ليس من المستساغ اعتبار ما انتهت إليه رواية الكاتب المصري محمد قطب «عندما غرد البلبل» (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، ميلاد الحب فجأة بين امرأة ورجل تزوجا بطريقة تقليدية، وأصيبت علاقتهما، بعد فترة وجيزة من الزفاف، بالرتابة والملل والتجاهل المتبادل وتبلّد المشاعر والهجر... إلا إذا كان الكاتب يعالج تلك المسألة النفسية المعقدة من خلال التفكير بالتمني، أو البحث عن النهايات السعيدة على طريقة حكايات الليل التي تُروى لبعث الطمأنينة والتفاؤل في نفوس الصغار، أو الأفلام السينمائية العربية القديمة، التي تتساقط كل الحواجز التي تحول بين بطلها وبطلتها ليتعانقا قبل أن تظهر كلمة «النهاية». لكن ما تختلف به الرواية عن هذا المسار التقليدي في الحكايات والأفلام، هو نأي الكاتب عن الخط القديم في السرد، إذ يبدو النص برمته أقرب في شكله إلى لوحات تتناثر فوق حائط أملس عريض، لا ينظم بينها إلا أن راسمها شخص واحد وبفرشاة واحدة، وتلبس أحياناً ثوب القصة القصيرة في التكثيف والاختزال أو الإزاحة. وتختلف هذه الرواية في لغتها التي تغلب عليها بلاغة، من دون تكلّف في غالبية المواضع، وهي سمة في أسلوب قطب، الذي ينهل من قاموس عربي ثري، يزين به مفرداته، ويرسم به صوره، ويسعفه كثيراً في التعبير عن مكنون نفوس أبطاله، والتفاعل الدائم مع كل مفردات الطبيعة حوله. بطلة الرواية فتاة حالت الظروف المادية لحبيبها أيام الجامعة دون زواجهما، فاستسلمت لضغط أسرتها وتزوجت تاجراً ثرياً، بعد أن نجحت أمها في إقناعها بأن الجميع يذهب في هذا الطريق، إذ قالت لها: «لا تتعلقي بالأوهام. كلنا تزوجنا هكذا. اسمعي كلام أمك، تزوجي من يسعى إليك ويلحّ في طلبك». ولم يكن أمامها بُد من الانصياع، وكأنها تترجم عملياً ما قالته لوالديها: «لا رأي لي، حجر تحركونه، يمين شمال»، فدفعت ثمن انصياعها منذ ليلة زفافها، حين عاشرها بلا روية ولا مشاعر، فبدا لقاؤهما الأول أقرب إلى الاغتصاب، وانتابها هذا الإحساس كلما كان يضاجعها، حيث الخوف والضجر والتقزز والنفور، الذي لا يخف إلا حين تغتسل بعنف، وتكاد تقشر جلدها، لتمحو أي أثر له عليه، و «حين كان يرغب في سفر طويل كانت تحس أن حجراً ثقيلاً ينزاح عن صدرها». ولأنها لم تنجب والزوج دائم السفر، عانت من الوحدة وصارت مطمعاً لكثر، وأكثر استهواء حيال نصائح كل من يقدم لها المشورة، ولم يكن يُسرِّي عنها إلا استدعاء ذكرياتها مع حبيبها الذي هجرها بغتة. ومع هذا، يجعل الكاتب هذه المشاعر السلبية كلها تنهار فجأة حين يعود الزوج من سفره ذات ليلة مصاباً بعد أن أذاه «بلطجية» وسرقوه في ركاب الاضطراب الذي واكب الأيام الأولى لثورة 25 يناير، فيولد في نفس الزوجة شعور جارف بالخوف عليه. وتدرك من دون مقدمات طويلة أهمية وجوده في حياتها، فيولد حبها له في هذه اللحظة. وعلى رغم أن هذه حكاية معتادة تزخر بها الحياة الاجتماعية في كل الأمكنة والأزمنة، فإن الكاتب لم يمنحها لنا طيّعة على هذا النحو المباشر، إنما وسط شكل مراوغ، يتّسم بتعدد الرواة، وتفاوت مستويات السرد، وترك فراغات كثيرة مفعمة بالتكهنات