أسعار اللحوم اليوم الأحد 19 مايو 2024 في محلات الجزارة    رئيس «إسكان النواب» يرفض مشروع «مشاركة القطاع الخاص في المستشفيات»: ليس به ضمانات تحمي المواطن    توريد 244 ألف طن قمح منذ بدء الموسم بالمنيا    الرئيس السيسى يهنئ محمد إدريس ديبي على الفوز برئاسة تشاد    عاجل.. «صدمة الموسم» في الأهلي قبل إياب نهائي دوري أبطال إفريقيا    وسام أبوعلي: سنقاتل للفوز بدوري أبطال أفريقيا    ياسر إبراهيم: جاهز للمباريات وأتمنى المشاركة أمام الترجي في مباراة الحسم    المشدد 5 سنوات لمحاسب اختلس مبلغا ماليا من جهه عمله في التجمع الخامس    السجن 3 سنوات ل حارس عقار و2 آخرين بتهمة «السرقة بالإكراه» في منطقة التجمع الخامس    لأول مرة.. عرض «انتحار معلن» يمثل مصر بمهرجان آرانيا الدولي للمسرح في الصين    تعرف على النجم الأقل جماهيرية في شباك تذاكر أفلام السينما السبت    رئيس اقتصادية النواب يعدد ضمانات مشاركة القطاع الخاص في تقديم الخدمات الصحية    نصائح مهمة من «الصحة» بسبب الطقس الحار.. تجنبوا الخروج واغلقوا النوافذ    الوقوف فى طابور وحفر المراحيض وصنع الخيام..اقتصاد الحرب يظهر فى غزة    ولي العهد السعودى يبحث مع مستشار الأمن القومى الأمريكى الأوضاع فى غزة    أوكرانيا: القوات الجوية تسقط 37 طائرة روسية دون طيار    المصرين الأحرار عن غزة: الأطراف المتصارعة جميعها خاسرة ولن يخرج منها فائز في هذه الحرب    وزيرة التضامن تلتقي بنظيرها البحريني لبحث موضوعات ريادة الأعمال الاجتماعية    حجازي يشارك في فعاليات المُنتدى العالمي للتعليم 2024 بلندن    رئيس جامعة المنصورة يتفقد سير امتحانات الفصل الدراسي الثاني بالكليات    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    وزير العمل يُعلن عدم إدراج مصر على قائمة الملاحظات الدولية لعام 2024    رئيس جهاز السويس الجديدة تستقبل ممثلي القرى السياحية غرب سوميد    الأرصاد: استمرار الموجة شديدة الحارة حتى هذا الموعد    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    إصابة 4 مواطنين فى مشاجرة بين عائلتين بالفيوم    موانئ البحر الأحمر تحقق تداول 704 ألف طن بضائع عامة خلال شهر أبريل الماضي    وزير المالية: حريصون على توفير تمويلات ميسرة من شركاء التنمية للقطاع الخاص    الحب لا يعرف المستحيل.. قصة زواج صابرين من حبيبها الأول بعد 30 سنة    عماد الدين حسين: تعطيل دخول المساعدات الإنسانية لغزة فضح الرواية الإسرائيلية    وزيرة التضامن الاجتماعي تشهد إطلاق الدورة الثانية لملتقى تمكين المرأة بالفن    توقعات الأبراج 2024.. «الثور والجوزاء والسرطان» فرص لتكوين العلاقات العاطفية الناجحة    وزارة التجارة والصناعة تستضيف اجتماع لجنة المنطقة الصناعية بأبو زنيمة    رئيس «النواب»: أي سعى من الحكومة لتطوير المنظومة الصحية سندعمه ونسانده    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    ترامب ينتقد بايدن مجددًا: «لا يستطيع أن يجمع جملتين معًا»    صور| باسم سمرة ينشر كواليس فيلمه الجديد «اللعب مع العيال»    وزير الصحة: التأمين الصحي الشامل "مشروع الدولة المصرية"    طريقة عمل الكمونية المصرية.. وصفة مناسبة للعزومات    الاسماعيلي يستضيف بيراميدز في مباراة صعبة بالدوري    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    موعد عيد الأضحى 2024 وجدول الإجازات الرسمية في مصر    الأمور تشتعل.. التفاصيل الكاملة للخلافات داخل مجلس الحرب الإسرائيلي    رفع اسم محمد أبو تريكة من قوائم الإرهاب    رئيس النواب يفتتح أعمال الجلسة العامة    بيت الأمة.. متحف يوثق كفاح وتضحيات المصريين من أجل استقلال وتحرير بلادهم    منها «تناول الفلفل الحار والبطيخ».. نصائح لمواجهة ارتفاع درجات الحرارة    «البحوث الإسلامية» يوضح أعمال المتمتع بالعمرة إلى الحج.. «لبيك اللهم لبيك»    أسعار الدولار اليوم الأحد 19 مايو 2024    إقبال الأطفال على النشاط الصيفي بمساجد الإسكندرية لحفظ القرآن (صور)    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    الحكم الشرعي لتوريث شقق الإيجار القديم.. دار الإفتاء حسمت الأمر    تعليق غريب من مدرب الأهلي السابق بعد التعادل مع الترجي التونسي    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إبراهيم الكوني مسلوخا عن جلده في رواية " توجان"
نشر في صوت البلد يوم 04 - 07 - 2016

ليس ثمّة من مثال حيّ ونموذجيّ عن التصحّر الثقافيّ في السائد من الكتابة الروائيّة، أكثر من هذه التراجيديا التي تجد منبتها في محافل المهزلة الأدبية وكرنفالات الجوائز المقدّمة إلى بعض الكتاب، وقد تمكّنوا من اقتطاع أكداس من لحوم طريّة وعظام غضّة لروايات سبقتهم ثمّ نسبوها مغالطة إلى كتاباتهم.
