محافظ الشرقية يُهنئ أسقف الزقازيق ومنيا القمح وراعي الكنيسة الكاثوليكية بعيد القيامة    همت سلامة: الرئيس السيسي لا يفرق بين مسلم ومسيحي ويتحدث دائماً عن كوننا مصريين    أستاذ جراحة يكشف تأثير الذكاء الاصطناعي على طب العيون (فيديو)    البيض يتراجع 29 جنيهًا، وهذه أسعار الدواجن اليوم الأحد 5 مايو 2024    لبناء محور نتساريم، إسرائيل تنسف عشرات المنازل بمنطقة المغراقة في غزة    الأهلي يفتقد عمرو السولية أمام الاتحاد السكندري    تعرف علي موعد مباراة ليفربول ضد توتنهام فى الدوري الإنجليزي والقناة الناقلة    شوبير عبر برنامجه الإذاعي : أحمد عبد القادر يغيب عن الأهلي فى مباراتى الترجى التونسى بنهائى أفريقيا    حبس المتهمين بالاعتداء على سائق لسرقة توك توك بالدقهلية    حسن الرداد ضيف لميس الحديدي في "كلمة أخيرة" الثلاثاء المقبل    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الإثنين 6-5-2024، السرطان والأسد والعذراء    تكريم المتميزين من فريق التمريض بصحة قنا    العثور على جثة عامل ملقاة في مصرف مياه بالقناطر الخيرية.. أمن القليوبية يكشف التفاصيل    البحر الأحمر تستعد لأعياد شم النسيم بتجهيز الشواطئ العامة وارتفاع نسبة الإشغال في الفنادق إلى 90%    إدرايا.. تأجيل محاكمة 22 متهما بقضية الهيكل الإدارى للإخوان لجلسة 6 يوليو    ورش عمل مكثفة لمديريات الإسكان حول تطبيق قانون التصالح في بعض مخالفات البناء    حسام عاشور: رفضت الانضمام للزمالك.. ورمضان صبحي "نفسه يرجع" الأهلي    فاينانشال تايمز: الاتحاد الأوروبي يضغط لاستبعاد قطاع الزراعة من النزاعات التجارية مع الصين    أخبار الأهلي: شوبير يكشف عن تحديد أول الراحلين عن الأهلي في الصيف    الأهلي يجدد عقد حارسه بعد نهائي أفريقيا    وزير المالية: 3.5 مليار جنيه لدعم الكهرباء وشركات المياه و657 مليون ل«المزارعين»    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الأحد في الأسواق (موقع رسمي)    الإسكان: 98 قرارًا لاعتماد التصميم العمراني والتخطيط ل 4232 فدانًا بالمدن الجديدة    وزيرة البيئة: المحميات فرصة للاستمتاع بأعياد الربيع وسط الطبيعة    «الري»: انطلاق المرحلة الثانية من برنامج تعزيز التكيف مع التغيرات المناخية في الساحل الشمالي والدلتا    اتحاد القبائل العربية: نقف صفًا واحدًا خلف القيادة السياسية والقوات المسلحة «مدينة السيسي» هدية جديدة من الرئيس لأرض الفيروز    مختار مختار يطالب بإراحة نجوم الأهلي قبل مواجهة الترجي    رئيس جامعة بنها: تلقينا 3149 شكوى وفحص 99.43% منها    مسؤول أممي: تهديد قضاة «الجنائية الدولية» انتهاك صارخ لاستقلالية المحكمة    أوكرانيا تسقط 23 طائرة مسيرة روسية خلال الليل    رئيس الوزراء الياباني: ليس هناك خطط لحل البرلمان    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    وفاة كهربائي صعقه التيار بسوهاج    تبدأ من 5 جنيهات.. أرخص 10 أماكن «فسح وخروج» في شم النسيم 2024    قصف مدفعي إسرائيلي على الحدود اللبنانية    يصل إلى 50 شهاباً في السماء.. «الجمعية الفلكية» تعلن موعد ذروة «إيتا الدلويات 2024» (تفاصيل)    نجل الطبلاوي: والدي كان يوصينا بحفظ القرآن واتباع سنة النبي محمد (فيديو)    يعود لعصر الفراعنة.. خبير آثار: «شم النسيم» أقدم عيد شعبي في مصر    سرب الوطنية والكرامة    الكاتبة فاطمة المعدول تتعرض لأزمة صحية وتعلن خضوعها لعملية جراحية    حكيم