مصطفى بكري: تعديل وزاري يشمل 15 منصبًا قريبا .. وحركة المحافظين على الأبواب    خلال 24 ساعة.. إزالة 8 حالات تعدي على الأراضي الزراعية وبناء مخالف بالغربية    التنمية المحلية: انتهاء كافة الاستعدادات لانطلاق الموجة الأخيرة لإزالة التعديات    محافظ قنا: بدء استصلاح وزراعة 400 فدان جديد بفول الصويا    «القومي للمرأة» ينظم عرض أزياء لحرفة التلي.. 24 قطعة متنوعة    القوات الأوكرانية تسقط 4 طائرات مسيرة روسية في أوديسا    الأمم المتحدة: تقارير تشير لانتشار الأوبئة والأمراض بين الفلسطينيين في غزة    «التحالف الوطني» بالقليوبية يشارك في المرحلة ال6 من قوافل المساعدات لغزة    استشهاد امرأة فلسطينية إثر قصف طائرات إسرائيلية لرفح    «الجنائية الدولية» تنفي ل«الوطن» صدور مذكرة اعتقال بحق نتنياهو    كيف يعالج جوميز أزمة الظهيرين بالزمالك أمام دريمز بالكونفدرالية ؟    «ليفركوزن» عملاق أوروبي جديد يحلق من بعيد.. لقب تاريخي ورقم قياسي    مرموش يسجل في فوز آينتراخت على أوجسبورج بالدوري الألماني    عاجل.. مفاجأة في تقرير إبراهيم نور الدين لمباراة الأهلي والزمالك    البحث عن مجرم مزق جسد "أحمد" بشبرا الخيمة والنيابة تصرح بدفنه    أحمد فايق يخصص حلقات مراجعة نهائية لطلاب الثانوية العامة (فيديو)    فيديوجراف| صلاح السعدني.. وداعًا العمدة سليمان غانم    تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة صلاح السعدني.. مات على سريره داخل منزله    أسرع طريقة لعمل الشيبسي في المنزل.. إليك سر القرمشة    حصل على بطاقة صفراء ثانية ولم يطرد.. مارتينيز يثير الجدل في موقعه ليل    افتتاح المؤتمر الدولي الثامن للأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان    محافظة الجيزة: قطع المياه عن منطقة منشية البكاري 6 ساعات    وزارة الهجرة تطلق فيلم "حلقة وصل" في إطار المبادرة الرئاسية "أتكلم عربي"    الحماية المدنية تسيطر على حريق في «مقابر زفتى» ب الغربية    إخماد حريق بمخزن خردة بالبدرشين دون إصابات    ضبط لص الدراجات النارية في الفيوم    الهنود يبدءون التصويت خلال أكبر انتخابات في العالم    مطار مرسى علم الدولي يستقبل 149 رحلة تقل 13 ألف سائح من دول أوروبا    التنسيق الحضاري ينهي أعمال المرحلة الخامسة من مشروع حكاية شارع بمناطق مصر الجديدة ومدينة نصر    مهرجان كان السينمائي يكشف عن ملصق النسخة 77    50 دعاء في يوم الجمعة.. متى تكون الساعة المستجابة    دعاء يوم الجمعة قبل الغروب.. أفضل أيام الأسبوع وأكثرها خير وبركة    11 جامعة مصرية تشارك في المؤتمر العاشر للبحوث الطلابية بكلية تمريض القناة    وزيرا خارجية مصر وجنوب أفريقيا يترأسان أعمال الدورة العاشرة للجنة المشتركة للتعاون بين البلدين    وزير الصحة يتفقد المركز الإفريقي لصحة المرأة ويوجه بتنفيذ تغييرات حفاظًا على التصميم الأثري للمبنى    حماة الوطن يهنئ أهالي أسيوط ب العيد القومي للمحافظة    إسلام الكتاتني: الإخوان واجهت الدولة في ثورة يونيو بتفكير مؤسسي وليس فرديًا    محاكمة عامل يتاجر في النقد الأجنبي بعابدين.. الأحد    مؤتمر أرتيتا: لم يتحدث أحد عن تدوير اللاعبين بعد برايتون.. وسيكون لديك مشكلة إذا تريد حافز    إعادة مشروع السياحة التدريبية بالمركز الأفريقي لصحة المرأة    بالإنفوجراف.. 