التنمية المحلية: تسليم محطة الفرز الأولى للمخلفات الصلبة بنويبع لمحافظة جنوب سيناء بتكلفة 4 ملايين جنيه    تصدير 859 حاوية مكافئة من ميناء دمياط    شكري ووزراء خارجية 4 دول عربية يجتمعون مع بلينكن لبحث مسار وقف الحرب في غزة    عاجل.. توخيل يتحدى ريال مدريد بتصريحات نارية    مفاجأة.. تغريم نجم الأهلي 100 ألف جنيه لهذا السبب    استمرار حبس عاطل لحيازته مخدر البودر في كرداسة    الصين تشارك بتسعِة أجنحة في معرض أبوظبي الدولي للكتاب ال33    العقاد يدعو لضرورة مشاركة القطاع الخاص فى تقديم الخدمات الطبية ب«التأمين الشامل».. فيديو    عبد الرازق يرفع الجلسة العامة لمجلس الشيوخ    صحتك تهمنا .. حملة توعية ب جامعة عين شمس    وزير النقل يبحث إنشاء مصنعين في برج العرب بالإسكندرية مع ألستوم الفرنسية    تأجيل محاكمة المتهمين في حادث قطار طوخ إلى شهر يونيو للمرافعة    تنظيم ندوة عن أحكام قانون العمل ب مطاحن الأصدقاء في أبنوب    أخبار الفن.. أول ظهور ل أحمد السعدني بعد وفاة والده.. ممثلة لبنانية شهيرة ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان    خالد جلال يعقد اجتماعا لمناقشة خطة الموسم الجديد للبيت الفني للمسرح    دينا الشربيني ضيفة كلمة أخيرة غدًا    النشرة الدينية .. أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة .. "خريجي الأزهر" و"مؤسسة أبو العينين" تكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين    أفضل طريقة لعلاج الكسل عن الصلاة.. سهلة وبسيطة    حصيلة مبدئية.. مق.تل 42 شخصا داخل كينيا في انهيار سد بسبب الأمطار    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل المرحلة الأخيرة    مقترح برلماني بدعم كليات الذكاء الاصطناعي بالجامعات الحكومية -تفاصيل    إيران: وفد كوري شمالي يزور طهران لحضور معرض تجاري    بعد أنباء عن ارتباطها ومصطفى شعبان.. ما لا تعرفه عن هدى الناظر    باركود وتعليمات جديدة.. أسيوط تستعد لامتحانات نهاية العام    وزير التجارة : خطة لزيادة صادرات قطاع الرخام والجرانيت إلى مليار دولار سنوياً    "البحوث الإسلامية" يطلق حملة "فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا" بمناسبة عيد العمال    وزير المالية: نتطلع لقيام بنك ستاندرد تشارترد بجذب المزيد من الاستثمارات إلى مصر    الصين فى طريقها لاستضافة السوبر السعودى    عضو مجلس الزمالك يعلق على إخفاق ألعاب الصالات    رئيس الوزراء الإسباني يعلن الاستمرار في منصبه    أمير الكويت يزور مصر غدًا.. والغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يحتذي به    تجليات الفرح والتراث: مظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم 2024 في مصر    شروط التقديم في رياض الأطفال بالمدارس المصرية اليابانية والأوراق المطلوبة (السن شرط أساسي)    حكم رادع ضد المتهم بتزوير المستندات الرسمية في الشرابية    المشدد 5 سنوات والعزل من الوظيفة لرئيس حي السلام ومهندس بتهمة تلقي «رشوة»    مقترح برلماني بدعم كليات الذكاء الاصطناعي بالجامعات الحكومية    «للمناسبات والاحتفالات».. طريقة عمل كيكة الكوكيز بالشوكولاتة (فيديو)    عامر حسين: الكأس سيقام بنظامه المعتاد.. ولم يتم قبول فكرة "القرعة الموجهة"    إزالة 22 حالة تعديات على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة بالشرقية    بث مباشر.. مؤتمر صحفي ل السيسي ورئيس مجلس