عرف محمود الورداني، بحسب ما كتب في يومياته، بخبر الاعتصامات منذ يومها الأول. وهو اعتاد أن يذهب كل يوم، ليكون حاضرا هناك.. «فأنا على المعاش، وانفصلتُ عن زوجتي منذ زمن طويل، ونتبادل أنا والبنتان مكالمات هاتفية شبه منتظمة للاطمئنان..». لكنه، في التظاهرات خصوصا، يؤثر أن يُبقي على مسافة أمان بينه وبين خطوط المعارك والاشتباكات. لم يعد في العمر الذي يتيح له سرعة الجري، كما لم يعد يحتمل تنشّق الغاز الذي يعمي العيون ويتسبب بالاختناق، ثم أنه، إلى ذلك، يحتاج إلى من يسنده إن أصيب بالأغماء مثلا، على أن يكون من سينجده أو يسعفه واحد من المتظاهرين الشباب طالما أن محمد شهدي، صديقه الذي وافق على اصطحابه إلى هناك، ستّينيّ مثله، وهو بدوره قد يحتاج إلى مَن يعينه. إنها مشاركة بلا حماسة إذ يخالط النزول إليها شعور بالتنزّه، أو بالتذكّر. في مرّات كثيرة يجد الستّيني نفسه منقلبا إلى ذلك الماضي، إلى سنة 1972 مثلا حين شارك في اعتصام جامعة القاهرة، احتجاجا على استمرار مماطلة السادات في اتخاذ قرار الحرب وتحرير سيناء، أو إلى مظاهرات الجامعات والأحياء والانتفاضات الكبرى في 1977، أو «مليونيات الألفية الجديدة» بعد احتلال العراق أو احتلال جنوبلبنان. ثم تذكّر أيام العمل السري وتوزيع المنشورات والعنف الذي قوبل به شبان ذلك الزمن، أو تلك الأزمنة. كل ذلك يستعيده محمود الورداني، كاتب الكتاب وبطله في الوقت نفسه، بالتوازي مع عيشه أيام الثورة هذه، سواء كان لوحده هناك في ميدان التحرير أو في شارع محمد محمود، أو أيّ من الأمكنة الكثيرة الذي تعدّدت أسماؤها كلها في الكتاب، أو كان برفقة صديقه شهدي. دائما يستعاد شريط مما جرى في تلك الأيام الماضية: مرّة وهو في الشاحنة التي حملته إلى السجن، في مرّة أخرى وهو بين كثيرين جرى اعتقالهم، وفي مرة ثالثة كان هناك، مشاركا في اعتصام وزارة الثقافة الذي جرت الأمور فيه بما يطابق «الديمقراطية الأثينيّة» كما يقول. ذلك التذكر يحدث، أو يأتي، بالتوازي مع وقائع جارية الآن، أمامه أو على مقربة خطوات منه. التقابل بين ما كان جرى وما يجري الآن لا يعود إلى مقارنة الثورة هذه بالانتفاضات التي جرت قبلها، فما يُشغل الكاتب هنا هو شخصيّ أولا، هو تذكّرٌ لتحول الزمن في هذا الصعيد الشخصي ذاته. ولا يخفى أن ما تغيّر أو تبدّل هو الرجل نفسه، محمود الورداني الذي، بالمقارنة مع الشبان الذين هناك، في وسط المعركة، أتيح له أن يقابل بين ما يعيشه الآن وما سبق له أن عاشه. المتظاهرون الذين يقف بينهم الآن «كلهم شباب في أوائل العشرينيات، وتذكّرت حبسات سابقة في سجون طرّة وأبي زعبل والمرج والقناطر.. تذكّرت أصحابي في تلك الحبسات، الذين ماتوا وأولئك الأحياء».. أما أولئك العشرينيون الجدد، أولئك الذين يحتاج إلى مرافقة أحد منهم، ليسعفه، لم يعرفوا إلا زمنهم هذا، زمنا واحدا لا يستدعي استجلاب ما سبقه. هي ذاكرة الأسى ما دام أن ما جرى في السنوات الأربعين التي انقضت، كما يذكر في الكتاب، لم يغيّر شيئا ولم يفضِ إلى شيء، لكن أيضا الأسى الذي يأتي به الكبر حيث يصير هو، الشاب ذاته في المعتقل، رجلا واقفا