29 معلومة عن امتحانات الثانوية العامة 2024    "مصريين بلا حدود" تنظم حوارا مجتمعيا لمكافحة التمييز وتعزيز المساواة    العمدة أهلاوي قديم.. الخطيب يحضر جنازة الفنان صلاح السعدني (صورة)    الكنيسة الأرثوذكسية تحيي ذكرى نياحة الأنبا إيساك    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    انطلاق 10 قوافل دعوية.. وعلماء الأوقاف يؤكدون: الصدق طريق الفائزين    "التعليم": مشروع رأس المال الدائم يؤهل الطلاب كرواد أعمال في المستقبل    القاهرة الإخبارية: تخبط في حكومة نتنياهو بعد الرد الإسرائيلي على إيران    خالد جلال ناعيا صلاح السعدني: حفر اسمه في تاريخ الفن المصري    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 4 مجازر في غزة راح ضحيتها 42 شهيدا و63 مصابا    4 أبراج ما بتعرفش الفشل في الشغل.. الحمل جريء وطموح والقوس مغامر    طريقة تحضير بخاخ الجيوب الأنفية في المنزل    استشهاد شاب فلسطيني وإصابة اثنين بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم "نور شمس" شمال الضفة    ضبط 14799 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    اقتصادية قناة السويس تشارك ب "مؤتمر التعاون والتبادل بين مصر والصين (تشيجيانج)"    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    ألونسو: مواجهة ريال مدريد وبايرن ميونخ ستكون مثيرة    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سعيد الكفراوي: بطل «الكرنك» ناسك القصة القصيرة
نشر في صوت البلد يوم 02 - 07 - 2016

وصلت جائزة الدولة إلى سعيد الكفراوي المتفرغ للقصة القصيرة. هو افريقي قدمه يحيى حقي في مجلة المجلة. تعرف على الغيطاني وانضم إلى مجلس نجيب محفوظ الذي بنى عليه بعد خروجه من السجن شخصية سعيد الشيخ بطل الكرنك. جائزة الدولة تصل أخيرا إلى سعيد الكفراوي (المولود في المحلة عام 1939)، لكن كما يقال دائما أن تصل الجائزة متأخرة أفضل من ألا تصل في ظل وضع ثقافي ملتبس.
الجائزة يهديها صاحب «بيت العابرين» الى زوجته التي تمر ببعض الظروف الصحية، وهي شريكة النجاح أيضا.
الجائزة ليست فقط للكفراوي، ولكنها أيضا للقصة القصيرة التي أخلص لها حتى وصف نفسه بأنه «ناسك القصة القصيرة»، كل أبناء جيله وما بعد جيله خانوه، وذهبوا إلى الرواية، وتركوه في عراء هذا الفن الصعب الغامض بينما ظل وحده مخلصا لهذا الفن الذي يستطيع أن يعبر كما يقول – عن «الجماعات المغمورة من الفلاحين والموظفين والمصدورين ومكسوري القلب والذين بلا أمنيات كبيرة والمجروحين.. والذين يمشون على السكك باحثين عن عزاء. باختصار، الجماعات التي تعيش في وحشة وانعزال على حافة الوجود الإنساني». لم يكن يعنيه كثيرا أن يكتب رواية، فالقصة أو الحكاية الجيدة أفضل من رواية رديئة. المرة الوحيدة التي قرر فيها أن يكتب رواية، لم يصدقه أحد، كتب «بطرس الصياد» رواية منشغلة بما هو ثقافي وبما هو ديني وبالمتغيرات الاجتماعية على الشخصية المصرية، لكنه لم يكملها وربما لن يكملها. رغم تشجيع الأصدقاء الذين قرأوا ال150 صفحة التي كتبها من النص.. يضحك: «لا يعنيني أن أكون روائيا، وربما أكون آخر المدافعين الجادين عن القصة حتى لا تندثر في الثقافة المصرية. وأعتقد أن كل مجموعاتي القصصية فيها روح روائية. ولا أدري هل هو إحساسي بالرواية أم أن النصوص تفرض نفسها عليّ بحيث تكون هكذا، أم خبرة طويلة بكتابة القصة بحيث تقدم في أجمل أشكالها على اعتبار أنها تعبير عن الإنسان وعن سعيه للمعرفة ومجابهة أهوال الحياة والموت».