رئاسة البوسنة والهِرسِك    «القومي لثقافة الطفل» يقيم حفل توزيع جوائز مسابقة رواية اليافعين    «التضامن»: دعم مادي وتوفير فرص عمل لذوي الاحتياجات من ضعاف السمع    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    "سنوضح للرأي العام".. رئيس الزمالك يخرج عن صمته بعد الصعود لنهائي الكونفدرالية    مركز تدريب "الطاقة الذرية" يتسلم شهادة الأيزو ISO 2100: 2018    السيسي عن دعوته لزيارة البوسنة والهرسك: سألبي الدعوة في أقرب وقت    إصابة عامل بطلق ناري في قنا.. وتكثيف أمني لكشف ملابسات الواقعة    عواد: كنت أمر بفترة من التشويش لعدم تحديد مستقبلي.. وأولويتي هي الزمالك    الأنبا بشارة يشارك في صلاة ليلة الاثنين من البصخة المقدسة بكنيسة أم الرحمة الإلهية بمنهري    بالاسماء ..مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    أسوشيتد برس: وفد إسرائيلي يصل إلى مصر قريبا لإجراء مفاوضات مع حماس    إصابة 3 أطفال في حادث انقلاب تروسيكل بأسيوط    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    لهذا السبب.. ريال مدريد يتخلى عن نجم الفريق    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الاثنين 29-4-2024 بالصاغة بعد الانخفاض    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ياسين رفاعية أحد رواد القصة العربية القصيرة يرحل في بيروت
نشر في صوت البلد يوم 25 - 05 - 2016

الكتابة فعل إبداعي لا يمكن أن يتعلمه الإنسان ما لم تكن الموهبة والروح الإنسانية الشفافة أرضيته الأولى، ولا يمكن للتعلم الأكاديمي أن ينتج كتابا موهوبين متجاوزين للسائد، وهذا تثبته الكثير من تجارب الكتاب والشعراء العصاميين الذين غيروا وجه الأدب على مر العصور والأقطار ولكنهم لم يتعلموا الكتابة في الجامعات أو المدارس، فكانت مدرستهم هي الحياة منها أخذوا وإليها أعطوا حياة أخرى. هكذا هو الكاتب والشاعر السوري ياسين رفاعية الذي غادر الحياة التي أعطته تجربتها المرة فبادلها بكتاباته الغزيرة ومتنوعة الأجناس.
ياسين رفاعية كاتب عصامي، حيث منعته ظروف حياته القاسية من مواصلة الدراسة لكنها لم تمنعه من الكتابة، والكتابة الغزيرة التي شملت مختلف الأجناس الأدبية من شعر وقصة ورواية، هذا إضافة إلى اشتغاله في الصحافة التي قدم فيها تجربة فريدة في رحلته بين الشرق، لبنان، والغرب، لندن. ففي عام 1961 عمل رفاعية سكرتير تحرير في مجلة “المعرفة”، كما عمل بعدها رئيسا للقسم الثقافي في مجلة “الأحد” اللبنانية، واشتغل في الصحافة العربية في لندن وانتقل منها إلى بيروت.
تنوعت كتب ياسين رفاعية حيث أصدر مجموعات قصصية عديدة أغلبها كان يتميز بنفس ذاتي وعفوي نذكر منها “الحزن في كل مكان” و”رأس بيروت” و”الممر”، كما أصدر عددا من المجموعات الشعرية نذكر منها “أنت الحبيبة وأنا العاشق” و”وردة الأفق” و”العالم يغرق” و”أسرار النرجس”، إضافة إلى عدد من الروايات مثل “امرأة غامضة” و”دماء بالألوان” و”مصرع الماس”، وقد ترجمت هذه الرواية إلى الإنكليزية.
ويبقى الملاحظ في أعمال ياسين رفاعية قدرته على النفاذ من جنس أدبي إلى آخر، حيث لا فرق بين شعره وقصصه ورواياته من حيث اشتغاله على اللغة وخاصة من حيث انطلاقه دائما من رؤية خلاّقة تدفعها ذات صادقة تسعى إلى إرساء قيم الإنسانية والسلام رغم السواد الذي يحيطها، حيث عانى الكاتب كثيرا من تجربة حياتية قاسية لاحقته بفقد أحبته – زوجته وابنته- والملاحقة السياسية والقمع.