ومحمد عدوية اليوم في حفل ليالي مصر أحتفالا بأعياد الربيع    البابا تواضروس خلال قداس عيد القيامة: الوطن أغلى ما عند الإنسان (صور)    رئيس «الرعاية الصحية» يبحث تعزيز التعاون مع ممثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة    صحة الإسماعيلية تنظم مسابقات وتقدم الهدايا للأطفال خلال الاحتفال بعيد القيامة (صور)    أخبار الأهلي: تحرك جديد من اتحاد الكرة في أزمة الشيبي والشحات    حالة الطرق اليوم، سيولة مرورية بمحاور وميادين القاهرة والجيزة    إنقاذ العالقين فوق أسطح المباني في البرازيل بسبب الفيضانات|فيديو    كريم فهمي: مكنتش متخيل أن أمي ممكن تتزوج مرة تانية    مخاوف في أمريكا.. ظهور أعراض وباء مميت على مزارع بولاية تكساس    مصر للبيع.. بلومبرج تحقق في تقريرها عن الاقتصاد المصري    حزب العدل يشارك في قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تداعيات وذكريات عن محمد خان المخرج الذي أثرى الحياة بإبداعاته
نشر في صوت البلد يوم 14 - 08 - 2016

ليس من الممكن استخدام الفعل الماضي في الحديث عن “سينما محمد خان”، فهي لا تزال موجودة، وستظل محفورة في ذاكرة المشاهدين العرب، بعد رحيله المفاجئ الصادم الذي يعد خسارة كبيرة للسينما في العالم العربي، فقد كان بين قلائل من أبناء جيله، حيث ظل حتى آخر لحظة في حياته، يعمل ويخرج الأفلام ويذهب إلى المهرجانات السينمائية يعرضها ويناقشها.
لم يركن إلى الصمت أو يتوارى عن الأنظار مكتفيا بالتطلع إلى إنجازاته السابقة، بل كان يخطط ويدرس ويستعد لمشاريع سينمائية جديدة قادمة، بحماس الشباب الذي لم يفارق محمد خان يوما، فقد كان مليئا بالحيوية والإقبال على الحياة، يتمتع بحب الجميع، من أبناء الأجيال المختلفة، ينقل خبرته إلى تلاميذه من السينمائيين الشباب، في تواضع كبير، وحب كبير للسينما والحياة والناس.
عاشق السينما
محمد خان الذي ربطتني به صداقة امتدت لأكثر من ثلاثين سنة، لم يدرس السينما دراسة أكاديمية (المعلومات المنشورة في هذا المجال خاطئة ومضللة)، بل تعلم السينما في قاعات العرض السينمائي، من مشاهدة الأفلام نفسها، ويمكنني القول بثقة، إن محمد خان من أكثر من عرفتهم في حياتي “إدمانا” على مشاهدة الأفلام، ومن كل الأنواع دون استثناء، بل وربما كان يشعر بنوع من الغيرة الجميلة عندما يسمع من يحدثه عن فيلم جيّد شاهده، وكان يتحين الفرصة للحصول عليه ومشاهدته.
كان محمد خان قريب الشبه بمخرجي حركة الموجة الجديدة التي ظهرت في فرنسا في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، الذين تعلموا السينما من خلال السينما نفسها، واكتسبوا خبرتهم عن طريق الممارسة المباشرة. وخلال فترة إقامته في العاصمة البريطانية لندن في الستينات، ثم في السبعينات، كان دائم التردد على قاعة العروض السينمائية الشهيرة “مسرح الفيلم الوطني”، القاعة الواقعة في الضفة الجنوبية على نهر التايمز وتتبع معهد الفيلم البريطاني (وهو مؤسسة ثقافية وليست تعليمية)، وتعتبر هذه القاعة مدرسة حقيقية للسينما، فقد كانت ومازالت، تنظم عروضا منظمة، للمدارس والحركات والتيارات السينمائية المختلفة وأعمال المخرجين، وهناك شاهد خان الكلاسيكيات، وأفلام المجددين في السينما العالمية إبّان تلك الفترة من عقدي الستينات والسبعينات، وهي الفترة التي يمكن أن نطلق عليها بحق، “عصر السينما”، أي عصر حركات التجديد التي نقلت السينما من مجال التسلية والصناعة إلى مجال الفنون الرفيعة والشعر.