ما يغذّي هذه التراجيديا وقد صارت محض فعل تراجيكوميديّ هو ذلك التداخل بين جسدين مصطلحين هما التأثر والتناص، وكأنّ موت المؤلّف بارتيّا لم يعد غير حصان طروادة جديد يشرّع لعمليّة السلب.
في هذا الإطار يبدو أن جائزة الكومار الذهبيّ- التي تمنح للرواية- الأخيرة في تونس حقّقت تأبينا أدبيّا للروائي العالمي إبراهيم الكوني، من خلال الرواية الفائزة “توجان” لصاحبتها آمنة الرميلي والصادرة عن دار آفاق للنشر بتاريخ هذه السنة 2016، فما يلاحظه أبسط قارئ هو أن الروائية قامت بتمزيق أوصال الجسد الكتابيّ لجلّ روايات إبراهيم الكوني، ثم حاولت بعدها إعادة تركيبها في عملها.
بغض النظر عن التزكية التي شهدتها الكاتبة من خلال تحصلها على الجائزة، فهي تقودنا إلى تسليط الضوء على الكتابة الأصل، لا من قبيل تقديسها وأسطرتها حدّ التمركز، وإنما من جهة الأخذ منها، حيث تمّت إعادة استحضار لكتابة الكوني بضرب من ضروب السطحية والاستنساخ والتكرار.
ما من شكّ أن قارئا جادّا لإبراهيم الكوني سيقف مذهولا حين يقلب الصفحة تلو الأخرى من رواية “توجان”، فسديم الكوني المرعب من أساطير وصحراء وقبائل وأحاج حول السيل ورمزية الماء، إضافة إلى قصص العاطفة وهوس الاغتراب والخوف من المجهول وحنين الروائي وغوائل مشاعره ضمن ذلك القحط الجغرافي وأتعاب البدو ومعاركهم، هو نفسه ما يتكرّر في هذه الرواية.
أن نقطّع أوصال سيرة روائية عظيمة صاحبها إبراهيم الكوني، ثم نعيد كتابتها في رواية واحدة هذا ما فعلته المحصلة الكتابية “توجان”، إذ لم تتعدّ كونها محض تجربة “دراماتوروجية”، حاولت أن تنسينا إبراهيم الكوني فإذا بها تسلخه عن جلده، ممّا يدفعنا ضرورة إلى عقد مساءلة إزاء هذا الأمر، إذ أنّنا بهذا الشكل مجبرون على الإشارة إلى مواطن التشابه.
فمن زوريخ ومدن الثلج الأخرى يكتب الكوني حنينه إلى الصحراء، عذاباتها وطقوسها، ومن كندا ولد بطل رواية في “توجان” له نفس الحنين إلى صحراء مشابهة، لكن صار اسمها توجان، بينما تمّت موضعة الجسد المصطلحي “صحراء” ليكون اسم إحدى الشخصيات في هذه الرواية، وفي روايات الكوني “المجوس” ورباعية “الخسوف” لا سيما منها “البئر” يكون الماء مموضعا ضمن سرديات الميثيولوجيا إذ يسرد تراجيديات الإنسان العظيمة ضدّ الحرّ، تماما كما نقرأ رمزيته ومدلولاته في رواية “توجان”، إذ هو نفسه السيل في الواحة، كما له نفس الوقع على القبائل والعشائر، من خلاله تتحوّل الحياة وتتبدّل بمجيئه وغيابه.