غريباً ومهيضاً ومحاطاً برواياته العشرين رحل ياسين رفاعية. الطابق السادس من المبنى المقابل لمنزلي في رأس بيروت سيخلو من شاغله الأخير. وحدها الياسمينة، التي رعتها أنامل زوجته الراحلة أمل جراح، ستذرف قبل أن تذبل دموعاً بيضاء”. بهذه الكلمات رثى الشاعر اللبناني شوقي بزيع صاحب الكاتب السوري ياسين رفاعية الذي غادرنا يوم الإثنين في بيروت عن عمر يناهز 82 عاماً. وقالت الشاعرة والإعلامية عبير شرارة “مات ياسين رفاعية، الروائي والكاتب الجميل والحساس، الحكواتي بالفطرة، الإنسان صاحب القلب الأبيض.
صدق عجيب في تكوين المشهد
كان آخر حوار تلفزيوني أجري مع الكاتب في نوفمبر 2015 عبر برنامج “خوابي الكلام” على شاشة تلفزيون لبنان، مع عبير شرارة، وتحدث من خلاله عن رواياته وعن تعرضه للخطف ومحاولة الاغتيال، وروايته “مصرع ألماس” التي سرقت كاملة في مسلسل “باب الحارة” على حد قوله. وفي روايته هذه يتحدث رفاعية عن دمشق الأربعينات، أيام طفولته المبكرة. وتعكس هذه الرواية الحياة الاجتماعية في سوريا.
وطوال مسيرته الأدبية حاول رفاعية أن يفجر حزنه في كتاباته. يقول في أحد حواراته الصحافية في 2011 إن هذا الحزن نابع من حياته الشخصية. فقد عاش في عائلة فقيرة، واضطر أن يمارس عدة مهن، بينها عامل في شركة نسيج وصانع أحذية وبائع كعك في الطريق، لكن قراءات الكاتب الكثيرة نمت لديه موهبة الكتابة وشجعته عليها.
كتب صاحب ”أهداب” أولى قصصه “صانع الأحذية” ونال عليها جائزة في القصة القصيرة من مجلة “أهل النفط” بالعراق التي كان يرأس تحريرها الكاتب الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا.
ويقول رفاعية “هذه القصة غيّرت مجرى حياتي وانتقلت بعدها للعمل في الصحافة وبدأت أنشر قصصي في الصحف السورية (الشعب، دمشق المساء، النصر، الأيام، الأخبار)
وتقول عنه الكاتبة والصحافية اللبنانية عناية جابر “ليس الهوس بكتابة الروايات والقصص (13 رواية لغاية الآن، عدا القصص القصيرة والمجموعة الشعرية وروايتين لم تُنشرا بعد)، مجرد اكتظاظ فنّي وسيولة أدبية عند رفاعية. بل إنّها الكتابة المتواصلة التي تُنقذه من الجنون والانتحار. أمر نصحهُ به طبيبه النفسي المُعالج، طالباً منه عدم التوّقف عن الكتابة، بغية استعادة الاتزان إثر حياة طويلة شابها فقدٌ موجع. فقد أحبّة تمثّل في موت ابنته الشابة لينا عن سبع وثلاثين سنة، وموت حبيبته وزوجته الشاعرة أمل الجراح قبل موت ابنته بسنة واحدة”.
وتعد السيرة الروائية “ياسمين” الصادرة عن “دار جداول” في بيروت في العام الماضي، هي آخر أعمال رفاعية. وتقدّم الرواية في مستهلها صورة عن الصراع ما بين القيم الأخلاقية عند الرجل الشرقي والرجل الغربي، حيث تنظر القوانين إلى الأب كمجرم حاول قتل ابنته، فيما الأب يدافع عن شرفه وما يؤمن بشرعيته وتقاليده في عقاب الابنة التي خانت تقاليد أسرتها.
حكايات للتوثيق
يعتبر الناقد محمد الراشدي أن ياسين رفاعية من الأسماء التي يختطف ما تكتب دون تصفحه وتشرع في قراءته فور اقتنائه، فما يجعله قريبا من القلب هو صدقه العجيب في تكوين المشهد الذي ينجح في أن يمسّك بكتابته كما أن سرده المدفوع بحيرته الخاصة يجعل منه إنسانا يحكي لك مباشرة وبنفسه فحكاياته ليست مجرد كلمات على الورق وحسب، فهو من الكتاب القلائل الذين يجعلونك تشعر بأنهم يهمسون لك بالحكايا كما يعرفونها ويرونها وكأنك المتلقي الوحيد.