على المستوى العملي، مثله مثل سبيلبرغ، بدأ محمد خان علاقته بالسينما من خلال أفلام الهواة، ولعب ارتباطه برفيق طفولته وشبابه، سعيد شيمي، دورا كبيرا في حبه للسينما وإقباله على اقتحام عالمها، فقد أخرج في بدايات حياته الفنية عددا من أفلام الهواة، منها فيلم “الصعود فوق الهرم” (1969)، صوره بكاميرا من مقاس 8 مم، سعيد شيمي الذي أصبح فيما بعد أحد مديري التصوير المرموقين في السينما المصرية، بعد ذلك أخرج خان من تصوير سعيد شيمي أيضا، فيلما روائيا قصيرا بديعا يدوم 10 دقائق هو فيلم “البطيخة”.
رحيل فارس من فرسان "عصر السينما"
كان “البطيخة” يصور فقط عودة موظف صغير مطحون من عمله إلى بيته في قيظ الظهيرة بمدينة القاهرة، حاملا بطيخة يتشوّق لتقاسمها مع أفراد أسرته لعلها تكسر لديهم حدة حرارة الصيف. إنها فكرة مجردة وشديدة البساطة، لا مجال لتحميلها بأفكار فلسفية أو اجتماعية كبيرة، لكن خان ومصوّره العظيم سعيد شيمي، الذي سيظل يشاركه إنجاز أهم أفلامه في ما بعد، تمكنا من تحويل هذا الموضوع البسيط إلى تحفة بصرية وصوتية، لا شك أنها جاءت متأثرة كثيرا بالسينما الفنية الجديدة التي كان للكاميرا فيها، كما للمونتاج والصوت، دور كبير بارز، كان هذا أيضا زمن “الأبيض والأسود”، وهو فن التصوير الأكثر صعوبة وأصالة.
وعندما توليت إدارة مهرجان الإسماعيلية السينمائي عام 2012، فكرت في تنظيم عروض لعشرة من الأفلام الأولى لعشرة مخرجين مصريين أصبحوا في ما بعد من كبار السينمائيين في السينما الروائية والتسجيلية، أمثال داود عبدالسيد وهاشم النحاس وعلي بدرخان وصلاح أبوسيف، اخترت فيلم “البطيخة”، واتصلت بمحمد خان للحصول على نسخته السينمائية (وكانت من مقاس 35 مم)، وقلت إننا سنقوم بعمل نسخة رقمية (ديجيتال) منها على نفقة المهرجان، وافقنا على أن يحصل هو على نسخة على سبيل الإهداء، وقد تحمس كثيرا للفكرة، ثم جاء إلى مكتبي ومعه صديقه التاريخي سعيد شيمي (وكان الاثنان قد قبلا وقتها المشاركة في عضوية لجنة المشاهدة واختيار أفلام المهرجان).
وضع خان علبة الفيلم أمامي، وكان شديد الحرص عليها، وقال أنها ظلت راقدة منذ سنوات في الحقيبة الخلفية لسيارته، وطلب أن أتعهد له بالمحافظة عليها وإعادتها إليه بعد تحويلها إلى النسخة الديجيتال. كنت شديد السعادة بالحصول على الفيلم الذي لم يكن قد عرض في مصر منذ عروضه الأولى وقت ظهوره عام 1972، لكني فوجئت في ما بعد، عندما أخبرني مدير التصوير السينمائي محمود عبدالسميع، وكان هو المسؤول عن الجوانب التقنية والفنية في المهرجان، بأن الشريط الذي وجد داخل العلبة كان شريط الصوت فقط، أما شريط الصورة فكان مفقودا.. أي أننا أمام جزء من الفيلم قبل عمل ما يسمى ب”المكساج”، أي المزج بين شريطي الصوت والصورة.
وعندما أخبرت محمد خان، أبدى استغرابه وقال إنه لا يعرف الموجود داخل العلبة وأنه لم يفتحها منذ سنوات، ولا يعرف أين ذهب شريط الصورة.. ثم بدأ البحث الطويل الشاق من أجل العثور على الشريط المفقود، وأخيرا تمكننا من العثور عليه في مخزن مغلق في بيت مونتير الفيلم أحمد متولي، الذي توفي -رحمه الله- في ديسمبر الماضي، وكان قد أهمله ونسيه تماما، وقد أمكن بالتالي إنقاذ الفيلم، ثم استخلاص نسخة رقمية حديثة منه، وعرض الفيلم بحضور مخرجه خان، في تلك الأمسية المشهودة التي شهدت تدفق عدد كبير من جمهور مدينة الإسماعيلية على نحو لم يشهده المهرجان من قبل.