على الرصيف تاركا تلك المسافة بينه وبين ما يجري أمامه. تلك الخطوات القصيرة التي تسوقه إلى الميدان، الخطوات المتردّدة، وكذلك الاستراحة بين الرفاق «الكهول» في المقهى قبل الذهاب إلى الاعتصام، ثم الترداد المتكرّر لكلمة «كهول»، مثل «وكان أغلب الكهول منا قد خاضوا عدة تجارب بائسة»، تجعل الكتاب مشتمَلا بفكرة الزمن، الحاضرة فيه حضور حدث الثورة الكبير نفسه. وهذا ما يحيد بالكتاب عن كونه كتابة يوميات نحو أن يكون رواية. «البحث عن دينا» كتاب عن القليل الذي بقي، الأمل القليل والحماسة القليلة والرغبة التي ينبغي أن تكون أقلّ من أن يُعلن عن وجودها. هي مثل الرغبات التي تأتي في المنام، لا يلبث من حلم بها أن يعرف أنها لم تكن إلا وهما. هكذا كانت دينا للكاتب الكهل المتعلّق بها، أقرب إلى أن تكون وهما من كونها حقيقة. لن يجدها هناك في المكان الذي يتوقّع وجودها فيه، كما أنها تغيب حين يجب أن تكون حاضرة. ولا شيء يأتي منها أكثر من رسالة اعتذار، أو إطلالة سريعة بعد غياب طال أشهرا، أو موقف وداع. وما يقرّب دينا إلى كونها وهما أو خيالا هو ما تعانيه في الصفحات الأولى من جروحها الزهرية الباقية من انتزاع جناحيها. هنا، مع دينا، تتسع تلك المسافة إلى حدّ يزيد كثيرا عن تلك التي يبقيها الكاتب بينه وبين مركز التظاهرة. ذاك أن من يعرف أن عليه إبقاء تلك المسافة لن يحظى إلا بحبّ قليل، ومن قبيل ما يمرّ في المنامات. رواية محمود الورداني «البحث عن دينا» صدرت في 125 صفحة عن «الكتب خان للنشر والتوزيع»، القاهرة 2016. عرف محمود الورداني، بحسب ما كتب في يومياته، بخبر الاعتصامات منذ يومها الأول. وهو اعتاد أن يذهب كل يوم، ليكون حاضرا هناك.. «فأنا على المعاش، وانفصلتُ عن زوجتي منذ زمن طويل، ونتبادل أنا والبنتان مكالمات هاتفية شبه منتظمة للاطمئنان..». لكنه، في التظاهرات خصوصا، يؤثر أن يُبقي على مسافة أمان بينه وبين خطوط المعارك والاشتباكات. لم يعد في العمر الذي يتيح له سرعة الجري، كما لم يعد يحتمل تنشّق الغاز الذي يعمي العيون ويتسبب بالاختناق، ثم أنه، إلى ذلك، يحتاج إلى من يسنده إن أصيب بالأغماء مثلا، على أن يكون من سينجده أو يسعفه واحد من المتظاهرين الشباب طالما أن محمد شهدي، صديقه الذي وافق على اصطحابه إلى هناك، ستّينيّ مثله، وهو بدوره قد يحتاج إلى مَن يعينه. إنها مشاركة بلا حماسة إذ يخالط النزول إليها شعور بالتنزّه، أو بالتذكّر. في مرّات كثيرة يجد الستّيني نفسه منقلبا إلى ذلك الماضي، إلى سنة 1972 مثلا حين شارك في اعتصام جامعة القاهرة، احتجاجا على استمرار مماطلة السادات في اتخاذ قرار الحرب وتحرير سيناء، أو إلى مظاهرات الجامعات والأحياء والانتفاضات الكبرى في 1977، أو «مليونيات الألفية الجديدة» بعد احتلال العراق أو احتلال جنوبلبنان. ثم تذكّر أيام العمل السري وتوزيع المنشورات والعنف الذي قوبل به شبان ذلك الزمن، أو تلك الأزمنة. كل ذلك يستعيده محمود الورداني، كاتب الكتاب وبطله في الوقت نفسه، بالتوازي مع عيشه أيام الثورة هذه، سواء كان لوحده هناك في ميدان التحرير أو في شارع محمد محمود، أو