الموت هو التيمة الأساسية التي صاحبت «مدينة الموت الجميل»، عندما كان صغيرا، أخذته جدته إلى الكتاب قالت للشيخ «موّته حتى يتعلم».. وكان عليه كل صباح أن يقود معه فتاة كفيفة اسمها الطاهرة إلى الكُتاب، فجأة ماتت الفتاة، فأمر الشيخ أطفال الكتاب أن يمشوا في جنازتها «أمام القبر رأيت عظام الموتى، في هذه اللحظة انطرح عليّ سؤال الموت، وهو منبع الألم في كل ما أكتب».
يتذكر الكفراوي بدايات الوعي بالكتابة «عشقت منذ صغري قص الحكايات، في ليالي حصيد القمح، لا أزال أتذكر ذلك المنشد الشعبي في مولد سيدي إبراهيم الدسوقي، وجهه ما زال يخايلني وأنغام ربابته تأتي بالحلم وتشع بالحكايات». ومع مرحلة اكتشاف القراءة كانت «ألف ليلة وليلة» نصاً، كما يقول، «زلزل كياني كإنسان واكتشفت أن الخيال البشري يمكن أن يصنع الأعاجيب». وكانت النقلة الثانية في اكتشاف السينما: «كان «لص بغداد» هو أول فيلم شاهدته في سينما المحلة. فيلم يقوم على السحر وقيمة العدل والمقاومة والحب».. تعددت محاولات الهروب من البيت لمشاهدة الأفلام، عندما كان يعود متأخرا يجد باب البيت مغلقا، كان المسجد هو المكان الذي يأوي إليه للنوم حتى الصباح يضحك الكفراوي: «بوعي الطفل ترى آلاف العفاريت حتى يطلع الصباح. كل هذه الأشياء كانت بداية تلمس الصوت الخاص في الكتابة. في منتصف الستينيات يلتقي الكفراوي برفاق الرحلة» نصر أبو زيد، ومحمد صالح، فريد ابو سعده، جار النبي الحلو، المنسي قنديل.. أو مجموعة المحلة.. وتبدأ في قصر الثقافة مناقشات لا تنتهي في الأدب والفن، وبعد سنوات يأتي إلى القصر شاب اسمه جابر عصفور، يدرس الأدب في الجامعة، يحمل وعيا نقديا حديثا وأفكارا حول الماركسية.. «جابر أخرجنا من وعينا الريفي إلى الوعي المدني» يقول الكفراوي.
السجن
ولكن عقد المجموعة ينفرط رويدا رويدا، عبر الهجرة إلى القاهرة.. المرة الأولى يخرج فيها الكفراوي للقاهرة كانت لمقابلة يحيى حقي، ذهب إليه في مجلة «المجلة» التي كان يرأس تحريرها، وطلب منه أن ينشر له قصة قصيرة، نظر حقي إلى الفتى الذي يرتدي جلبابا بلديا وطاقية صوف وملامحه القروية تعكس قلة خبرة بالمدينة … ثم ضحك حقي وقال: انت فاكر ان المجلة دي نشرة سرية؟ انت عارف مين إللي بيكتب فيها؟ رد الكفراوي: أيوه عارف يا أفندم!
طلب حقي منه أن يقرأ القصة، فقرأ، وأعاد مرة أخرى.. فقال له: حسك جديد بالريف يا كفراوي. ونشرت القصة في مجلة المجلة «ضمير مصر الثقافي» كما يصفها الكفراوي.
وخرج الكفراوي سعيدا من تجربة النشر في مجلة شهيرة، اعتبر نفسه في الأدباء الكبار.