ابن الثقافة المصرية
يميل البعض من الأصدقاء إلى القول إن محمد خان لم يكن مصريا، بل باكستاني، بحكم أن والده كان باكستانيا، وكانت أمه إيطالية، وقد عاش كلاهما لفترة طويلة في مصر، وكانا يحملان الجنسية البريطانية، ثم حملها خان أيضا. ومع ذلك، ولد ونشأ خان على أرض مصر، في حي عابدين وسط مدينة القاهرة، ثم تزوج من مصرية وأنجب منها، وارتبطت مشاعره وثقافته وضميره الشخصي والمهني بمصر، وبالثقافة المصرية، وبالسينما المصرية، وصنع كل أفلامه في مصر.
ولأسباب تعود إلى التعقيدات البيروقراطية المعروفة في الإدارة المصرية لم يتمكن محمد خان من الحصول على الجنسية المصرية، إلاّ قبل سنوات محدودة، ولكن هذا لم يكن يحول دونه والإقامة الدائمة في مصر، والاستمرار في عمل أفلامه هناك، والقول إن محمد خان باكستاني، يشبه القول إن وودي ألين ينتمي إلى يهود خيبر وبني قريظة!
كان محمد خان من المخرجين الذين حظوا باهتمام كبير من جانب النقاد، سواء في مصر أو خارج مصر، وقد كُتب الكثير عن أفلامه، وصدر عنه وعن تجربته أكثر من كتاب، وعرضت أفلامه في المهرجانات السينمائية بالعالم العربي حيث نالت الكثير من الجوائز. ويعتبر فيلمه “الحرّيف” أحد أفضل الأفلام في تاريخ السينما المصرية جنبا إلى جنب مع “زوجة رجل مهم” و”أحلام هند وكاميليا”، وتعتبر هذه الأفلام الثلاثة تحديدا، من كلاسيكيات السينما المصرية، وفيها يبرز أسلوب خان الذي يمكن القول إنه يميل إلى الواقعية الشعرية.
صحيح أنه يصور أحداث وشخصيات تتحرك في الواقع، واقع الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة، إلاّ أن تصوير خان أو تجسيده لهذه الشخصيات والأحداث والمشاهد، يصطبغ بحزن نبيل، وبميل إلى التأمل الشعري، والبحث الروحاني المعذب عن الخلاص، ما يعكس شعورا دفينا بالحزن، وبالاغتراب عن الواقع، وبالميل إلى مشاكسته والتمرد عليه وتجاوزه، ولكن دون نجاح.
وأبطال أفلامه هم بهذا المعنى، أبطال مهزومون باستمرار، إنهم أبطال فرديون، يخوضون معارك يومية من أجل البقاء، وإثبات الوجود رغم الظروف القاسية المحيطة بهم، إنهم يسقطون وينهضون، ثم يخسرون معاركهم، فالواقع أكبر وأقوى، وما تملكه اليوم، سيضيع منك غدا.
هذه الرؤية الحزينة الشفافة، هي التي جعلت خان بأفلامه، أحد السينمائيين المجددين في السينما المصرية، فواقعيته ليست واقعية الحارة والجماعة أو الكشف عن بذور التمرد الكامنة والتبشير بالثورة الاجتماعية، كما كانت أفلام كامل التلمساني وصلاح أبوسيف مثلا، بل هي أفلام تمتزج بالشعور الشخصي؛ بحجم المتاهة ومستوى الاغتراب غير المسبوق، بعد أن أصبح الواقع يستعصي على التصنيف.
تحفة "كليفتي"
من بين كل أفلام خان أشعر بحب خاص لما أعتبره أكثر أفلامه جرأة، ليس فقط على الصعيد الاجتماعي، بل على مستوى الجرأة في الشكل، وهو فيلم “كليفتي” الذي أنتجه وأخرجه محمد خان عام 2004 وصوره بكاميرا الديجيتال الرقمية، في تجربة طليعية غير مسبوقة.
إنه تحفة سينمائية خالصة، لكنه كان أيضا، أكثر أفلامه ظلما وتجاهلا، ربما بسبب ظروف إنتاجه التي لم تسمح بعرضه جماهيريا في دور العرض كما كان ينبغي، وربما أيضا نتيجة عدم وجود نجوم شباك في بطولته، فلم يكن اسم الممثل باسم سمرة قد لمع بعدُ عندما قام ببطولة هذا الفيلم أمام الممثلة الموهوبة رولا محمود، التي لا شك أنها تعرضت لأبشع عملية اغتيال فني تتعرض له ممثلة موهوبة، بسبب عدم استعدادها لتقديم التنازلات.