عن مجموعته القصصية الأولى “الحزن في كل مكان” يقول القاص السوري ياسين رفاعية في مفتتح أعماله الكاملة الصادرة عام 2012، عن دار جداول، في بيروت “الحزن في كل مكان قصصي الأولى، كتبتها وأنا شاب في العشرين، وصدرت طبعتها الأولى عام 1960، ويوم كتبتها قصة بعد قصة كنت أرى الحياة بغير ما أراها الآن، كنت أقل كآبة، وأقل حزنا، وأكثر فرحا، ومع ذلك كانت القصص سوداوية وقليلة الحظ، ولا أدري وقعها الآن، وقد تكاثرت الكآبة وكبر الحزن ومات الفرح”.
ويضيف رفاعية عن الظرف الحياتي الذي أنتج فيه مجموعته “يومذاك، كنت قليل الثقافة، فأنا في الأصل عامل لم تتح لي ظروف حياتي أن أتابع دراستي، وبسبب ذهابي إلى المخبز الذي كنت أعمل فيه منذ الرابعة صباحا حتى السادسة مساء، لم أكن أستطيع القراءة حتى، كنت أعيش حياة صعبة، وبسبب التعب كنت أذهب إلى النوم مباشرة … كانت أوضاعنا صعبة وشرسة”.
ويقر الناقد أن مجموعة رفاعية القصصية “العصافير” هي المجموعة التي شكلت مرحلة مختلفة وناضجة في مسيرة الكاتب. حتى أن جبرا إبراهيم جبرا قال فيها “العصافير من أجمل وأبدع ما قرأت منذ زمان، أصيلة، عميقة الإنسانية، فاجعة، مفرحة، تترك أثرا معقدا وطيبا في النفس كأحسن الشعر”. وقد أورد الكاتب هذه الشهادة رفقة شهادات أخرى خاصة لصالح جودت، وعصام محفوظ، وأمين العيوطي، وغيرهم في مقدمة الأعمال الكاملة.
كاتب في بيروت
وكتبت عناية جابر أن “ياسين رفاعية الذي أمضى جلّ عمره في لبنان، أي أكثر من أربعين سنة، كان يراه البلد الوحيد الذي عاش فيه حراً”. وتذكر بأن الكاتب الراحل كان يقول عن بيروت «لم يدق بابي يوما أي شرطي سير! كنت أشعر بالأمان المطلق. يحبونني ويحترمونني وكل دور النشر تقبل كتبي. كما أنني مارست الصحافة هنا، وراسلت كل وسائل الإعلام المكتوبة وصنعت اسمي. لبنان حاليا بعد الحرب الأهلية التي عايشتها بكل فجائعها، انكسر أخلاقيا وانفرز طائفيا، وأصبح الآن على كف عفريت. لا رئيس ولا مؤسسات ولا دولة ولا جهات قادرة حتى على رفع النفايات من الشوارع. هذا سببه أن لبنان ولد ولادة قيصرية وانتزع انتزاعاً من خاصرة سوريا. بيروت هي النافذة التي انفتحت لي على الأفق، بعد بدايات خانقة في سوريا عملت فيها في كل المهن، من صبي فرّان في فرن أبي إلى العمل مع صانع أحذية. حين جاءت لور غرّيب إلى دمشق، أجرت معي حوارا وكنت قد بدأت الكتابة. وعندما عادت إلى بيروت، نشرت حواري ووضعت صورتي على غلاف ملحق «لو جور» وفي الخلفية فرن أبي، وقالت في العنوان: من هذه الجامعة تخرّج ياسين رفاعية. نتاجاتي كما قلت لاقت ترحيبا هنا وفي مصر، والنتاج الجيد يفرض نفسه، خصوصا في سوق الرواية المفضلة عند الناشرين".
حب العراق
يقول محمد حياوي إنه على الرغم من أن “الحزن في كل مكان” و” العالم يغرق”، بل ويحترق منذ أكثر من عقد من الزمان، إلّا أن ياسين رفاعية تمكن بشكل أو بآخر من تبديد الحزن الذي مزّق خاصرته وابتكر أشكالا أخرى من التسرية للمضي قدماً في الحياة، بكبد مفتت ومحترق نتيجة لفقد أحبابه، وبروح ملتاعة يكتنفها الخوف المزمن من شرطي يتوقع أن يخرج له من العطفة المقبلة، أو زوّار فجر يتوقع منذ سنين أن يطرقوا بابه عند الفجر.
