وزير التعليم العالي يبحث مع نائب رئيس جامعة لندن تعزيز التعاون المشترك    نقيب أطباء الأسنان يدلي بصوته في انتخابات التجديد النصفي بلجان الإسكندرية    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد النصر بشمال سيناء    منها «ضمان حياة كريمة تليق بالمواطن».. 7 أهداف للحوار الوطني    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    الطماطم ب5 جنيهات .. أسعار الخضراوات والفاكهة اليوم الجمعة 26 إبريل    أستاذ تخطيط: تعمير سيناء شمل تطوير عشوائيات وتوفير خدمات    إنفوجراف| ارتفاع أسعار الذهب مع بداية تعاملات اليوم الجمعة 26 أبريل    بعد ساعات من تطبيقه.. لماذا لجأت الدولة لعودة العمل ب التوقيت الصيفي؟    دراسة مشروع واعد لتحويل قناة السويس إلى مركز إقليمي لتوزيع قطع الغيار    إزالة 30 حالة تعد ضمن المرحلة الثالثة للموجة ال22 بالبحيرة    كاتب صحفي: الدولة المصرية غيرت شكل الحياة في سيناء بالكامل    رئيس الصين لوزير الخارجية الأمريكي : يجب على البلدين الالتزام بكلمتهما    شهيد فلسطيني إثر إطلاق الاحتلال الإسرائيلي النار عليه جنوب قطاع غزة    احتجت على سياسة بايدن.. أسباب استقالة هالة غريط المتحدثة العربية باسم البيت الأبيض    أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية جديدة إلى أوكرانيا    خبير: الاحتلال وغياب أفق التسوية وراء تصاعد المواجهات الدم وية في غزة    دوري أبطال أفريقيا.. أحمد حسن يكشف عن تشكيل الأهلي المتوقع لمباراة مازيمبي    حسام المندوه : الزمالك جاهز لموقعة العودة أمام دريمز .. وهناك تركيز شديد من الجميع    تواجد مصطفى محمد| تشكيل نانت المتوقع أمام مونبلييه في الدوري الفرنسي    تشافي يطالب لابورتا بضم نجم بايرن ميونخ    اتحاد جدة يكشف تفاصيل إصابة بنزيما وموقفه من مباراة الشباب    أرسنال يختبر قوته أمام توتنهام.. ومواجهة محفوفة بالمخاطر لمانشستر سيتي    خلال 24 ساعة.. تحرير 489 مخالفة لغير الملتزمين بارتداء الخوذة    بلطجية يقتحمون الشقق فى الإسكندرية .. الأمن يكشف حقيقة المنشور المثير    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي في الاسكندرية    مأساة في حريق شقة «التجمع الأول».. النيران تلتهم طفلين وتصيب الثالثة (تفاصيل)    أمن القاهرة يكشف غموض بلاغات سرقة ويضبط الجناة | صور    عرض افلام "ثالثهما" وباب البحر" و' البر المزيون" بنادي سينما اوبرا الاسكندرية    أفكر في الزواج للمرة الثانية، أبرز تصريحات صابرين بعد خلعها الحجاب    توقعات علم الفلك اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    في ذكرى ميلادها.. أبرز أعمال هالة فؤاد على شاشة السينما    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من الحرمين الشريفين    دعاء صباح يوم الجمعة.. أدعية مستحبة لفك الكرب وتفريج الهموم    الصحة: إجراء فحص طبي ل 1.688 مليون شاب وفتاة مقبلين على الزواج    تنظيم قافلة طبية مجانية ضمن «حياة كريمة» في بسيون بالغربية    طريقة عمل هريسة الشطة بمكونات بسيطة.. مش هتشتريها تاني    نائب وزير خارجية اليونان يزور تركيا اليوم    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    كارثة كبيرة.. نجم الزمالك السابق يعلق على قضية خالد بو طيب    حزب الله ينشر ملخص عملياته ضد الجيش الإسرائيلي يوم الخميس    رمضان صبحي: نفتقد عبد الله السعيد في بيراميدز..