لا يرد اسم السوريّ ياسين رفاعية (1934 – 2016) من دون التذكير بالوفاء للذاكرة التي عاش فيها وعبرها كتاباته وإبداعه ومدينته وإرثه وحياته. الذاكرة التي نهل منها، تلك الذاكرة الدمشقية، ثمّ البيروتية، بحكاياتها المتشعبة وتفاصيلها الكثيرة وأدقّ دقائقها الحاضرة والمتجسّدة في أعماله، كانت له الملاذ الآمن والبركان المتفجّر في آن، ثم غدت تنقلاته بين الشرق والغرب، وتعرّفه إلى أسرار العلاقة الشائكة بين المجتمعات والأفراد نقاط اتّكاء وشرارات انطلاق لأعماله التي ما فتئت تخوض غمار التجريب والتجديد. تمكن رفاعية ببراعة من التحرّك في مناطق ملغّمة، معتمة، محجوبة، بعيدة عن الاهتمام، وتصدى في بعض أعماله مقاربة الحرب الأهلية اللبنانية، منها “رأس بيروت”، “الممرّ”، “دماء بالألوان”، وعالج المفارقات التي كانت تتخللها وتساهم في إبقاء جمر الأحقاد مستعرة، وآمن بالأدب سلاحا في مواجهة ضجيج الحرب. طرق ياسين رفاعيّة، الذي أقام في بيروت منذ 1965، مختلف أنواع الأدب والكتابة، كتب في القصة والرواية والصحافة، تخطّى في بعض أعماله، المسموحَ وغير المسموح، من دون أن يلتفت إلى أيّ خطوط حمراء، أو أي إدانة قد تلحقه، أو أيّ تكفير قد يكون له بالمرصاد في العالم العربيّ الذي تضيق فيه مساحة الحرّيات يوما بعد يوم، التقط السياحات الأدبية الإبداعية في عوالم انتهاك المحرّم، وأبدع ب”تجميل الإثم”، ومحاولة تبرير المقترف روائيّا. لعلّ إحدى السمات الأهم لأدب رفاعية هي نسجه المتقن بين الفنون، فمثلا كانت رواية «أهداب» غزْلا متقنا بين فنون عدّة، حيث يكون الشعر بطل السرد، والسرد المتدفّق غير المتقيّد بقيود كلاسيكيّة محور الحكي، واللوحةُ الروايةَ كلّها، يكون الفنّان شاعرا وروائيّا، يغوص عميقا في دواخل شخصيّاته، يعرّيها وتعرّيه، وكلّ ذلك في عالم الرواية التي لا تعترف بقيود قد تفرض عليها، ولا تنقاد لتقعيد أو تقنين. وتكون بيروت بفنادقها وبيوتها، بسكّانها وزوّارها، بصخبها وهدوئها، خلفيّة مكانيّة للأحداث، لا تتنازل عن موقعها الرياديّ كبلد للحرّيّة، وقدرتها العجيبة على احتواء المتناقضات، بل والسعي إلى المؤالفة في ما بينها. تلك الرواية التي دارت في فلك الفنّ، حيث تغدو اللوحة هي الرواية، وتسرد الرواية تاريخ اللوحة المرسومة من قبل الفنّان السبعينيّ «عصام» لفتاة في الثامنة عشرة «أهداب»، إذ تنشأ بينهما علاقة حبّ توطّدها الأيّام واللقاءات المستمرّة، ويبدأ الشجن والعشق والبوح بما يعتمل في الصدور، ما جرى وما كان ينبغي له أن يجري، وما لم يجرِ أيضا، حيث تكون البطلة منطلقة، متحرّرة من كلّ القيود، تبادر إلى التحرّش بالفنّان، ثمّ تغازله، وهو تائه بداية بين الواجب والواقع والضمير، إذ تدفعه إلى التخلّي عن تأنيب الضمير والاستمتاع بكلّ فاكهتها المحرَّمة، ومن ثمّ التمادي في الاستلذاذ بجسدها المتفجّر إغواء وإغراء وجنونا وإعجازا إلهيّاً، يستحيل أن يوجد له ندّ أو مشابه أو مقارب، كأنّ الله تفنّن في رسمها لتكون معجزته المتنقّلة على الأرض، لتكون لوحته الأروع، التي يباهي بها عباده بحسب توصيف البطل. ظلّ رفاعية مسكونا بعشق الياسمين الدمشقيّ الذي هندس ذاكرته وذكرياته، آثر القرب من مدينته دمشق، اختار بيروت، لتكون منفاه القريب/ الأثير، لأنّه أدرك باكرا أنّ نظام دمشق يدبر للفتك بالبلد وتقييده وتشويه صورته، ويحاول تصميم مبدعين حسب رغبته وتحت الطلب، في الوقت الذي كان رفاعية منطلقا في عوالمه ومبحرا في فضاءات الحرّيّة التي عاشها وعشقها، وهو برحيله يبقى الطائر الدمشقيّ المحلّق بأحلامه وإبداعه في سماء الأدب والفنّ. لا