بعد هذه الواقعة بأيام التقى في ميدان العتبة شابا صغيرا كان قد رأى احدى قصصه منشورة. اقترب منه وسأله: أنت جمال الغيطاني؟ أجاب الشاب: نعم. سأله الكفراوي: هما الأدباء الشبان بيقعدوا فين. قال الغيطاني في مقهى ريش.. وحدد له ميعادا يمر عليه ليصطحبه إلى المقهى. وهناك تعمقت علاقته مع «الأستاذ» كما يسميه.. «كانت ندوة محفوظ الأسبوعية جامعة تمت فيها مناقشات من أندر وأعمق المناقشات في تاريخ مصر المعاصرة» يتذكر الكفراوي: «يعتبر محفوظ أكثر المؤرخين صدقا في كتابة روح مصر التي تظهر في أعماله. وتعودنا أن نعطيه كتاباتنا مخطوطة عندما يأتي الى المقهى، وكان يأخذ القصص مطوية ويضعها في جيبه، وفي الجمعة التالية يكون قد قرأ القصص وكوّن فيها رأيا». أسأله عن فترة المعتقل: يجيب: «كانت أغرب سجنة عاشها مواطن على أرض وادينا السعيد» يضحك الكفراوي، في إحدى ليالي شتاء تلك الأيام اقتادوه إلى سجن القلعة بعد أن نشر في مجلة «سنابل» التي كان يصدرها محمد عفيفي مطر قصة «المهرة» التي فهمتها السلطات أنها تتحدث عن شخصية عبد الناصر. اعتقل في «سجن القلعة» ستة أشهر، بتهمتين على طرفي نقيض. الأولى أنه شيوعي بسبب معرفته بالأبنودي ولطفي الخولي ومحمد سيد أحمد وإبراهيم فتحي، والثانية أنني أنتمي للإخوان المسلمين بسبب خالي وأصدقائه. وفي نهاية التحقيق يصرخ في المحقق: أنت جنس ملة أهلك إيه؟ فأجيبهم: «كاتب قصة».
ستة شهور كاملة رهين الحبس الانفرادي، لا يخرج إلا للتعذيب. في حجرة التعذيب شاهد رجلاً طيباً، ساذجاً، لا يفعل شيئا سوى قراءة القرآن، في أوقات الراحة من التعذيب المتواصل.. لم يتعرف عليه، ولكن بعد سنوات اكتشف أن زميل حجرة التعذيب الطيب ليس سوى الشيخ عمر عبد الرحمن الذي قتل السادات!
بطل الكرنك
بعدما أفرج عنه اتجه من القلعة مباشرة إلى مقهى ريش حيث يجلس أصدقاء ندوة الجمعة، وعندما رآه نجيب محفوظ، قام من حلقة الكُتاب وقال لي «تعال يا كفراوي» وجلسنا في جنب وقال لي «أنا عايزك تحكي لي بالتفصيل ماذا حدث»؟ وحكى الكفراوي .. ونجيب محفوظ ينصت باهتمام « تكتسي ملامحه بالغضب، وكلما أحس انفعالي أشعل سيجارته وكأنه يتأمل أحوال هؤلاء الشباب الذين يغيبون عنه فجأة ثم يعودون بعد حين مكسوري الوجدان والروح» بعد أن انتهى الكفراوي من حكايته ربت محفوظ على كتفه وقال: ولا يهمك السجن للجدعان..» ومضت شهور وصدرت روايته البديعة «الكرنك»، في ندوته قال له أمام الجميع: «على فكرة يا كفراوي انت اسماعيل الشيخ في الكرنك» وهي الشخصية التي جسدها نور الشريف سينمائياً في ما بعد.
المثير للدهشة أن الكفراوي يكاد يكون من القلائل من أبناء جيله الذي لم ينضم إلى أي تنظيمات سياسية تحت الأرض أو فوقها… يضحك: «مرة وحيدة طبعنا بعد هزيمة 67 منشورات لنوزعها في ميدان باب اللوق، ولكن عاد بها الروائي عبد الحكيم قاسم ولم يوزعها بحجة أنه لم يجد مواطنين يعطيهم المنشورات»!