إنّها نفس صرخة القيظ التي يطلقها أحد أبطال رواية “المجوس” يطلقها الآن بطل رواية “توجان” في الفصل المعنون ب”توجان الماء، توجان الدمّ” بالقول “ماذا رأيتم أنتم من العطش”؟، وإنّ هجيرا يمزّق الخيام ويلفح الوجوه ويشرّد النّاس ويقتل القطعان بنار الحرّ في الواحات المرسومة كتابة أيضا في روايتيْ الكوني “نزيف الحجر” و”خريف الدرويش” وهو نفسه ما كتبته آمنة الرميلي بالقول وفق ما يلائم صياغتها، من نفس الفصل المذكور سلفا من روايتها، “ذات موسم من مواسم القحط يقول أبي كادت توجان تفرغ من أبنائها، منهم من مات عطشا ومنهم من هجّ، ومنهم من قايض بالماء زرعه وقطيعه وحتّى عرضه”.
إضافة إلى ذلك كثيرا ما تحفل معظم روايات الكوني بذلك الصراع الذي يشتدّ في كلّ مرّة بين قبيلتين بسبب التنازع على الآبار ومياهها، وها أنّنا نقرأ نفس الصراع أيضا في الصفحة الثالثة والستين من رواية “توجان”.
شخصيات مسلوبة
عديدة هي ضروب التشابه، فشخصيات الرواية، مثلا، متشابهة إلى حدّ مثير، فبينما ثمّة شخصيات الودّان الصحراويّ لدى إبراهيم الكوني يولد أبناء الغزال في توجان، وبينما ثمّة شخصية تافاوت في رواية “الربّة الحجريّة” للكوني ثمّة أيضا صابرة الحمراء في “توجان”، إذ تكاد الشخصيّة الأولى تكون الأمّ الغائبة والمجهولة التي تبحث عنها صابرة، صابرة التي اقتطعت لها الروائية آمنة الرميلي أبعادا من شخصيّة الدرويش التي اشتغل عليها الكوني أيضا، فهي وإن كانت عارفة بما يجري بين العرشين المتخاصمين وبكل ما يحدث في “توجان” المكان، مثلها مثل العرّافة في رواية “المجوس”، إلا أنّها هنا تلعب مصيرها/القدريّ من خلال سلوك تلك العرافة ضدّ الدرويش ذاته، حتّى أنّنا في رواية “المجوس” نقرأ في الصفحة السابعة والأربعين بعد المئة “نتفوا الشعر من رأسه، غرغروا له سائل الفلفل في أنفه، قيدوه في وتد وتركوه في جهنّم الرمضاء عاريا. وتسلّوا أكثر من مرّة فدلدلوه في البئر”.
ونقرأ في الصفحة السادسة بعد المئة من “توجان” ما يلي “ابنة توجان وغريبتها، لغزها الذي لم يشأ أيّ من العرشين أن يحاول حلّه حتى لا ينفجر في وجهه” وهي التي وجدت في بئر مجهولة النسب وماتت في بئر، هكذا يتمّ التضليل عن تداخلات عديدة، إذ تأخذ الشخصية الواحدة في “توجان” أكثر من بعد لأكثر من شخصية من شخصيات روايات إبراهيم الكوني، فصابرة مثلا قويّة كالعرافة، ومنبوذة كالدرويش. فمعظم الأبطال وإن اختلفت تسمياتهم عن تلك التي نجدها لدى إبراهيم الكوني، فإنّهم ظلوا محافظين على نفس الأبعاد، فالصحراء بما لها من امتداد وعوالم وفضاء مفتوح وحدها التي تحمل نقيضها الماء، تتحوّل إلى شخصية في توجان، شخصية تقول لعاشقها سلطان في الصفحة الثامنة والأربعين بعد المئتين “في الماء سرّ يا سلطان ولا بدّ من البوح به”، ولكنه يغدر بها ليعرّض مصير قبيلته وأسلافه إلى خطر داهم فتكون حكايته شبيهة جدّا بحكاية البطل آمغار في رواية “الربّة الحجريّة”، خاصّة وأنّنا نقرأ في صفحتها الثمانين بعد المئة “إنّه الوحيد في النهاية الذي يعلم أن في نجاته حياة الصحراء، وفي اختفائه زوال القبيلة وفناء الأجيال”، وهو الأمر ذاته ما حصل مع سلطان في غيابه إذ مات والده وصارت توجان غير توجان بعد هجرته، تماما كما لو أنّ الروائية آمنة الرميلي تعيد مجريات الحدث وتشغيله من جديد وفق ما حدّد له إبراهيم الكوني في روايته “ديوان النثر البرّي” بقوله في الصفحة الحادية والثلاثين بعد المئة “يقتل الصحراويّ نفسه في شبابه جريا وراء العشق والنساء، ويقتل نفسه في شيخوخته جريا وراء الحكمة”.