لم يدر بخلد حياوي وهو يقرأ رواية رفاعية “رأس بيروت” عن المدينة الجميلة المكتوية بنار الحرب وتفصيلاتها وروائح شرفاتها وقدرة نسائها على ابتكار الجمال وسط هباب تلك الحرب، أن ياسين رفاعية سيتمكن منه الموت فجأة بعد أن ملّ الترقب.
ويؤكد أنه لا يدري أين قرأ عن وصية طبيب نفسي له بضرورة مواصلة الكتابة، كنسغ للحياة، فأنتج العشرات من الروايات والمجاميع القصصية وكتب الأطفال، بينما كان الموت يترصده عن كثب، عله يلقي سلاحه ذات ليلة فيداهمه، لكن ياسين كان قد أدرك اللعبة جيداً، فصار يكتب من دون توقف، تحوّل عنده هاجس الكتابة إلى فعل مرادف للحياة، بالضبط كما كان الأمر مع شهرزاد وهي ترى الموت المترصد بطرف عينها مثل حافز لمواصلة الحكاية. لم يتوقف ياسين عن الكتابة حتّى اللحظة الأخيرة، ليس عملا بنصيحة طبيبه في الواقع، بل لأن فعل الكتابة عنده بات يوازي فعل الحياة نفسها. حتى الموت لا يشعر بنشوة الانتصار في حالته، بعد أن قارعه كل تلك العقود على الرغم من جراحه التي أثخنته.
ويضيف “المدهش في الأمر هو عمق علاقة ياسين رفاعية بالعراق وحبه للعراقيين وحضوره المؤثر في وجدانهم وذاكرتهم، فهو أوّل من وضع سبّابته على جرح العراق عندما أشار إلى أن الحصار الموغل بوحشيته ولا إنسانيته، هو من دمر البنى النفسية والمجتمعية للعراق وليست الحروب، على الرغم من قبحها. وقراءة العارف تلك طالما ألهمتني وجعلتني أعيد تفصيلات هدر الكرامة العراقية والتحول البطيء للناس إلى ما يشبه النمور في اليوم العاشر”.
يقول محمد حياوي “ليس الموت نهاية الأشياء بالنسبة إلى الكاتب على ما أعتقد، بل هو بدء معجزته وخلود رؤاه وأفكاره وتعليق شخصياته وأبطاله على مشاجب الذاكرة إلى الأبد. هكذا أفهم موت الكاتب في الحقيقة، وهكذا أفهم ياسين رفاعية وأنا أقلّب الآن صفحات روايته أسرار النرجس”.
الكتابة فعل إبداعي لا يمكن أن يتعلمه الإنسان ما لم تكن الموهبة والروح الإنسانية الشفافة أرضيته الأولى، ولا يمكن للتعلم الأكاديمي أن ينتج كتابا موهوبين متجاوزين للسائد، وهذا تثبته الكثير من تجارب الكتاب والشعراء العصاميين الذين غيروا وجه الأدب على مر العصور والأقطار ولكنهم لم يتعلموا الكتابة في الجامعات أو المدارس، فكانت مدرستهم هي الحياة منها أخذوا وإليها أعطوا حياة أخرى. هكذا هو الكاتب والشاعر السوري ياسين رفاعية الذي غادر الحياة التي أعطته تجربتها المرة فبادلها بكتاباته الغزيرة ومتنوعة الأجناس.
ياسين رفاعية كاتب عصامي، حيث منعته ظروف حياته القاسية من مواصلة الدراسة لكنها لم تمنعه من الكتابة، والكتابة الغزيرة التي شملت مختلف الأجناس الأدبية من شعر وقصة ورواية، هذا إضافة إلى اشتغاله في الصحافة التي قدم فيها تجربة فريدة في رحلته بين الشرق، لبنان، والغرب، لندن. ففي عام 1961 عمل رفاعية سكرتير تحرير في مجلة “المعرفة”، كما عمل بعدها رئيسا للقسم الثقافي في مجلة “الأحد” اللبنانية، واشتغل في الصحافة العربية في لندن وانتقل منها إلى بيروت.