وأتمنى له التوفيق مع الزمالك    الشركة المالكة ل«تيك توك» ترغب في إغلاق التطبيق بأمريكا.. ما القصة؟    منها «عدم الإفراط في الكافيين».. 3 نصائح لتقليل تأثير التوقيت الصيفي على صحتك    اكتشاف فيروس إنفلونزا الطيور في 20% من عينات الألبان في الولايات المتحدة    واعظ بالأزهر: الإسلام دعا إلى صلة الأرحام والتواصل مع الآخرين بالحسنى    جامعة الأقصر تحصل على المركز الأول في التميز العلمي بمهرجان الأنشطة الطلابية    لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    حكاية الإنتربول مع القضية 1820.. مأساة طفل شبرا وجريمة سرقة الأعضاء بتخطيط من مراهق    أبناء أشرف عبدالغفور الثلاثة يوجهون رسالة لوالدهم في تكريمه    بعد سد النهضة.. أستاذ موارد مائية يكشف حجم الأمطار المتدفقة على منابع النيل    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميًّا    مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي رسميًّا    تامر حسني باحتفالية مجلس القبائل: شرف عظيم لي إحياء حفل عيد تحرير سيناء    مخرج «السرب»: «أحمد السقا قعد مع ضباط علشان يتعلم مسكة السلاح»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا يفعل أورويل في ضاحية بيروت الجنوبية؟
نشر في صوت البلد يوم 22 - 01 - 2017

يلفت في رواية «أورويل في الضاحية الجنوبية» للكاتب اللبناني فوزي ذبيان (دار الآداب،2017)، لغتُها المتعددة المستويات واستيحاؤها فئاتٍ بشرية مهمشة في بيروت، تعيش متوارية وراء العمارات العملاقة ومظاهر العيش المُترفة الزاعقة. وشكل بناء الرواية يصلُنا من خلال أربعٍ وأربعين فقرة أقرب ما تكون إلى شكل سيناريو سينمائي، يعتمد على مشاهد تصاحبُ الفعلَ والوصف وتستعمل الحوار بلغة الكلام المُتداولة في الضاحية الجنوبية، بما هي عليه من هجنةٍ تخلط الدارجة بالكلمات الإنكليزية، وتجعل السرد أفقياً يتمدّد ليلتقط تفاصيل الحياة لفئاتٍ تعيش في الهامش، وتتعيّش من خدمةِ مَنْ لهم إمكانات الإنفاق على ما يُعدّل المزاج ويؤمن بعض الحاجيات اليومية. بعبارة ثانية، لا تقوم الرواية على حِبْكة عمودية تنطوي على مفاجآت، وإنما هي بنية مفتوحة تتوخى الإطلالة على شرائح من هذه الفئات المهمشة التي تعمل لمصلحة مَنْ يملكون مشاريع لها علاقة بالخدمة العامة، مثل بيع المياه الصالحة للشرب، أو تأجير الأراكيل وتوصيلها إلى البيوت والدكاكين، أو بيع البيرة الحلال... والشخوص الأساسية التي تؤثث هذا الفضاء في أطراف الضاحية، هي من فئة شبانٍ يعملون في مثل هذه المهن الخدماتية التي لا تتوافر على أي ضمان اجتماعي أو حقوق ثابتة. ويحتل حمودي موقعاً بارزاً في النصّ، لأنه يعيش مع أمه العجوز بعد أن ماتت أخته العزيزة وتركت جرحاً غائراً في نفسه، وهو يسعى إلى أن يجد عملاً يخرجه من دائرة البؤس ويحقق من خلاله ما تطمح إليه نفسه الشابّة ... لكن مجموعة متنفذة أرغمته على ترك عمله في توزيع المياه الصالحة للشرب، فاضطرّ إلى الالتحاق بدائرة الحاجّ رضا صاحب مقهى تُؤجّر الأراكيل وتقدم خدمات أخرى غير منظورة.
