفي الوقت ذاته يستدعي ذلك رائحة «كعك المادلين»، التي حفزت مارسيل بروست على الكتابة. وعبر هذه العين السحرية، تلتقط مي التلمساني تفاصيل الوعي التي سقطت منها عام 2001، الأصوات والروائح والأسماء والهدايا والقراءات والصور الفوتوغرافية والأصدقاء والبيئة المدرسية التي تشهد على خيباتنا. تلك الخيبة التي تُحولها الكاتبة إلى انتصار بفضل المتابعة الدقيقة للأفلام السينمائية.
يبدو هذا المشهد الطويل وكأنه شهادة كاملة على زمن مفقود، زمن ولّى، ولن يعود حتى مع إعادة الكتابة. إنها شهادة يعاود فيها الأب الظهور بحضور طاغي، على رغم صمته الدائم، فكأنها بلاغة الصمت. هي شهادة على المكان، ولكن بدلاً من الحديث عن المكان راحت تستعيد ما حدث فيه. المكان في النهاية لا بد أن يكون مسكوناً (إنسانياً)، ولا بد له من الإعمار ليبقي حياً، وإعمار المكان من دون حياة مستحيل. «الزمن يمر والمكان يبقي، يحفظ سر الزمن ورائحته. كيف مر الزمن؟ وأين راح؟ لا أحد يعرف. المكان يعرف»... لذلك كان عليها استعادة المكان، وتماماً كما مر عبد الحليم حافظ بلقطتين يفصل بينهما عقد من الزمان، يمرّ المكان مع التلمساني بلقطتين، الأولى عندما أرست وجوده والثانية في محاولة استعادة زمنه المفقود. تعتمد المشاهد كلها في «عين سحرية» على المفهوم الفلسفي البرجسوني للحياة بوصفها ديمومة تراكم، وهو ما يعني أن الزمن هناك سواء كان مفقوداً أم مستعاداً، الحياة لدى مي التلمساني هي تراكمات «لحظات من تاريخ النظر».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.