تنوعت كتب ياسين رفاعية حيث أصدر مجموعات قصصية عديدة أغلبها كان يتميز بنفس ذاتي وعفوي نذكر منها “الحزن في كل مكان” و”رأس بيروت” و”الممر”، كما أصدر عددا من المجموعات الشعرية نذكر منها “أنت الحبيبة وأنا العاشق” و”وردة الأفق” و”العالم يغرق” و”أسرار النرجس”، إضافة إلى عدد من الروايات مثل “امرأة غامضة” و”دماء بالألوان” و”مصرع الماس”، وقد ترجمت هذه الرواية إلى الإنكليزية.
ويبقى الملاحظ في أعمال ياسين رفاعية قدرته على النفاذ من جنس أدبي إلى آخر، حيث لا فرق بين شعره وقصصه ورواياته من حيث اشتغاله على اللغة وخاصة من حيث انطلاقه دائما من رؤية خلاّقة تدفعها ذات صادقة تسعى إلى إرساء قيم الإنسانية والسلام رغم السواد الذي يحيطها، حيث عانى الكاتب كثيرا من تجربة حياتية قاسية لاحقته بفقد أحبته – زوجته وابنته- والملاحقة السياسية والقمع.
غريباً ومهيضاً ومحاطاً برواياته العشرين رحل ياسين رفاعية. الطابق السادس من المبنى المقابل لمنزلي في رأس بيروت سيخلو من شاغله الأخير. وحدها الياسمينة، التي رعتها أنامل زوجته الراحلة أمل جراح، ستذرف قبل أن تذبل دموعاً بيضاء”. بهذه الكلمات رثى الشاعر اللبناني شوقي بزيع صاحب الكاتب السوري ياسين رفاعية الذي غادرنا يوم الإثنين في بيروت عن عمر يناهز 82 عاماً. وقالت الشاعرة والإعلامية عبير شرارة “مات ياسين رفاعية، الروائي والكاتب الجميل والحساس، الحكواتي بالفطرة، الإنسان صاحب القلب الأبيض.
صدق عجيب في تكوين المشهد
كان آخر حوار تلفزيوني أجري مع الكاتب في نوفمبر 2015 عبر برنامج “خوابي الكلام” على شاشة تلفزيون لبنان، مع عبير شرارة، وتحدث من خلاله عن رواياته وعن تعرضه للخطف ومحاولة الاغتيال، وروايته “مصرع ألماس” التي سرقت كاملة في مسلسل “باب الحارة” على حد قوله. وفي روايته هذه يتحدث رفاعية عن دمشق الأربعينات، أيام طفولته المبكرة. وتعكس هذه الرواية الحياة الاجتماعية في سوريا.
وطوال مسيرته الأدبية حاول رفاعية أن يفجر حزنه في كتاباته. يقول في أحد حواراته الصحافية في 2011 إن هذا الحزن نابع من حياته الشخصية. فقد عاش في عائلة فقيرة، واضطر أن يمارس عدة مهن، بينها عامل في شركة نسيج وصانع أحذية وبائع كعك في الطريق، لكن قراءات الكاتب الكثيرة نمت لديه موهبة الكتابة وشجعته عليها.
كتب صاحب ”أهداب” أولى قصصه “صانع الأحذية” ونال عليها جائزة في القصة القصيرة من مجلة “أهل النفط” بالعراق التي كان يرأس تحريرها الكاتب الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا.
ويقول رفاعية “هذه القصة غيّرت مجرى حياتي وانتقلت بعدها للعمل في الصحافة وبدأت أنشر قصصي في الصحف السورية (الشعب، دمشق المساء، النصر، الأيام، الأخبار)
وتقول عنه الكاتبة والصحافية اللبنانية عناية جابر “ليس الهوس بكتابة الروايات والقصص (13 رواية لغاية الآن، عدا القصص القصيرة والمجموعة الشعرية وروايتين لم تُنشرا بعد)، مجرد اكتظاظ فنّي وسيولة أدبية عند رفاعية. بل إنّها الكتابة المتواصلة التي تُنقذه من الجنون والانتحار. أمر نصحهُ به طبيبه النفسي المُعالج، طالباً منه عدم التوّقف عن الكتابة، بغية استعادة الاتزان إثر حياة طويلة شابها فقدٌ موجع. فقد أحبّة تمثّل في موت ابنته الشابة لينا عن سبع وثلاثين سنة، وموت حبيبته وزوجته الشاعرة أمل الجراح قبل موت ابنته بسنة واحدة”.