“كليفتي” ليس من أفلام الهجاء السياسي، بل من أفلام البحث الشاق عن العلاقة بين الإنسان والعالم المحيط به، ليس على صعيد مجرّد أو تجريدي، بل في إطار محدد نعيشه ونلمسه، فالإنسان فيه هو ذلك الإنسان البسيط المهمش، الضائع، الذي لا يكف عن التطلع إلى تحقيق أحلامه الصغيرة، لكن هذه الأحلام تُجهض؛ إنه نموذج آخر للبطل الذي يُهزم باستمرار.
هناك تيار ما “وجودي” في هذا الفيلم الشاعري الجميل المحمل بالعشرات من الإشارات حول معنى الوجود في عالم يرفضك ويضيق عليك، تفلت الفرصة فيه مرة تلو الأخرى، لكنك تحاول وتسعى وتتشبث ببصيص من الأمل: في الحب، في الصداقة، في استراق السمع، في سرقة الأشياء الصغيرة، في التعالي على المظاهر الخارجية من حولك، في الإحساس بعدم جدوى ما تفعله في قرارة نفسك، لكنك تواصل ارتكابه لأنه الشيء الوحيد الذي يضمن لك مجرد البقاء ولو على الهامش.
يصبح الأصدقاء وهما كبيرا، وتصبح الأسرة طغيانا من المشاعر التي لا يمكنك احتمالها، أما الحب فلا مجال أمامه لأن يكتمل، فهو يتوقف عند لحظات من المتعة المسروقة التي تمنح بطلنا الصعلوك المشرّد، نقطة ضوء يواصل منها الاتكاء على جذع من النوايا الطيبة، والكثير من الحماقات الصغيرة. كان محمد خان هاويا عظيما للسينما، ولم يكن يصنع أفلامه نتيجة حسابات، بل كان مخلصا لما يحبه ويشعر به حتى لو لم تعجبنا نحن، ولكنه ارتكب خطأ واحدا عندما أخرج فيلم “أيام السادات”، الذي يعتبر شاذا عن كل أفلام خان، ولا أظن أنه أضاف له شيئا.
لم أشاهد فيلم محمد خان الأخير، وكنت أودّ أن أشاهده عندما أذهب إلى القاهرة، وكان لا بدّ أن نلتقي، فقد كانت علاقتنا دائما سلسلة من اللقاءات والافتراقات، ولكن كان لديّ دائما شعور داخلي خاص بأن محمد خان هناك، في القاهرة، وأننا لا بدّ أن نلتقي مجددا، حتى في أحد المهرجانات السينمائية، لكن القدر شاء أن أحرم من هذا اللقاء. رحم الله محمد خان، الذي ذهب، وترك لنا أفلامه المليئة بالحب والحياة، والرغبة الممتدة، في الحلم والعيش والبقاء والصمود في وجه كل صعوبات الحياة.
ليس من الممكن استخدام الفعل الماضي في الحديث عن “سينما محمد خان”، فهي لا تزال موجودة، وستظل محفورة في ذاكرة المشاهدين العرب، بعد رحيله المفاجئ الصادم الذي يعد خسارة كبيرة للسينما في العالم العربي، فقد كان بين قلائل من أبناء جيله، حيث ظل حتى آخر لحظة في حياته، يعمل ويخرج الأفلام ويذهب إلى المهرجانات السينمائية يعرضها ويناقشها.
لم يركن إلى الصمت أو يتوارى عن الأنظار مكتفيا بالتطلع إلى إنجازاته السابقة، بل كان يخطط ويدرس ويستعد لمشاريع سينمائية جديدة قادمة، بحماس الشباب الذي لم يفارق محمد خان يوما، فقد كان مليئا بالحيوية والإقبال على الحياة، يتمتع بحب الجميع، من أبناء الأجيال المختلفة، ينقل خبرته إلى تلاميذه من السينمائيين الشباب، في تواضع كبير، وحب كبير للسينما والحياة والناس.
عاشق السينما
محمد خان الذي ربطتني به صداقة امتدت لأكثر من ثلاثين سنة، لم يدرس السينما دراسة أكاديمية (المعلومات المنشورة في هذا المجال خاطئة ومضللة)، بل تعلم السينما في قاعات العرض السينمائي، من مشاهدة الأفلام نفسها، ويمكنني القول بثقة، إن محمد خان من أكثر من عرفتهم في حياتي “إدمانا” على مشاهدة الأفلام، ومن كل الأنواع دون استثناء، بل وربما كان يشعر بنوع من الغيرة الجميلة عندما يسمع من يحدثه عن فيلم جيّد شاهده، وكان يتحين الفرصة للحصول عليه ومشاهدته.