يدفعنا هذا الأمر، وبضرب من التأويل (الهرمونيطيقي)، إلى القول إنّ شخصيات روايات الكاتب الليبي باتت وكأنّها أدوار مسرحيّة، على شخصيات روايات “توجان”، القفز إليها وأداء أدوارها بما يتطلّبه الركح المسرحيّ من تغييرات هو الآن يتّخذ شكل رواية جديدة تفوز صاحبتها بجائزة وطنيّة.
ما يزيد من شكوكنا، وإن كنّا نراها أقرب إلى الحقيقة منها إلى التحامل، فشخصيات “توجان” من حيث أجسادها المصطلحية، تكاد تكون حاضرة جميعها في الكون الكتابيّ لإبراهيم الكوني، فسلطان بطل رواية “توجان” نعثر عليه في رواية الكوني “المجوس”، والصحراويّ الذي نقرأ عنه في الصفحة العشرين من تلك الرواية على أنّه ينتقل كالغزال، نجده في رواية الرميلي في صياغة جديدة الجدّ الفارح الغزال، كذلك العرّافة المتسمة بالقوّة والسحر والغموض في معظم أعمال الكوني تعجن الآن لتطل علينا في شخصية عائشة التي نقرأ عنها في الصفحة السبعين بعد المئة في “توجان” بوصفها حكمت الذئاب وشاركت مجالس الشيوخ.
يطل علينا الكوني
ثمّة في المقابل كون أسطوريّ تتحرّك فيه عوالم الشخصيات لإبراهيم الكوني، أي جانبها الغرائبيّ والعجائبيّ، منه اتخذت آمنة الرميلي سبيلها إلى الكتابة، فمثلما تنجح العرافات في ترويض الجنّ في رواية “المجوس”، تأتي الذئاب في “توجان” تطلب الجدّة العائشة، ومثلما تفتك هذه الذئاب بالمواشي في رواية “الربّة الحجريّة”، إذ نقرأ في الصفحة التاسعة ما يلي “الذئاب فتكت بثلث القطيع، والجمال شرّدت إلى صحارى مساك”، تفتك أيضا بمواشي العشائر في رواية “توجان” حتى أنّنا نقرأ أيضا في الصفحة الثامنة عشرة بعد المئة أنّه “لا أثر للذئاب غير روائحها الكريهة مخلوطة بروائح الدماء المنتشرة من بقايا الخرفان والجداء”. وما يزيد الأمر غرابة هو نمط العلاقات بين الإنسان والحيوانات وطبيعتها، فمثلما ينكث العهد في روايات إبراهيم الكوني مع “ودّان الجبل” لتحلّ اللعنة، كما نقرأ عنه في الفصل المعنون ب“تافاوت” من رواية “الربّة الحجريّة” ينكث العهد أيضا في “توجان” مع تلك الذئاب من قبل أولاد الأحمر على عكس سلالة الفارح الغزال، فنقرأ ما يلي من نفس الصفحة المذكورة سلفا “أولاد الأحمر أوّل من نكث العهد مع ذئاب الجبل منذ ذلك العهد القديم، ولا يزالون في صراع لا يتوقّف”.
حين نقرأ أيضا رواية “واو الصغرى” من السيرة الرابعة لإبراهيم الكوني، نجد ذلك العاشق الذي اختفى بعد أن تسبب في موت معشوقته ثم عاد إلى الظهور ليسرق قبرها، بينما نجد صدى لذلك في “توجان” من حيث قصّة “صالح وحيزيّة”، فهو (أي صالح) المتسبب في موت حبيبته إلا أنّه، ولرفع التشابه، وفق ما نقرأ في الصفحة الثالثة والخمسين بعد المئة “يظهر مرّة في العام، في مثل تلك الليلة التي طلعت فيها روحه وهو ممدود إلى قبرها”. وفي “واو الصغرى” وباقي روايات الكوني تحضر الأهازيج والأشعار بغير الفصحى، فتحضر أيضا في “توجان” في أكثر من موضع، ومثلما ينشأ الطقس الاحتفاليّ من زغاريد ودقّ للطبول في “واو الصغرى” من الصفحة السادسة عشرة، ينشأ أيضا بذات الحاجة في “توجان”، ويمثّل ذلك ضربا من ضروب استنساخ العوالم الأسطورية والاجتماعية واقتطاعها من نصها الأصلي.