وفى منتصف السبعينيات بدأت تغريبة المثقفين المصريين في المنافي، تلقى الكفراوي عقدا للعمل في السعودية، وتردد تجاه قبوله. سأل صديقه إبراهيم منصور الذي طلب منه أن يقبل على الفور.. وبعد خمس سنوات عاد الكفراوي.. ولكن «كانت الأماكن قد تغيرت والأصدقاء والزمان.. لقد عدت إلى مدينة لا أعرفها».. لم تتوقف كتابات الكفراوي بعد عودته.. ولكنها اتسعت لتشمل تجارب أخرى كثيرة، وتقنيات أكثر استفادها من رواية أميركا اللاتينية وتيار الواقعية السحرية.. «هو التيار الذي نبهنا إلى مخزون تراثنا وما يحتويه من أساطير وخرافات صالحة للكتابة»… تغير كل شيء من حوله وبقيت نظرة الطفل الصغير التي لا يزال يكتب بها!
وصلت جائزة الدولة إلى سعيد الكفراوي المتفرغ للقصة القصيرة. هو افريقي قدمه يحيى حقي في مجلة المجلة. تعرف على الغيطاني وانضم إلى مجلس نجيب محفوظ الذي بنى عليه بعد خروجه من السجن شخصية سعيد الشيخ بطل الكرنك. جائزة الدولة تصل أخيرا إلى سعيد الكفراوي (المولود في المحلة عام 1939)، لكن كما يقال دائما أن تصل الجائزة متأخرة أفضل من ألا تصل في ظل وضع ثقافي ملتبس.
الجائزة يهديها صاحب «بيت العابرين» الى زوجته التي تمر ببعض الظروف الصحية، وهي شريكة النجاح أيضا.
الجائزة ليست فقط للكفراوي، ولكنها أيضا للقصة القصيرة التي أخلص لها حتى وصف نفسه بأنه «ناسك القصة القصيرة»، كل أبناء جيله وما بعد جيله خانوه، وذهبوا إلى الرواية، وتركوه في عراء هذا الفن الصعب الغامض بينما ظل وحده مخلصا لهذا الفن الذي يستطيع أن يعبر كما يقول – عن «الجماعات المغمورة من الفلاحين والموظفين والمصدورين ومكسوري القلب والذين بلا أمنيات كبيرة والمجروحين.. والذين يمشون على السكك باحثين عن عزاء. باختصار، الجماعات التي تعيش في وحشة وانعزال على حافة الوجود الإنساني». لم يكن يعنيه كثيرا أن يكتب رواية، فالقصة أو الحكاية الجيدة أفضل من رواية رديئة. المرة الوحيدة التي قرر فيها أن يكتب رواية، لم يصدقه أحد، كتب «بطرس الصياد» رواية منشغلة بما هو ثقافي وبما هو ديني وبالمتغيرات الاجتماعية على الشخصية المصرية، لكنه لم يكملها وربما لن يكملها. رغم تشجيع الأصدقاء الذين قرأوا ال150 صفحة التي كتبها من النص.. يضحك: «لا يعنيني أن أكون روائيا، وربما أكون آخر المدافعين الجادين عن القصة حتى لا تندثر في الثقافة المصرية. وأعتقد أن كل مجموعاتي القصصية فيها روح روائية. ولا أدري هل هو إحساسي بالرواية أم أن النصوص تفرض نفسها عليّ بحيث تكون هكذا، أم خبرة طويلة بكتابة القصة بحيث تقدم في أجمل أشكالها على اعتبار أنها تعبير عن الإنسان وعن سعيه للمعرفة ومجابهة أهوال الحياة والموت».
الموت هو التيمة الأساسية التي صاحبت «مدينة الموت الجميل»، عندما كان صغيرا، أخذته جدته إلى الكتاب قالت للشيخ «موّته حتى يتعلم».. وكان عليه كل صباح أن يقود معه فتاة كفيفة اسمها الطاهرة إلى الكُتاب، فجأة ماتت الفتاة، فأمر الشيخ أطفال الكتاب أن يمشوا في جنازتها «أمام القبر رأيت عظام الموتى، في هذه اللحظة انطرح عليّ سؤال الموت، وهو منبع الألم في كل ما أكتب».