وتعد السيرة الروائية “ياسمين” الصادرة عن “دار جداول” في بيروت في العام الماضي، هي آخر أعمال رفاعية. وتقدّم الرواية في مستهلها صورة عن الصراع ما بين القيم الأخلاقية عند الرجل الشرقي والرجل الغربي، حيث تنظر القوانين إلى الأب كمجرم حاول قتل ابنته، فيما الأب يدافع عن شرفه وما يؤمن بشرعيته وتقاليده في عقاب الابنة التي خانت تقاليد أسرتها.
حكايات للتوثيق
يعتبر الناقد محمد الراشدي أن ياسين رفاعية من الأسماء التي يختطف ما تكتب دون تصفحه وتشرع في قراءته فور اقتنائه، فما يجعله قريبا من القلب هو صدقه العجيب في تكوين المشهد الذي ينجح في أن يمسّك بكتابته كما أن سرده المدفوع بحيرته الخاصة يجعل منه إنسانا يحكي لك مباشرة وبنفسه فحكاياته ليست مجرد كلمات على الورق وحسب، فهو من الكتاب القلائل الذين يجعلونك تشعر بأنهم يهمسون لك بالحكايا كما يعرفونها ويرونها وكأنك المتلقي الوحيد.
عن مجموعته القصصية الأولى “الحزن في كل مكان” يقول القاص السوري ياسين رفاعية في مفتتح أعماله الكاملة الصادرة عام 2012، عن دار جداول، في بيروت “الحزن في كل مكان قصصي الأولى، كتبتها وأنا شاب في العشرين، وصدرت طبعتها الأولى عام 1960، ويوم كتبتها قصة بعد قصة كنت أرى الحياة بغير ما أراها الآن، كنت أقل كآبة، وأقل حزنا، وأكثر فرحا، ومع ذلك كانت القصص سوداوية وقليلة الحظ، ولا أدري وقعها الآن، وقد تكاثرت الكآبة وكبر الحزن ومات الفرح”.
ويضيف رفاعية عن الظرف الحياتي الذي أنتج فيه مجموعته “يومذاك، كنت قليل الثقافة، فأنا في الأصل عامل لم تتح لي ظروف حياتي أن أتابع دراستي، وبسبب ذهابي إلى المخبز الذي كنت أعمل فيه منذ الرابعة صباحا حتى السادسة مساء، لم أكن أستطيع القراءة حتى، كنت أعيش حياة صعبة، وبسبب التعب كنت أذهب إلى النوم مباشرة … كانت أوضاعنا صعبة وشرسة”.
ويقر الناقد أن مجموعة رفاعية القصصية “العصافير” هي المجموعة التي شكلت مرحلة مختلفة وناضجة في مسيرة الكاتب. حتى أن جبرا إبراهيم جبرا قال فيها “العصافير من أجمل وأبدع ما قرأت منذ زمان، أصيلة، عميقة الإنسانية، فاجعة، مفرحة، تترك أثرا معقدا وطيبا في النفس كأحسن الشعر”. وقد أورد الكاتب هذه الشهادة رفقة شهادات أخرى خاصة لصالح جودت، وعصام محفوظ، وأمين العيوطي، وغيرهم في مقدمة الأعمال الكاملة.