ثمّة ما يدخل رواية “توجان” في باب التطابق مع روايات الكوني أكثر ممّا سبق، لا سيما من حيث بنيتها الشكليّة أيضا، فمثلها مثل العديد من روايات الكوني إن لم نقل معظمها، قسّمت إلى مقاطع كلّ منها اتخذ عنوانا أو عتبة لحالها، وهي بنية بسيطة لا يجهد الكاتب نفسه في تكوينها رغم زخم مادتها الحكائية وفرادة عوالمها مثلما نقرأ في روايتي “التبر” و”نزيف الحجر” حيث نجد وحدة الموضوع وانفتاح النص وقلّة الشخصيات، تماما كما هو الحال في “توجان” التي تروي حكاية من حكايتها هي في الأصل ما يريد سلطان قوله عنه وعن حبيبته صحراء وسرّ الماء كيف فرّقهما وفرّق الأهل.
إضافة إلى ذلك، فالمعاجم نفسها تتكرّر، حتى في توظيفها، في شكل هجرة من عوالم الكوني إلى عالم آمنة الرميلي، إذ نجد أنفسنا أمام ذات التعابير من نفس السياقات الزمانية والمكانية، كالقحط والعطش والصحراء والماء والأسلاف والخرافة والذئاب وإلى غير ذلك من معاجم أخرى، مثلما تحمل المدينة نفس الروح المناهضة لصحراء الكوني و”توجان”، من اغتراب وتظلّم وقهر واستبداد، بينما تظلّ هذه الصحراء/ توجان منبعا للحرّية والمطلق.
من هناك كان يطلّ علينا الكوني، بدم الإنسان المصبوغ بروائح الرمل والأساطير والقوّة والضعف، والخرافة والأحجية، والعادات وأغاني الطوارق في الصحراء أو الواحات، ومن هنا ولدت “توجان” من ذات الصخب الكتابيّ، موظفة نفس الأسلوب ونفس الوجع البشري بذات السبب ومن منطلق نفس الفكرة، وبنفس الآليات الكتابيّة، حتّى أنّها ظلّت رهينة ذلك العالم، عالم إبراهيم الكوني، حيث أنّ محاولتها لم تتجاوز استنساخه، بل عمدت إلى إعادة طلاء روايات هذا الكاتب العالميّ بما تخفيه رغبتها في حجب جوهرها ومعانيها عبر عمليّة إخراجية وشكلية لم تتجاوز حدود القشرة الخارجيّة.
ليس ثمّة من مثال حيّ ونموذجيّ عن التصحّر الثقافيّ في السائد من الكتابة الروائيّة، أكثر من هذه التراجيديا التي تجد منبتها في محافل المهزلة الأدبية وكرنفالات الجوائز المقدّمة إلى بعض الكتاب، وقد تمكّنوا من اقتطاع أكداس من لحوم طريّة وعظام غضّة لروايات سبقتهم ثمّ نسبوها مغالطة إلى كتاباتهم.
ما يغذّي هذه التراجيديا وقد صارت محض فعل تراجيكوميديّ هو ذلك التداخل بين جسدين مصطلحين هما التأثر والتناص، وكأنّ موت المؤلّف بارتيّا لم يعد غير حصان طروادة جديد يشرّع لعمليّة السلب.
في هذا الإطار يبدو أن جائزة الكومار الذهبيّ- التي تمنح للرواية- الأخيرة في تونس حقّقت تأبينا أدبيّا للروائي العالمي إبراهيم الكوني، من خلال الرواية الفائزة “توجان” لصاحبتها آمنة الرميلي والصادرة عن دار آفاق للنشر بتاريخ هذه السنة 2016، فما يلاحظه أبسط قارئ هو أن الروائية قامت بتمزيق أوصال الجسد الكتابيّ لجلّ روايات إبراهيم الكوني، ثم حاولت بعدها إعادة تركيبها في عملها.
بغض النظر عن التزكية التي شهدتها الكاتبة من خلال تحصلها على الجائزة، فهي تقودنا إلى تسليط الضوء على الكتابة الأصل، لا من قبيل تقديسها وأسطرتها حدّ التمركز، وإنما من جهة الأخذ منها، حيث تمّت إعادة استحضار لكتابة الكوني بضرب من ضروب السطحية والاستنساخ والتكرار.