يرد اسم السوريّ ياسين رفاعية (1934 – 2016) من دون التذكير بالوفاء للذاكرة التي عاش فيها وعبرها كتاباته وإبداعه ومدينته وإرثه وحياته. الذاكرة التي نهل منها، تلك الذاكرة الدمشقية، ثمّ البيروتية، بحكاياتها المتشعبة وتفاصيلها الكثيرة وأدقّ دقائقها الحاضرة والمتجسّدة في أعماله، كانت له الملاذ الآمن والبركان المتفجّر في آن، ثم غدت تنقلاته بين الشرق والغرب، وتعرّفه إلى أسرار العلاقة الشائكة بين المجتمعات والأفراد نقاط اتّكاء وشرارات انطلاق لأعماله التي ما فتئت تخوض غمار التجريب والتجديد. تمكن رفاعية ببراعة من التحرّك في مناطق ملغّمة، معتمة، محجوبة، بعيدة عن الاهتمام، وتصدى في بعض أعماله مقاربة الحرب الأهلية اللبنانية، منها “رأس بيروت”، “الممرّ”، “دماء بالألوان”، وعالج المفارقات التي كانت تتخللها وتساهم في إبقاء جمر الأحقاد مستعرة، وآمن بالأدب سلاحا في مواجهة ضجيج الحرب. طرق ياسين رفاعيّة، الذي أقام في بيروت منذ 1965، مختلف أنواع الأدب والكتابة، كتب في القصة والرواية والصحافة، تخطّى في بعض أعماله، المسموحَ وغير المسموح، من دون أن يلتفت إلى أيّ خطوط حمراء، أو أي إدانة قد تلحقه، أو أيّ تكفير قد يكون له بالمرصاد في العالم العربيّ الذي تضيق فيه مساحة الحرّيات يوما بعد يوم، التقط السياحات الأدبية الإبداعية في عوالم انتهاك المحرّم، وأبدع ب”تجميل الإثم”، ومحاولة تبرير المقترف روائيّا. لعلّ إحدى السمات الأهم لأدب رفاعية هي نسجه المتقن بين الفنون، فمثلا كانت رواية «أهداب» غزْلا متقنا بين فنون عدّة، حيث يكون الشعر بطل السرد، والسرد المتدفّق غير المتقيّد بقيود كلاسيكيّة محور الحكي، واللوحةُ الروايةَ كلّها، يكون الفنّان شاعرا وروائيّا، يغوص عميقا في دواخل شخصيّاته، يعرّيها وتعرّيه، وكلّ ذلك في عالم الرواية التي لا تعترف بقيود قد تفرض عليها، ولا تنقاد لتقعيد أو تقنين. وتكون بيروت بفنادقها وبيوتها، بسكّانها وزوّارها، بصخبها وهدوئها، خلفيّة مكانيّة للأحداث، لا تتنازل عن موقعها الرياديّ كبلد للحرّيّة، وقدرتها العجيبة على احتواء المتناقضات، بل والسعي إلى المؤالفة في ما بينها. تلك الرواية التي دارت في فلك الفنّ، حيث تغدو اللوحة هي الرواية، وتسرد الرواية تاريخ اللوحة المرسومة من قبل الفنّان السبعينيّ «عصام» لفتاة في الثامنة عشرة «أهداب»، إذ تنشأ بينهما علاقة حبّ توطّدها الأيّام واللقاءات المستمرّة، ويبدأ الشجن والعشق والبوح بما يعتمل في الصدور، ما جرى وما كان ينبغي له أن يجري، وما لم يجرِ أيضا، حيث تكون البطلة منطلقة، متحرّرة من كلّ القيود، تبادر إلى التحرّش بالفنّان، ثمّ تغازله، وهو تائه بداية بين الواجب والواقع والضمير، إذ تدفعه إلى التخلّي عن تأنيب الضمير والاستمتاع بكلّ فاكهتها المحرَّمة، ومن ثمّ التمادي في الاستلذاذ بجسدها المتفجّر إغواء وإغراء وجنونا وإعجازا إلهيّاً، يستحيل أن يوجد له ندّ أو مشابه أو مقارب، كأنّ الله تفنّن في رسمها لتكون معجزته المتنقّلة على الأرض، لتكون لوحته الأروع، التي يباهي بها عباده بحسب توصيف البطل. ظلّ رفاعية مسكونا بعشق الياسمين الدمشقيّ الذي هندس ذاكرته وذكرياته، آثر القرب من مدينته دمشق، اختار بيروت، لتكون منفاه القريب/ الأثير، لأنّه أدرك باكرا أنّ نظام دمشق يدبر للفتك بالبلد وتقييده وتشويه صورته، ويحاول تصميم مبدعين حسب رغبته وتحت الطلب، في الوقت الذي كان رفاعية منطلقا في عوالمه ومبحرا في فضاءات الحرّيّة التي عاشها وعشقها، وهو برحيله يبقى الطائر الدمشقيّ المحلّق بأحلامه وإبداعه في سماء الأدب والفنّ.