وفي فضاء عمله الجديد، يلتقي حمودي بزملاء في الخدمة لهم ملامح مختلفة، وممارسات تتوخى نسيان الوضعية البائسة، والتهميش المطارد لهم. وإلى جانب الحاجّ رضا، هناك الريّس البنزاكسول المشرف على المقهى وتوزيع الشغل على الشبان، وتلقّي طلبات الزبائن. ومن حين لآخر، يلتئم الشبان العاملون في سهرة «عرمرمية» يتصدرها «أبو زهرة» ضيف الشرف الذي يُفيض في سرد أسراره الجنسية مع إيفا الأرتيرية، ويشجعهم على بلْع الأقراص المخدرة التي اخترعها حسن النووي... قد تبدو هذه المشاهد عادية ومألوفة بالنسبة إلى شبانٍ يعيشون على هامش المجتمع، لولا أنهم، هنا، يعيشون في الضاحية الجنوبية، وفي فضاء تحرسه عيون سماحة السيد وخُطبه النارية، وصور شهداء المقاومة: «بالإضافة إلى الصورة الضخمة لسماحة السيّد، والممتدة على طول أربعة طوابق في أحد الأبنية المتاخمة لمبنى حمودي، شدّت نظره أرتال صور الشهداء المعلقة على أعمدة الكهرباء. فهو حفِظ تقاسيمَ هذه الوجوه الجميلة وملامحها أكثر من وجهه هو، حتى إنه لطالما شاهد أصحاب هذه الوجوه في مناماته» ص.50.
هذا العنصر في تكوين الرواية، أي الفضاء الذي يُحيل على أجواء إيديولوجية معينة في لبنان، هو ما يعطي ل «أورويل في الضاحية الجنوبية» أبعاداً دلالية قائمة على المفارقة والتناقض، سنتوقف عندها بعد حين. ونجد أن الشخصيات كثيرة في الرواية؛ إلا أن الكاتب يرسمها باقتصاد وتركيز ليدفع القارئ إلى استكمالها، على نحو ما يطالعنا به عندما يتحدث عن «بتول» جارة حمودي ذات السلوك الغرائبي: «من يَرَ إلى بتول وهي تتكلم على التلفون يصدق أن كونداليسا رايسْ هي على الخط الآخر. ولا مرة كانت بتول منشغلة عبر اتصالاتها الهاتفية دون هذا المستوى العالمي، إنما فقط مع النساء. حتى إنها، في إحدى المرات، استعارت الهاتف وظلت حوالى الساعتيْن تحادث أنجيلا ميركيل بأمرٍ مّا». ص. 33. لكن «حمودي» يستأثر باهتمامنا لأنه يظل من بداية الرواية إلى نهايتها، حاضناً لجُرحه السرّي المتصل بفقدان أخته «آلاء» أولاً، ثم موت جارته بتول برصاصة طائشة. وهذا ما يبرر الفقرات المكثفة ذات اللغة الشعرية في النص، كلما تعلق الأمر باستحضار الأخت في ذاكرة حمودي من خلال ما كانت تكتبه: «لم أشرّع أبوابي يوماً إلا أمام عيْنيكَ...أعذر كآبتي ومسَّ الجنون. وإذا ضحكتَ في العشايا لا تخبئ بين كفيْكَ ابتسامة تشبه البدايات المباغتة، ابتسامة تشبه أسعد النهايات». ص61.
عنفٌ مستتر وَمكشوف
يبدو جلياً، بعد إبراز طريقة السرد السينمائي وعناصر الشكل القائم على المشهدية والشخوص المنتسبة إلى فئات مُهمشة داخل فضاء إيديولوجي مُهيمِن، وتناقض سلوكِ الشخصيات مع أخلاق ومبادئ سدنةِ الضاحية الغربية، أن عنصر المُفارقة والتناقض يضيء تأويل الدلالة في الرواية. وإذا كان العنوان يُخصص الضاحية الجنوبية من بيروت، فإن الدلالة لا تستقيم من دون استحضار الكليّة المجتمعية التي ينتسب إليها الجزء المقتطَع، المُوظف في التمثيل الروائي. من هذه الزاوية، نسجل أن سيطرة الإيديولوجيات الطائفية سمة ٌعامة في لبنان، ضمن نظام سياسي يدّعي الديموقراطية وينتحل مظاهرها.