ما من شكّ أن قارئا جادّا لإبراهيم الكوني سيقف مذهولا حين يقلب الصفحة تلو الأخرى من رواية “توجان”، فسديم الكوني المرعب من أساطير وصحراء وقبائل وأحاج حول السيل ورمزية الماء، إضافة إلى قصص العاطفة وهوس الاغتراب والخوف من المجهول وحنين الروائي وغوائل مشاعره ضمن ذلك القحط الجغرافي وأتعاب البدو ومعاركهم، هو نفسه ما يتكرّر في هذه الرواية.
أن نقطّع أوصال سيرة روائية عظيمة صاحبها إبراهيم الكوني، ثم نعيد كتابتها في رواية واحدة هذا ما فعلته المحصلة الكتابية “توجان”، إذ لم تتعدّ كونها محض تجربة “دراماتوروجية”، حاولت أن تنسينا إبراهيم الكوني فإذا بها تسلخه عن جلده، ممّا يدفعنا ضرورة إلى عقد مساءلة إزاء هذا الأمر، إذ أنّنا بهذا الشكل مجبرون على الإشارة إلى مواطن التشابه.
فمن زوريخ ومدن الثلج الأخرى يكتب الكوني حنينه إلى الصحراء، عذاباتها وطقوسها، ومن كندا ولد بطل رواية في “توجان” له نفس الحنين إلى صحراء مشابهة، لكن صار اسمها توجان، بينما تمّت موضعة الجسد المصطلحي “صحراء” ليكون اسم إحدى الشخصيات في هذه الرواية، وفي روايات الكوني “المجوس” ورباعية “الخسوف” لا سيما منها “البئر” يكون الماء مموضعا ضمن سرديات الميثيولوجيا إذ يسرد تراجيديات الإنسان العظيمة ضدّ الحرّ، تماما كما نقرأ رمزيته ومدلولاته في رواية “توجان”، إذ هو نفسه السيل في الواحة، كما له نفس الوقع على القبائل والعشائر، من خلاله تتحوّل الحياة وتتبدّل بمجيئه وغيابه.
إنّها نفس صرخة القيظ التي يطلقها أحد أبطال رواية “المجوس” يطلقها الآن بطل رواية “توجان” في الفصل المعنون ب”توجان الماء، توجان الدمّ” بالقول “ماذا رأيتم أنتم من العطش”؟، وإنّ هجيرا يمزّق الخيام ويلفح الوجوه ويشرّد النّاس ويقتل القطعان بنار الحرّ في الواحات المرسومة كتابة أيضا في روايتيْ الكوني “نزيف الحجر” و”خريف الدرويش” وهو نفسه ما كتبته آمنة الرميلي بالقول وفق ما يلائم صياغتها، من نفس الفصل المذكور سلفا من روايتها، “ذات موسم من مواسم القحط يقول أبي كادت توجان تفرغ من أبنائها، منهم من مات عطشا ومنهم من هجّ، ومنهم من قايض بالماء زرعه وقطيعه وحتّى عرضه”.
إضافة إلى ذلك كثيرا ما تحفل معظم روايات الكوني بذلك الصراع الذي يشتدّ في كلّ مرّة بين قبيلتين بسبب التنازع على الآبار ومياهها، وها أنّنا نقرأ نفس الصراع أيضا في الصفحة الثالثة والستين من رواية “توجان”.
شخصيات مسلوبة
عديدة هي ضروب التشابه، فشخصيات الرواية، مثلا، متشابهة إلى حدّ مثير، فبينما ثمّة شخصيات الودّان الصحراويّ لدى إبراهيم الكوني يولد أبناء الغزال في توجان، وبينما ثمّة شخصية تافاوت في رواية “الربّة الحجريّة” للكوني ثمّة أيضا صابرة الحمراء في “توجان”، إذ تكاد الشخصيّة الأولى تكون الأمّ الغائبة والمجهولة التي تبحث عنها صابرة، صابرة التي اقتطعت لها الروائية آمنة الرميلي أبعادا من شخصيّة الدرويش التي اشتغل عليها الكوني أيضا، فهي وإن كانت عارفة بما يجري بين العرشين المتخاصمين وبكل ما يحدث في “توجان” المكان، مثلها مثل العرّافة في رواية “المجوس”، إلا أنّها هنا تلعب مصيرها/القدريّ من خلال سلوك تلك العرافة ضدّ الدرويش ذاته، حتّى أنّنا في رواية “المجوس” نقرأ في الصفحة السابعة والأربعين بعد المئة “نتفوا الشعر من رأسه، غرغروا له سائل الفلفل في أنفه، قيدوه في وتد وتركوه في جهنّم الرمضاء عاريا. وتسلّوا أكثر من مرّة فدلدلوه في البئر”.