كان محمد خان قريب الشبه بمخرجي حركة الموجة الجديدة التي ظهرت في فرنسا في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، الذين تعلموا السينما من خلال السينما نفسها، واكتسبوا خبرتهم عن طريق الممارسة المباشرة. وخلال فترة إقامته في العاصمة البريطانية لندن في الستينات، ثم في السبعينات، كان دائم التردد على قاعة العروض السينمائية الشهيرة “مسرح الفيلم الوطني”، القاعة الواقعة في الضفة الجنوبية على نهر التايمز وتتبع معهد الفيلم البريطاني (وهو مؤسسة ثقافية وليست تعليمية)، وتعتبر هذه القاعة مدرسة حقيقية للسينما، فقد كانت ومازالت، تنظم عروضا منظمة، للمدارس والحركات والتيارات السينمائية المختلفة وأعمال المخرجين، وهناك شاهد خان الكلاسيكيات، وأفلام المجددين في السينما العالمية إبّان تلك الفترة من عقدي الستينات والسبعينات، وهي الفترة التي يمكن أن نطلق عليها بحق، “عصر السينما”، أي عصر حركات التجديد التي نقلت السينما من مجال التسلية والصناعة إلى مجال الفنون الرفيعة والشعر.
على المستوى العملي، مثله مثل سبيلبرغ، بدأ محمد خان علاقته بالسينما من خلال أفلام الهواة، ولعب ارتباطه برفيق طفولته وشبابه، سعيد شيمي، دورا كبيرا في حبه للسينما وإقباله على اقتحام عالمها، فقد أخرج في بدايات حياته الفنية عددا من أفلام الهواة، منها فيلم “الصعود فوق الهرم” (1969)، صوره بكاميرا من مقاس 8 مم، سعيد شيمي الذي أصبح فيما بعد أحد مديري التصوير المرموقين في السينما المصرية، بعد ذلك أخرج خان من تصوير سعيد شيمي أيضا، فيلما روائيا قصيرا بديعا يدوم 10 دقائق هو فيلم “البطيخة”.
رحيل فارس من فرسان "عصر السينما"
كان “البطيخة” يصور فقط عودة موظف صغير مطحون من عمله إلى بيته في قيظ الظهيرة بمدينة القاهرة، حاملا بطيخة يتشوّق لتقاسمها مع أفراد أسرته لعلها تكسر لديهم حدة حرارة الصيف. إنها فكرة مجردة وشديدة البساطة، لا مجال لتحميلها بأفكار فلسفية أو اجتماعية كبيرة، لكن خان ومصوّره العظيم سعيد شيمي، الذي سيظل يشاركه إنجاز أهم أفلامه في ما بعد، تمكنا من تحويل هذا الموضوع البسيط إلى تحفة بصرية وصوتية، لا شك أنها جاءت متأثرة كثيرا بالسينما الفنية الجديدة التي كان للكاميرا فيها، كما للمونتاج والصوت، دور كبير بارز، كان هذا أيضا زمن “الأبيض والأسود”، وهو فن التصوير الأكثر صعوبة وأصالة.
وعندما توليت إدارة مهرجان الإسماعيلية السينمائي عام 2012، فكرت في تنظيم عروض لعشرة من الأفلام الأولى لعشرة مخرجين مصريين أصبحوا في ما بعد من كبار السينمائيين في السينما الروائية والتسجيلية، أمثال داود عبدالسيد وهاشم النحاس وعلي بدرخان وصلاح أبوسيف، اخترت فيلم “البطيخة”، واتصلت بمحمد خان للحصول على نسخته السينمائية (وكانت من مقاس 35 مم)، وقلت إننا سنقوم بعمل نسخة رقمية (ديجيتال) منها على نفقة المهرجان، وافقنا على أن يحصل هو على نسخة على سبيل الإهداء، وقد تحمس كثيرا للفكرة، ثم جاء إلى مكتبي ومعه صديقه التاريخي سعيد شيمي (وكان الاثنان قد قبلا وقتها المشاركة في عضوية لجنة المشاهدة واختيار أفلام المهرجان).