والمفارقة بارزة داخل كل طائفة، بين النخَب القيادية وعامة المواطنين المنضوين ضمن الطائفة. ولعل التناقض هو أوضح في الضاحية الجنوبية لأن المرجعية الدينية الداعمة للخطاب الإيديولوجي تتطلع إلى الشمولية المتخطية للقطر أو البلد الواحد. ومن ثم، تبدو لنا شخوص «أورويل في الضاحية الجنوبية» كاشفة لتناقضٍ مزدوج: العنف الذي يخضع له أتباع الطائفة/الإيديولوجية من خلال الخُطب والصور والتأطير السياسي الأحادي. وفي المقابل هناك عنف مكشوف يتمثل في نوعية الاستغلال الذي يمارَس على نماذج من الفئات المهمشة التي لا تستطيع أن تكسب عيشها في شروط تحفظ الكرامة، فتتظاهر بالانتماء إلى مبادئ الطائفة المهيمنة، فيما هي تمارس سلوكاً مخالفاً للتعاليم الإيديولوجية السائدة: «ثمة على جدران المحلّ الكثير من الصور والعبارات التي تحثّ على الصبر والتواضع، بالإضافة إلى بيْتيْن من الشعر للإمام عليّ، علقهما الحاجّ رضا على الجدار المواجه لمكتبه فوق مدخل المحل بالتحديد: السيف والخنجر ريْحاننا/ أفٍ على النرجس والآسِ / شرابنا من دم أعدائنا/ وكأسنا جمجمة الراسِ» ص 75. لكن هؤلاء الشبان المحاصرين داخل سياج الوعظ والإرشاد، لا يترددون في انتهاك التعاليم عندما تستبد بهم شهوة الحياة، فنجد حمودي ينقاد إلى مشاهدة أفلام الجنس التي أعطاها له صديقه شادي، ونجد الشلة في سهرتها تقبل على الشرب والمخدرات لتحمّلِ وطأة التهميش وأخطار البطالة التي تتهدّدهم في كل حين. وهو ما نجد له تعبيراً قوياً وجميلاً في نهاية الرواية، بعد سهرة شبان المقهى ووُرودِ خبرٍ عن توقف الشغل في دائرة الأراكيل لمدة ستة أشهر: « ...ساد الصمت في الغرفة إلا من بعض النهنهات التي كان كل واحد من الأولاد يحاول كتمها على طريقته الخاصة ويفشل ... خالطتْ ابتساماتهم الدموعُ وقد تواطأ كل منهم أن يستقبل دموع الآخر بدون أن ينبس بحرف» ص 140.
لقد استطاعتْ «أورويل في الضاحية الجنوبية»، إلى جانب تمثيل حيواتِ مهمشين غائصين في تناقضات الواقع والإيديولوجيا، في شكل روائي تجريبي له جماليته، أن تقدم في الآن نفسه، نوعاً من الشهادة عن فئات واسعة من المجتمع اللبناني، مُصادَري الصوت والحقوق، وذلك من خلال لغة تمتح من معجم هجين ينطوي على أبعاد فكرية وشعورية كاشفة لوجود أولائك المتروكين على الحساب. ومن هذا المنظور، تندرج رواية فوزي ذبيان ضمن إبداع الروائيين العرب الشباب الذين يستوحون الواقع المتردّي المطبوع بالعنف والإرهاب والصخب الإيديولوجي العقيم.
يلفت في رواية «أورويل في الضاحية الجنوبية» للكاتب اللبناني فوزي ذبيان (دار الآداب،2017)، لغتُها المتعددة المستويات واستيحاؤها فئاتٍ بشرية مهمشة في بيروت، تعيش متوارية وراء العمارات العملاقة ومظاهر العيش المُترفة الزاعقة. وشكل بناء الرواية يصلُنا من خلال أربعٍ وأربعين فقرة أقرب ما تكون إلى شكل سيناريو سينمائي، يعتمد على مشاهد تصاحبُ الفعلَ والوصف وتستعمل الحوار بلغة الكلام المُتداولة في الضاحية الجنوبية، بما هي عليه من هجنةٍ تخلط الدارجة بالكلمات الإنكليزية، وتجعل السرد أفقياً يتمدّد ليلتقط تفاصيل الحياة لفئاتٍ تعيش في الهامش، وتتعيّش من خدمةِ مَنْ لهم إمكانات الإنفاق على ما يُعدّل المزاج ويؤمن بعض الحاجيات اليومية. بعبارة ثانية، لا تقوم الرواية على حِبْكة عمودية تنطوي على مفاجآت، وإنما هي بنية مفتوحة تتوخى الإطلالة على شرائح من هذه الفئات المهمشة التي تعمل لمصلحة مَنْ يملكون مشاريع لها علاقة بالخدمة العامة، مثل بيع المياه الصالحة للشرب، أو تأجير الأراكيل وتوصيلها إلى البيوت والدكاكين، أو بيع البيرة الحلال... والشخوص الأساسية التي تؤثث هذا الفضاء في أطراف الضاحية، هي من فئة شبانٍ يعملون في مثل هذه المهن الخدماتية التي لا تتوافر على أي ضمان اجتماعي أو حقوق ثابتة. ويحتل حمودي موقعاً بارزاً في النصّ، لأنه يعيش مع أمه العجوز بعد أن ماتت أخته العزيزة وتركت جرحاً غائراً في نفسه، وهو يسعى إلى أن يجد عملاً يخرجه من دائرة البؤس ويحقق من خلاله ما تطمح إليه نفسه الشابّة ... لكن مجموعة متنفذة أرغمته على ترك عمله في توزيع المياه الصالحة للشرب، فاضطرّ إلى الالتحاق بدائرة الحاجّ رضا صاحب مقهى تُؤجّر الأراكيل وتقدم خدمات أخرى غير منظورة.