أيّ من الأمكنة الكثيرة الذي تعدّدت أسماؤها كلها في الكتاب، أو كان برفقة صديقه شهدي. دائما يستعاد شريط مما جرى في تلك الأيام الماضية: مرّة وهو في الشاحنة التي حملته إلى السجن، في مرّة أخرى وهو بين كثيرين جرى اعتقالهم، وفي مرة ثالثة كان هناك، مشاركا في اعتصام وزارة الثقافة الذي جرت الأمور فيه بما يطابق «الديمقراطية الأثينيّة» كما يقول. ذلك التذكر يحدث، أو يأتي، بالتوازي مع وقائع جارية الآن، أمامه أو على مقربة خطوات منه. التقابل بين ما كان جرى وما يجري الآن لا يعود إلى مقارنة الثورة هذه بالانتفاضات التي جرت قبلها، فما يُشغل الكاتب هنا هو شخصيّ أولا، هو تذكّرٌ لتحول الزمن في هذا الصعيد الشخصي ذاته. ولا يخفى أن ما تغيّر أو تبدّل هو الرجل نفسه، محمود الورداني الذي، بالمقارنة مع الشبان الذين هناك، في وسط المعركة، أتيح له أن يقابل بين ما يعيشه الآن وما سبق له أن عاشه. المتظاهرون الذين يقف بينهم الآن «كلهم شباب في أوائل العشرينيات، وتذكّرت حبسات سابقة في سجون طرّة وأبي زعبل والمرج والقناطر.. تذكّرت أصحابي في تلك الحبسات، الذين ماتوا وأولئك الأحياء».. أما أولئك العشرينيون الجدد، أولئك الذين يحتاج إلى مرافقة أحد منهم، ليسعفه، لم يعرفوا إلا زمنهم هذا، زمنا واحدا لا يستدعي استجلاب ما سبقه. هي ذاكرة الأسى ما دام أن ما جرى في السنوات الأربعين التي انقضت، كما يذكر في الكتاب، لم يغيّر شيئا ولم يفضِ إلى شيء، لكن أيضا الأسى الذي يأتي به الكبر حيث يصير هو، الشاب ذاته في المعتقل، رجلا واقفا على الرصيف تاركا تلك المسافة بينه وبين ما يجري أمامه. تلك الخطوات القصيرة التي تسوقه إلى الميدان، الخطوات المتردّدة، وكذلك الاستراحة بين الرفاق «الكهول» في المقهى قبل الذهاب إلى الاعتصام، ثم الترداد المتكرّر لكلمة «كهول»، مثل «وكان أغلب الكهول منا قد خاضوا عدة تجارب بائسة»، تجعل الكتاب مشتمَلا بفكرة الزمن، الحاضرة فيه حضور حدث الثورة الكبير نفسه. وهذا ما يحيد بالكتاب عن كونه كتابة يوميات نحو أن يكون رواية. «البحث عن دينا» كتاب عن القليل الذي بقي، الأمل القليل والحماسة القليلة والرغبة التي ينبغي أن تكون أقلّ من أن يُعلن عن وجودها. هي مثل الرغبات التي تأتي في المنام، لا يلبث من حلم بها أن يعرف أنها لم تكن إلا وهما. هكذا كانت دينا للكاتب الكهل المتعلّق بها، أقرب إلى أن تكون وهما من كونها حقيقة. لن يجدها هناك في المكان الذي يتوقّع وجودها فيه، كما أنها تغيب حين يجب أن تكون حاضرة. ولا شيء يأتي منها أكثر من رسالة اعتذار، أو إطلالة سريعة بعد غياب طال أشهرا، أو موقف وداع. وما يقرّب دينا إلى كونها وهما أو خيالا هو ما تعانيه في الصفحات الأولى من جروحها الزهرية الباقية من انتزاع جناحيها. هنا، مع دينا، تتسع تلك المسافة إلى حدّ يزيد كثيرا عن تلك التي يبقيها الكاتب بينه وبين مركز التظاهرة. ذاك أن من يعرف أن عليه إبقاء تلك المسافة لن يحظى إلا بحبّ قليل، ومن قبيل ما يمرّ في المنامات. رواية محمود الورداني «البحث عن دينا» صدرت في 125 صفحة عن «الكتب خان للنشر والتوزيع»، القاهرة 2016.