وضع خان علبة الفيلم أمامي، وكان شديد الحرص عليها، وقال أنها ظلت راقدة منذ سنوات في الحقيبة الخلفية لسيارته، وطلب أن أتعهد له بالمحافظة عليها وإعادتها إليه بعد تحويلها إلى النسخة الديجيتال. كنت شديد السعادة بالحصول على الفيلم الذي لم يكن قد عرض في مصر منذ عروضه الأولى وقت ظهوره عام 1972، لكني فوجئت في ما بعد، عندما أخبرني مدير التصوير السينمائي محمود عبدالسميع، وكان هو المسؤول عن الجوانب التقنية والفنية في المهرجان، بأن الشريط الذي وجد داخل العلبة كان شريط الصوت فقط، أما شريط الصورة فكان مفقودا.. أي أننا أمام جزء من الفيلم قبل عمل ما يسمى ب”المكساج”، أي المزج بين شريطي الصوت والصورة.
وعندما أخبرت محمد خان، أبدى استغرابه وقال إنه لا يعرف الموجود داخل العلبة وأنه لم يفتحها منذ سنوات، ولا يعرف أين ذهب شريط الصورة.. ثم بدأ البحث الطويل الشاق من أجل العثور على الشريط المفقود، وأخيرا تمكننا من العثور عليه في مخزن مغلق في بيت مونتير الفيلم أحمد متولي، الذي توفي -رحمه الله- في ديسمبر الماضي، وكان قد أهمله ونسيه تماما، وقد أمكن بالتالي إنقاذ الفيلم، ثم استخلاص نسخة رقمية حديثة منه، وعرض الفيلم بحضور مخرجه خان، في تلك الأمسية المشهودة التي شهدت تدفق عدد كبير من جمهور مدينة الإسماعيلية على نحو لم يشهده المهرجان من قبل.
ابن الثقافة المصرية
يميل البعض من الأصدقاء إلى القول إن محمد خان لم يكن مصريا، بل باكستاني، بحكم أن والده كان باكستانيا، وكانت أمه إيطالية، وقد عاش كلاهما لفترة طويلة في مصر، وكانا يحملان الجنسية البريطانية، ثم حملها خان أيضا. ومع ذلك، ولد ونشأ خان على أرض مصر، في حي عابدين وسط مدينة القاهرة، ثم تزوج من مصرية وأنجب منها، وارتبطت مشاعره وثقافته وضميره الشخصي والمهني بمصر، وبالثقافة المصرية، وبالسينما المصرية، وصنع كل أفلامه في مصر.
ولأسباب تعود إلى التعقيدات البيروقراطية المعروفة في الإدارة المصرية لم يتمكن محمد خان من الحصول على الجنسية المصرية، إلاّ قبل سنوات محدودة، ولكن هذا لم يكن يحول دونه والإقامة الدائمة في مصر، والاستمرار في عمل أفلامه هناك، والقول إن محمد خان باكستاني، يشبه القول إن وودي ألين ينتمي إلى يهود خيبر وبني قريظة!
كان محمد خان من المخرجين الذين حظوا باهتمام كبير من جانب النقاد، سواء في مصر أو خارج مصر، وقد كُتب الكثير عن أفلامه، وصدر عنه وعن تجربته أكثر من كتاب، وعرضت أفلامه في المهرجانات السينمائية بالعالم العربي حيث نالت الكثير من الجوائز. ويعتبر فيلمه “الحرّيف” أحد أفضل الأفلام في تاريخ السينما المصرية جنبا إلى جنب مع “زوجة رجل مهم” و”أحلام هند وكاميليا”، وتعتبر هذه الأفلام الثلاثة تحديدا، من كلاسيكيات السينما المصرية، وفيها يبرز أسلوب خان الذي يمكن القول إنه يميل إلى الواقعية الشعرية.
صحيح أنه يصور أحداث وشخصيات تتحرك في الواقع، واقع الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة، إلاّ أن تصوير خان أو تجسيده لهذه الشخصيات والأحداث والمشاهد، يصطبغ بحزن نبيل، وبميل إلى التأمل الشعري، والبحث الروحاني المعذب عن الخلاص، ما يعكس شعورا دفينا بالحزن، وبالاغتراب عن الواقع، وبالميل إلى مشاكسته والتمرد عليه وتجاوزه، ولكن دون نجاح.
وأبطال أفلامه هم بهذا المعنى، أبطال مهزومون باستمرار، إنهم أبطال فرديون، يخوضون معارك يومية من أجل البقاء، وإثبات الوجود رغم الظروف القاسية المحيطة بهم، إنهم يسقطون وينهضون، ثم يخسرون معاركهم، فالواقع أكبر وأقوى، وما تملكه اليوم، سيضيع منك غدا.