وفي فضاء عمله الجديد، يلتقي حمودي بزملاء في الخدمة لهم ملامح مختلفة، وممارسات تتوخى نسيان الوضعية البائسة، والتهميش المطارد لهم. وإلى جانب الحاجّ رضا، هناك الريّس البنزاكسول المشرف على المقهى وتوزيع الشغل على الشبان، وتلقّي طلبات الزبائن. ومن حين لآخر، يلتئم الشبان العاملون في سهرة «عرمرمية» يتصدرها «أبو زهرة» ضيف الشرف الذي يُفيض في سرد أسراره الجنسية مع إيفا الأرتيرية، ويشجعهم على بلْع الأقراص المخدرة التي اخترعها حسن النووي... قد تبدو هذه المشاهد عادية ومألوفة بالنسبة إلى شبانٍ يعيشون على هامش المجتمع، لولا أنهم، هنا، يعيشون في الضاحية الجنوبية، وفي فضاء تحرسه عيون سماحة السيد وخُطبه النارية، وصور شهداء المقاومة: «بالإضافة إلى الصورة الضخمة لسماحة السيّد، والممتدة على طول أربعة طوابق في أحد الأبنية المتاخمة لمبنى حمودي، شدّت نظره أرتال صور الشهداء المعلقة على أعمدة الكهرباء. فهو حفِظ تقاسيمَ هذه الوجوه الجميلة وملامحها أكثر من وجهه هو، حتى إنه لطالما شاهد أصحاب هذه الوجوه في مناماته» ص.50.
هذا العنصر في تكوين الرواية، أي الفضاء الذي يُحيل على أجواء إيديولوجية معينة في لبنان، هو ما يعطي ل «أورويل في الضاحية الجنوبية» أبعاداً دلالية قائمة على المفارقة والتناقض، سنتوقف عندها بعد حين. ونجد أن الشخصيات كثيرة في الرواية؛ إلا أن الكاتب يرسمها باقتصاد وتركيز ليدفع القارئ إلى استكمالها، على نحو ما يطالعنا به عندما يتحدث عن «بتول» جارة حمودي ذات السلوك الغرائبي: «من يَرَ إلى بتول وهي تتكلم على التلفون يصدق أن كونداليسا رايسْ هي على الخط الآخر. ولا مرة كانت بتول منشغلة عبر اتصالاتها الهاتفية دون هذا المستوى العالمي، إنما فقط مع النساء. حتى إنها، في إحدى المرات، استعارت الهاتف وظلت حوالى الساعتيْن تحادث أنجيلا ميركيل بأمرٍ مّا». ص. 33. لكن «حمودي» يستأثر باهتمامنا لأنه يظل من بداية الرواية إلى نهايتها، حاضناً لجُرحه السرّي المتصل بفقدان أخته «آلاء» أولاً، ثم موت جارته بتول برصاصة طائشة. وهذا ما يبرر الفقرات المكثفة ذات اللغة الشعرية في النص، كلما تعلق الأمر باستحضار الأخت في ذاكرة حمودي من خلال ما كانت تكتبه: «لم أشرّع أبوابي يوماً إلا أمام عيْنيكَ...أعذر كآبتي ومسَّ الجنون. وإذا ضحكتَ في العشايا لا تخبئ بين كفيْكَ ابتسامة تشبه البدايات المباغتة، ابتسامة تشبه أسعد النهايات». ص61.