ونقرأ في الصفحة السادسة بعد المئة من “توجان” ما يلي “ابنة توجان وغريبتها، لغزها الذي لم يشأ أيّ من العرشين أن يحاول حلّه حتى لا ينفجر في وجهه” وهي التي وجدت في بئر مجهولة النسب وماتت في بئر، هكذا يتمّ التضليل عن تداخلات عديدة، إذ تأخذ الشخصية الواحدة في “توجان” أكثر من بعد لأكثر من شخصية من شخصيات روايات إبراهيم الكوني، فصابرة مثلا قويّة كالعرافة، ومنبوذة كالدرويش. فمعظم الأبطال وإن اختلفت تسمياتهم عن تلك التي نجدها لدى إبراهيم الكوني، فإنّهم ظلوا محافظين على نفس الأبعاد، فالصحراء بما لها من امتداد وعوالم وفضاء مفتوح وحدها التي تحمل نقيضها الماء، تتحوّل إلى شخصية في توجان، شخصية تقول لعاشقها سلطان في الصفحة الثامنة والأربعين بعد المئتين “في الماء سرّ يا سلطان ولا بدّ من البوح به”، ولكنه يغدر بها ليعرّض مصير قبيلته وأسلافه إلى خطر داهم فتكون حكايته شبيهة جدّا بحكاية البطل آمغار في رواية “الربّة الحجريّة”، خاصّة وأنّنا نقرأ في صفحتها الثمانين بعد المئة “إنّه الوحيد في النهاية الذي يعلم أن في نجاته حياة الصحراء، وفي اختفائه زوال القبيلة وفناء الأجيال”، وهو الأمر ذاته ما حصل مع سلطان في غيابه إذ مات والده وصارت توجان غير توجان بعد هجرته، تماما كما لو أنّ الروائية آمنة الرميلي تعيد مجريات الحدث وتشغيله من جديد وفق ما حدّد له إبراهيم الكوني في روايته “ديوان النثر البرّي” بقوله في الصفحة الحادية والثلاثين بعد المئة “يقتل الصحراويّ نفسه في شبابه جريا وراء العشق والنساء، ويقتل نفسه في شيخوخته جريا وراء الحكمة”.
يدفعنا هذا الأمر، وبضرب من التأويل (الهرمونيطيقي)، إلى القول إنّ شخصيات روايات الكاتب الليبي باتت وكأنّها أدوار مسرحيّة، على شخصيات روايات “توجان”، القفز إليها وأداء أدوارها بما يتطلّبه الركح المسرحيّ من تغييرات هو الآن يتّخذ شكل رواية جديدة تفوز صاحبتها بجائزة وطنيّة.
ما يزيد من شكوكنا، وإن كنّا نراها أقرب إلى الحقيقة منها إلى التحامل، فشخصيات “توجان” من حيث أجسادها المصطلحية، تكاد تكون حاضرة جميعها في الكون الكتابيّ لإبراهيم الكوني، فسلطان بطل رواية “توجان” نعثر عليه في رواية الكوني “المجوس”، والصحراويّ الذي نقرأ عنه في الصفحة العشرين من تلك الرواية على أنّه ينتقل كالغزال، نجده في رواية الرميلي في صياغة جديدة الجدّ الفارح الغزال، كذلك العرّافة المتسمة بالقوّة والسحر والغموض في معظم أعمال الكوني تعجن الآن لتطل علينا في شخصية عائشة التي نقرأ عنها في الصفحة السبعين بعد المئة في “توجان” بوصفها حكمت الذئاب وشاركت مجالس الشيوخ.