يتذكر الكفراوي بدايات الوعي بالكتابة «عشقت منذ صغري قص الحكايات، في ليالي حصيد القمح، لا أزال أتذكر ذلك المنشد الشعبي في مولد سيدي إبراهيم الدسوقي، وجهه ما زال يخايلني وأنغام ربابته تأتي بالحلم وتشع بالحكايات». ومع مرحلة اكتشاف القراءة كانت «ألف ليلة وليلة» نصاً، كما يقول، «زلزل كياني كإنسان واكتشفت أن الخيال البشري يمكن أن يصنع الأعاجيب». وكانت النقلة الثانية في اكتشاف السينما: «كان «لص بغداد» هو أول فيلم شاهدته في سينما المحلة. فيلم يقوم على السحر وقيمة العدل والمقاومة والحب».. تعددت محاولات الهروب من البيت لمشاهدة الأفلام، عندما كان يعود متأخرا يجد باب البيت مغلقا، كان المسجد هو المكان الذي يأوي إليه للنوم حتى الصباح يضحك الكفراوي: «بوعي الطفل ترى آلاف العفاريت حتى يطلع الصباح. كل هذه الأشياء كانت بداية تلمس الصوت الخاص في الكتابة. في منتصف الستينيات يلتقي الكفراوي برفاق الرحلة» نصر أبو زيد، ومحمد صالح، فريد ابو سعده، جار النبي الحلو، المنسي قنديل.. أو مجموعة المحلة.. وتبدأ في قصر الثقافة مناقشات لا تنتهي في الأدب والفن، وبعد سنوات يأتي إلى القصر شاب اسمه جابر عصفور، يدرس الأدب في الجامعة، يحمل وعيا نقديا حديثا وأفكارا حول الماركسية.. «جابر أخرجنا من وعينا الريفي إلى الوعي المدني» يقول الكفراوي.
السجن
ولكن عقد المجموعة ينفرط رويدا رويدا، عبر الهجرة إلى القاهرة.. المرة الأولى يخرج فيها الكفراوي للقاهرة كانت لمقابلة يحيى حقي، ذهب إليه في مجلة «المجلة» التي كان يرأس تحريرها، وطلب منه أن ينشر له قصة قصيرة، نظر حقي إلى الفتى الذي يرتدي جلبابا بلديا وطاقية صوف وملامحه القروية تعكس قلة خبرة بالمدينة … ثم ضحك حقي وقال: انت فاكر ان المجلة دي نشرة سرية؟ انت عارف مين إللي بيكتب فيها؟ رد الكفراوي: أيوه عارف يا أفندم!
طلب حقي منه أن يقرأ القصة، فقرأ، وأعاد مرة أخرى.. فقال له: حسك جديد بالريف يا كفراوي. ونشرت القصة في مجلة المجلة «ضمير مصر الثقافي» كما يصفها الكفراوي.
وخرج الكفراوي سعيدا من تجربة النشر في مجلة شهيرة، اعتبر نفسه في الأدباء الكبار.