هذه الرؤية الحزينة الشفافة، هي التي جعلت خان بأفلامه، أحد السينمائيين المجددين في السينما المصرية، فواقعيته ليست واقعية الحارة والجماعة أو الكشف عن بذور التمرد الكامنة والتبشير بالثورة الاجتماعية، كما كانت أفلام كامل التلمساني وصلاح أبوسيف مثلا، بل هي أفلام تمتزج بالشعور الشخصي؛ بحجم المتاهة ومستوى الاغتراب غير المسبوق، بعد أن أصبح الواقع يستعصي على التصنيف.
تحفة "كليفتي"
من بين كل أفلام خان أشعر بحب خاص لما أعتبره أكثر أفلامه جرأة، ليس فقط على الصعيد الاجتماعي، بل على مستوى الجرأة في الشكل، وهو فيلم “كليفتي” الذي أنتجه وأخرجه محمد خان عام 2004 وصوره بكاميرا الديجيتال الرقمية، في تجربة طليعية غير مسبوقة.
إنه تحفة سينمائية خالصة، لكنه كان أيضا، أكثر أفلامه ظلما وتجاهلا، ربما بسبب ظروف إنتاجه التي لم تسمح بعرضه جماهيريا في دور العرض كما كان ينبغي، وربما أيضا نتيجة عدم وجود نجوم شباك في بطولته، فلم يكن اسم الممثل باسم سمرة قد لمع بعدُ عندما قام ببطولة هذا الفيلم أمام الممثلة الموهوبة رولا محمود، التي لا شك أنها تعرضت لأبشع عملية اغتيال فني تتعرض له ممثلة موهوبة، بسبب عدم استعدادها لتقديم التنازلات.
“كليفتي” ليس من أفلام الهجاء السياسي، بل من أفلام البحث الشاق عن العلاقة بين الإنسان والعالم المحيط به، ليس على صعيد مجرّد أو تجريدي، بل في إطار محدد نعيشه ونلمسه، فالإنسان فيه هو ذلك الإنسان البسيط المهمش، الضائع، الذي لا يكف عن التطلع إلى تحقيق أحلامه الصغيرة، لكن هذه الأحلام تُجهض؛ إنه نموذج آخر للبطل الذي يُهزم باستمرار.
هناك تيار ما “وجودي” في هذا الفيلم الشاعري الجميل المحمل بالعشرات من الإشارات حول معنى الوجود في عالم يرفضك ويضيق عليك، تفلت الفرصة فيه مرة تلو الأخرى، لكنك تحاول وتسعى وتتشبث ببصيص من الأمل: في الحب، في الصداقة، في استراق السمع، في سرقة الأشياء الصغيرة، في التعالي على المظاهر الخارجية من حولك، في الإحساس بعدم جدوى ما تفعله في قرارة نفسك، لكنك تواصل ارتكابه لأنه الشيء الوحيد الذي يضمن لك مجرد البقاء ولو على الهامش.
يصبح الأصدقاء وهما كبيرا، وتصبح الأسرة طغيانا من المشاعر التي لا يمكنك احتمالها، أما الحب فلا مجال أمامه لأن يكتمل، فهو يتوقف عند لحظات من المتعة المسروقة التي تمنح بطلنا الصعلوك المشرّد، نقطة ضوء يواصل منها الاتكاء على جذع من النوايا الطيبة، والكثير من الحماقات الصغيرة. كان محمد خان هاويا عظيما للسينما، ولم يكن يصنع أفلامه نتيجة حسابات، بل كان مخلصا لما يحبه ويشعر به حتى لو لم تعجبنا نحن، ولكنه ارتكب خطأ واحدا عندما أخرج فيلم “أيام السادات”، الذي يعتبر شاذا عن كل أفلام خان، ولا أظن أنه أضاف له شيئا.
لم أشاهد فيلم محمد خان الأخير، وكنت أودّ أن أشاهده عندما أذهب إلى القاهرة، وكان لا بدّ أن نلتقي، فقد كانت علاقتنا دائما سلسلة من اللقاءات والافتراقات، ولكن كان لديّ دائما شعور داخلي خاص بأن محمد خان هناك، في القاهرة، وأننا لا بدّ أن نلتقي مجددا، حتى في أحد المهرجانات السينمائية، لكن القدر شاء أن أحرم من هذا اللقاء. رحم الله محمد خان، الذي ذهب، وترك لنا أفلامه المليئة بالحب والحياة، والرغبة الممتدة، في الحلم والعيش والبقاء والصمود في وجه كل صعوبات الحياة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.