كاتب في بيروت
وكتبت عناية جابر أن “ياسين رفاعية الذي أمضى جلّ عمره في لبنان، أي أكثر من أربعين سنة، كان يراه البلد الوحيد الذي عاش فيه حراً”. وتذكر بأن الكاتب الراحل كان يقول عن بيروت «لم يدق بابي يوما أي شرطي سير! كنت أشعر بالأمان المطلق. يحبونني ويحترمونني وكل دور النشر تقبل كتبي. كما أنني مارست الصحافة هنا، وراسلت كل وسائل الإعلام المكتوبة وصنعت اسمي. لبنان حاليا بعد الحرب الأهلية التي عايشتها بكل فجائعها، انكسر أخلاقيا وانفرز طائفيا، وأصبح الآن على كف عفريت. لا رئيس ولا مؤسسات ولا دولة ولا جهات قادرة حتى على رفع النفايات من الشوارع. هذا سببه أن لبنان ولد ولادة قيصرية وانتزع انتزاعاً من خاصرة سوريا. بيروت هي النافذة التي انفتحت لي على الأفق، بعد بدايات خانقة في سوريا عملت فيها في كل المهن، من صبي فرّان في فرن أبي إلى العمل مع صانع أحذية. حين جاءت لور غرّيب إلى دمشق، أجرت معي حوارا وكنت قد بدأت الكتابة. وعندما عادت إلى بيروت، نشرت حواري ووضعت صورتي على غلاف ملحق «لو جور» وفي الخلفية فرن أبي، وقالت في العنوان: من هذه الجامعة تخرّج ياسين رفاعية. نتاجاتي كما قلت لاقت ترحيبا هنا وفي مصر، والنتاج الجيد يفرض نفسه، خصوصا في سوق الرواية المفضلة عند الناشرين".
حب العراق
يقول محمد حياوي إنه على الرغم من أن “الحزن في كل مكان” و” العالم يغرق”، بل ويحترق منذ أكثر من عقد من الزمان، إلّا أن ياسين رفاعية تمكن بشكل أو بآخر من تبديد الحزن الذي مزّق خاصرته وابتكر أشكالا أخرى من التسرية للمضي قدماً في الحياة، بكبد مفتت ومحترق نتيجة لفقد أحبابه، وبروح ملتاعة يكتنفها الخوف المزمن من شرطي يتوقع أن يخرج له من العطفة المقبلة، أو زوّار فجر يتوقع منذ سنين أن يطرقوا بابه عند الفجر.
لم يدر بخلد حياوي وهو يقرأ رواية رفاعية “رأس بيروت” عن المدينة الجميلة المكتوية بنار الحرب وتفصيلاتها وروائح شرفاتها وقدرة نسائها على ابتكار الجمال وسط هباب تلك الحرب، أن ياسين رفاعية سيتمكن منه الموت فجأة بعد أن ملّ الترقب.
ويؤكد أنه لا يدري أين قرأ عن وصية طبيب نفسي له بضرورة مواصلة الكتابة، كنسغ للحياة، فأنتج العشرات من الروايات والمجاميع القصصية وكتب الأطفال، بينما كان الموت يترصده عن كثب، عله يلقي سلاحه ذات ليلة فيداهمه، لكن ياسين كان قد أدرك اللعبة جيداً، فصار يكتب من دون توقف، تحوّل عنده هاجس الكتابة إلى فعل مرادف للحياة، بالضبط كما كان الأمر مع شهرزاد وهي ترى الموت المترصد بطرف عينها مثل حافز لمواصلة الحكاية. لم يتوقف ياسين عن الكتابة حتّى اللحظة الأخيرة، ليس عملا بنصيحة طبيبه في الواقع، بل لأن فعل الكتابة عنده بات يوازي فعل الحياة نفسها. حتى الموت لا يشعر بنشوة الانتصار في حالته، بعد أن قارعه كل تلك العقود على الرغم من جراحه التي أثخنته.
ويضيف “المدهش في الأمر هو عمق علاقة ياسين رفاعية بالعراق وحبه للعراقيين وحضوره المؤثر في وجدانهم وذاكرتهم، فهو أوّل من وضع سبّابته على جرح العراق عندما أشار إلى أن الحصار الموغل بوحشيته ولا إنسانيته، هو من دمر البنى النفسية والمجتمعية للعراق وليست الحروب، على الرغم من قبحها. وقراءة العارف تلك طالما ألهمتني وجعلتني أعيد تفصيلات هدر الكرامة العراقية والتحول البطيء للناس إلى ما يشبه النمور في اليوم العاشر”.
يقول محمد حياوي “ليس الموت نهاية الأشياء بالنسبة إلى الكاتب على ما أعتقد، بل هو بدء معجزته وخلود رؤاه وأفكاره وتعليق شخصياته وأبطاله على مشاجب الذاكرة إلى الأبد. هكذا أفهم موت الكاتب في الحقيقة، وهكذا أفهم ياسين رفاعية وأنا أقلّب الآن صفحات روايته أسرار النرجس”.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.