بعد هذه الواقعة بأيام التقى في ميدان العتبة شابا صغيرا كان قد رأى احدى قصصه منشورة. اقترب منه وسأله: أنت جمال الغيطاني؟ أجاب الشاب: نعم. سأله الكفراوي: هما الأدباء الشبان بيقعدوا فين. قال الغيطاني في مقهى ريش.. وحدد له ميعادا يمر عليه ليصطحبه إلى المقهى. وهناك تعمقت علاقته مع «الأستاذ» كما يسميه.. «كانت ندوة محفوظ الأسبوعية جامعة تمت فيها مناقشات من أندر وأعمق المناقشات في تاريخ مصر المعاصرة» يتذكر الكفراوي: «يعتبر محفوظ أكثر المؤرخين صدقا في كتابة روح مصر التي تظهر في أعماله. وتعودنا أن نعطيه كتاباتنا مخطوطة عندما يأتي الى المقهى، وكان يأخذ القصص مطوية ويضعها في جيبه، وفي الجمعة التالية يكون قد قرأ القصص وكوّن فيها رأيا». أسأله عن فترة المعتقل: يجيب: «كانت أغرب سجنة عاشها مواطن على أرض وادينا السعيد» يضحك الكفراوي، في إحدى ليالي شتاء تلك الأيام اقتادوه إلى سجن القلعة بعد أن نشر في مجلة «سنابل» التي كان يصدرها محمد عفيفي مطر قصة «المهرة» التي فهمتها السلطات أنها تتحدث عن شخصية عبد الناصر. اعتقل في «سجن القلعة» ستة أشهر، بتهمتين على طرفي نقيض. الأولى أنه شيوعي بسبب معرفته بالأبنودي ولطفي الخولي ومحمد سيد أحمد وإبراهيم فتحي، والثانية أنني أنتمي للإخوان المسلمين بسبب خالي وأصدقائه. وفي نهاية التحقيق يصرخ في المحقق: أنت جنس ملة أهلك إيه؟ فأجيبهم: «كاتب قصة».
ستة شهور كاملة رهين الحبس الانفرادي، لا يخرج إلا للتعذيب. في حجرة التعذيب شاهد رجلاً طيباً، ساذجاً، لا يفعل شيئا سوى قراءة القرآن، في أوقات الراحة من التعذيب المتواصل.. لم يتعرف عليه، ولكن بعد سنوات اكتشف أن زميل حجرة التعذيب الطيب ليس سوى الشيخ عمر عبد الرحمن الذي قتل السادات!
بطل الكرنك
بعدما أفرج عنه اتجه من القلعة مباشرة إلى مقهى ريش حيث يجلس أصدقاء ندوة الجمعة، وعندما رآه نجيب محفوظ، قام من حلقة الكُتاب وقال لي «تعال يا كفراوي» وجلسنا في جنب وقال لي «أنا عايزك تحكي لي بالتفصيل ماذا حدث»؟ وحكى الكفراوي .. ونجيب محفوظ ينصت باهتمام « تكتسي ملامحه بالغضب، وكلما أحس انفعالي أشعل سيجارته وكأنه يتأمل أحوال هؤلاء الشباب الذين يغيبون عنه فجأة ثم يعودون بعد حين مكسوري الوجدان والروح» بعد أن انتهى الكفراوي من حكايته ربت محفوظ على كتفه وقال: ولا يهمك السجن للجدعان..» ومضت شهور وصدرت روايته البديعة «الكرنك»، في ندوته قال له أمام الجميع: «على فكرة يا كفراوي انت اسماعيل الشيخ في الكرنك» وهي الشخصية التي جسدها نور الشريف سينمائياً في ما بعد.
المثير للدهشة أن الكفراوي يكاد يكون من القلائل من أبناء جيله الذي لم ينضم إلى أي تنظيمات سياسية تحت الأرض أو فوقها… يضحك: «مرة وحيدة طبعنا بعد هزيمة 67 منشورات لنوزعها في ميدان باب اللوق، ولكن عاد بها الروائي عبد الحكيم قاسم ولم يوزعها بحجة أنه لم يجد مواطنين يعطيهم المنشورات»!
وفى منتصف السبعينيات بدأت تغريبة المثقفين المصريين في المنافي، تلقى الكفراوي عقدا للعمل في السعودية، وتردد تجاه قبوله. سأل صديقه إبراهيم منصور الذي طلب منه أن يقبل على الفور.. وبعد خمس سنوات عاد الكفراوي.. ولكن «كانت الأماكن قد تغيرت والأصدقاء والزمان.. لقد عدت إلى مدينة لا أعرفها».. لم تتوقف كتابات الكفراوي بعد عودته.. ولكنها اتسعت لتشمل تجارب أخرى كثيرة، وتقنيات أكثر استفادها من رواية أميركا اللاتينية وتيار الواقعية السحرية.. «هو التيار الذي نبهنا إلى مخزون تراثنا وما يحتويه من أساطير وخرافات صالحة للكتابة»… تغير كل شيء من حوله وبقيت نظرة الطفل الصغير التي لا يزال يكتب بها!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.