يطل علينا الكوني
ثمّة في المقابل كون أسطوريّ تتحرّك فيه عوالم الشخصيات لإبراهيم الكوني، أي جانبها الغرائبيّ والعجائبيّ، منه اتخذت آمنة الرميلي سبيلها إلى الكتابة، فمثلما تنجح العرافات في ترويض الجنّ في رواية “المجوس”، تأتي الذئاب في “توجان” تطلب الجدّة العائشة، ومثلما تفتك هذه الذئاب بالمواشي في رواية “الربّة الحجريّة”، إذ نقرأ في الصفحة التاسعة ما يلي “الذئاب فتكت بثلث القطيع، والجمال شرّدت إلى صحارى مساك”، تفتك أيضا بمواشي العشائر في رواية “توجان” حتى أنّنا نقرأ أيضا في الصفحة الثامنة عشرة بعد المئة أنّه “لا أثر للذئاب غير روائحها الكريهة مخلوطة بروائح الدماء المنتشرة من بقايا الخرفان والجداء”. وما يزيد الأمر غرابة هو نمط العلاقات بين الإنسان والحيوانات وطبيعتها، فمثلما ينكث العهد في روايات إبراهيم الكوني مع “ودّان الجبل” لتحلّ اللعنة، كما نقرأ عنه في الفصل المعنون ب“تافاوت” من رواية “الربّة الحجريّة” ينكث العهد أيضا في “توجان” مع تلك الذئاب من قبل أولاد الأحمر على عكس سلالة الفارح الغزال، فنقرأ ما يلي من نفس الصفحة المذكورة سلفا “أولاد الأحمر أوّل من نكث العهد مع ذئاب الجبل منذ ذلك العهد القديم، ولا يزالون في صراع لا يتوقّف”.
حين نقرأ أيضا رواية “واو الصغرى” من السيرة الرابعة لإبراهيم الكوني، نجد ذلك العاشق الذي اختفى بعد أن تسبب في موت معشوقته ثم عاد إلى الظهور ليسرق قبرها، بينما نجد صدى لذلك في “توجان” من حيث قصّة “صالح وحيزيّة”، فهو (أي صالح) المتسبب في موت حبيبته إلا أنّه، ولرفع التشابه، وفق ما نقرأ في الصفحة الثالثة والخمسين بعد المئة “يظهر مرّة في العام، في مثل تلك الليلة التي طلعت فيها روحه وهو ممدود إلى قبرها”. وفي “واو الصغرى” وباقي روايات الكوني تحضر الأهازيج والأشعار بغير الفصحى، فتحضر أيضا في “توجان” في أكثر من موضع، ومثلما ينشأ الطقس الاحتفاليّ من زغاريد ودقّ للطبول في “واو الصغرى” من الصفحة السادسة عشرة، ينشأ أيضا بذات الحاجة في “توجان”، ويمثّل ذلك ضربا من ضروب استنساخ العوالم الأسطورية والاجتماعية واقتطاعها من نصها الأصلي.
ثمّة ما يدخل رواية “توجان” في باب التطابق مع روايات الكوني أكثر ممّا سبق، لا سيما من حيث بنيتها الشكليّة أيضا، فمثلها مثل العديد من روايات الكوني إن لم نقل معظمها، قسّمت إلى مقاطع كلّ منها اتخذ عنوانا أو عتبة لحالها، وهي بنية بسيطة لا يجهد الكاتب نفسه في تكوينها رغم زخم مادتها الحكائية وفرادة عوالمها مثلما نقرأ في روايتي “التبر” و”نزيف الحجر” حيث نجد وحدة الموضوع وانفتاح النص وقلّة الشخصيات، تماما كما هو الحال في “توجان” التي تروي حكاية من حكايتها هي في الأصل ما يريد سلطان قوله عنه وعن حبيبته صحراء وسرّ الماء كيف فرّقهما وفرّق الأهل.
إضافة إلى ذلك، فالمعاجم نفسها تتكرّر، حتى في توظيفها، في شكل هجرة من عوالم الكوني إلى عالم آمنة الرميلي، إذ نجد أنفسنا أمام ذات التعابير من نفس السياقات الزمانية والمكانية، كالقحط والعطش والصحراء والماء والأسلاف والخرافة والذئاب وإلى غير ذلك من معاجم أخرى، مثلما تحمل المدينة نفس الروح المناهضة لصحراء الكوني و”توجان”، من اغتراب وتظلّم وقهر واستبداد، بينما تظلّ هذه الصحراء/ توجان منبعا للحرّية والمطلق.
من هناك كان يطلّ علينا الكوني، بدم الإنسان المصبوغ بروائح الرمل والأساطير والقوّة والضعف، والخرافة والأحجية، والعادات وأغاني الطوارق في الصحراء أو الواحات، ومن هنا ولدت “توجان” من ذات الصخب الكتابيّ، موظفة نفس الأسلوب ونفس الوجع البشري بذات السبب ومن منطلق نفس الفكرة، وبنفس الآليات الكتابيّة، حتّى أنّها ظلّت رهينة ذلك العالم، عالم إبراهيم الكوني، حيث أنّ محاولتها لم تتجاوز استنساخه، بل عمدت إلى إعادة طلاء روايات هذا الكاتب العالميّ بما تخفيه رغبتها في حجب جوهرها ومعانيها عبر عمليّة إخراجية وشكلية لم تتجاوز حدود القشرة الخارجيّة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.