عنفٌ مستتر وَمكشوف
يبدو جلياً، بعد إبراز طريقة السرد السينمائي وعناصر الشكل القائم على المشهدية والشخوص المنتسبة إلى فئات مُهمشة داخل فضاء إيديولوجي مُهيمِن، وتناقض سلوكِ الشخصيات مع أخلاق ومبادئ سدنةِ الضاحية الغربية، أن عنصر المُفارقة والتناقض يضيء تأويل الدلالة في الرواية. وإذا كان العنوان يُخصص الضاحية الجنوبية من بيروت، فإن الدلالة لا تستقيم من دون استحضار الكليّة المجتمعية التي ينتسب إليها الجزء المقتطَع، المُوظف في التمثيل الروائي. من هذه الزاوية، نسجل أن سيطرة الإيديولوجيات الطائفية سمة ٌعامة في لبنان، ضمن نظام سياسي يدّعي الديموقراطية وينتحل مظاهرها.
والمفارقة بارزة داخل كل طائفة، بين النخَب القيادية وعامة المواطنين المنضوين ضمن الطائفة. ولعل التناقض هو أوضح في الضاحية الجنوبية لأن المرجعية الدينية الداعمة للخطاب الإيديولوجي تتطلع إلى الشمولية المتخطية للقطر أو البلد الواحد. ومن ثم، تبدو لنا شخوص «أورويل في الضاحية الجنوبية» كاشفة لتناقضٍ مزدوج: العنف الذي يخضع له أتباع الطائفة/الإيديولوجية من خلال الخُطب والصور والتأطير السياسي الأحادي. وفي المقابل هناك عنف مكشوف يتمثل في نوعية الاستغلال الذي يمارَس على نماذج من الفئات المهمشة التي لا تستطيع أن تكسب عيشها في شروط تحفظ الكرامة، فتتظاهر بالانتماء إلى مبادئ الطائفة المهيمنة، فيما هي تمارس سلوكاً مخالفاً للتعاليم الإيديولوجية السائدة: «ثمة على جدران المحلّ الكثير من الصور والعبارات التي تحثّ على الصبر والتواضع، بالإضافة إلى بيْتيْن من الشعر للإمام عليّ، علقهما الحاجّ رضا على الجدار المواجه لمكتبه فوق مدخل المحل بالتحديد: السيف والخنجر ريْحاننا/ أفٍ على النرجس والآسِ / شرابنا من دم أعدائنا/ وكأسنا جمجمة الراسِ» ص 75. لكن هؤلاء الشبان المحاصرين داخل سياج الوعظ والإرشاد، لا يترددون في انتهاك التعاليم عندما تستبد بهم شهوة الحياة، فنجد حمودي ينقاد إلى مشاهدة أفلام الجنس التي أعطاها له صديقه شادي، ونجد الشلة في سهرتها تقبل على الشرب والمخدرات لتحمّلِ وطأة التهميش وأخطار البطالة التي تتهدّدهم في كل حين. وهو ما نجد له تعبيراً قوياً وجميلاً في نهاية الرواية، بعد سهرة شبان المقهى ووُرودِ خبرٍ عن توقف الشغل في دائرة الأراكيل لمدة ستة أشهر: « ...ساد الصمت في الغرفة إلا من بعض النهنهات التي كان كل واحد من الأولاد يحاول كتمها على طريقته الخاصة ويفشل ... خالطتْ ابتساماتهم الدموعُ وقد تواطأ كل منهم أن يستقبل دموع الآخر بدون أن ينبس بحرف» ص 140.
لقد استطاعتْ «أورويل في الضاحية الجنوبية»، إلى جانب تمثيل حيواتِ مهمشين غائصين في تناقضات الواقع والإيديولوجيا، في شكل روائي تجريبي له جماليته، أن تقدم في الآن نفسه، نوعاً من الشهادة عن فئات واسعة من المجتمع اللبناني، مُصادَري الصوت والحقوق، وذلك من خلال لغة تمتح من معجم هجين ينطوي على أبعاد فكرية وشعورية كاشفة لوجود أولائك المتروكين على الحساب. ومن هذا المنظور، تندرج رواية فوزي ذبيان ضمن إبداع الروائيين العرب الشباب الذين يستوحون الواقع المتردّي المطبوع بالعنف والإرهاب والصخب الإيديولوجي العقيم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.