والتخمينات، وضنَّ علينا ابتداء باسم بطلته حتى عرفنا في صفحات متأخرة أنها «سميرة»، وأخفى البطل الآخر، وهو الزوج، فلم يظهر في البداية والنهاية، على رغم أن طغيان حضوره منعكس في تفكير الزوجة وتدبيرها، في آمالها وآلامها، في ذكرياتها وخيالاتها، وفي حديث من حولها واقترابه، ناصحاً أو طامعاً. ويبدو الاختلاط في استعمال الضمائر سمة أساسية لهذه الرواية، فالكاتب يتنقل بلا سد ولا حد بين ضمائر المتكلم والغائب والمخاطب، فيجد القارئ نفسه متأرجحاً بين أنا وهي وأنت، وعليه أن يبذل جهداً في التتبع والفهم، حتى لا يهرب منه مجرى الحكي، ويدرك متى ينتهي الراوي ليبدأ الكاتب، وقد امتد هذا إلى الحوار، الذي تناثر في ثنايا الرواية بين لوحات سردية، وهو إن كان قد أضاف كثيراً في نقل مسار الحكي إلى الأمام، فإنه هو الآخر يحتاج إلى قدر من التركيز، كي نعرف من يتكلم؟ ومتى؟ ولماذا؟ ووزّع الكاتب روايته على عناوين فرعية، بدا كلّّ منها مفتاحاً لقراءة الجزء الذي يليه من النص، ومنها «الجرعة الأخيرة» و «بحر التيه» و «سحر الخفاء» و «ذئاب الريح» و «ذكريات» و «زيارة امرأة غريبة» و «حيرة روح» و «أساور» و «الدرج المظلم» و «أنامل الليل». ومن يمعن النظر في هذه العناوين يجد أنها تؤدي وظيفة في تقريب النص، بل تعبر عن مساره، ونزوعه إلى الاستبطان والحوار الداخلي للبطلة، والميل الشديد إلى سبر أغوار نفسها، وهي مسألة يوليها الكاتب اهتماماً كبيراً في مواضع كثيرة من روايته. في خاتمة المطاف، نحن أمام رواية تتخذ من وقائع اجتماعية معتادة موضوعاً لها، لذا فإن شخصياتها نابتة من الواقع، وتتحرك في سياق اجتماعي تغلب عليه المحافظة، وحتى حين جاءت لحظة التغيير العارم، ممثلة في ثورة يناير التي ترد بعض أحداثها في القسم الأخير من الرواية، نجد البطلة المقهورة تبقى على حالها مستكينة خانعة، من دون أن تجاري سياقاً مشبعاً بالرفض الواسع، بل تظلم نفسها حين تتوهم أن الشفقة على زوجها المصاب هو ميلاد للحب في قلبها، فهناك فرق كبير بين الشفقة والعشق. ليس من المستساغ اعتبار ما انتهت إليه رواية الكاتب المصري محمد قطب «عندما غرد البلبل» (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، ميلاد الحب فجأة بين امرأة ورجل تزوجا بطريقة تقليدية، وأصيبت علاقتهما، بعد فترة وجيزة من الزفاف، بالرتابة والملل والتجاهل المتبادل وتبلّد المشاعر والهجر... إلا إذا كان الكاتب يعالج تلك المسألة النفسية المعقدة من خلال التفكير بالتمني، أو البحث عن النهايات السعيدة على طريقة حكايات الليل التي تُروى لبعث الطمأنينة والتفاؤل في نفوس الصغار، أو الأفلام السينمائية العربية القديمة، التي تتساقط كل الحواجز التي تحول بين بطلها وبطلتها ليتعانقا قبل أن تظهر كلمة «النهاية». لكن ما تختلف به الرواية عن هذا المسار التقليدي في الحكايات والأفلام، هو نأي الكاتب عن الخط القديم في السرد، إذ يبدو النص برمته أقرب في شكله إلى لوحات تتناثر فوق حائط أملس عريض، لا ينظم بينها إلا أن راسمها شخص واحد وبفرشاة واحدة، وتلبس أحياناً ثوب القصة القصيرة في التكثيف والاختزال أو الإزاحة. وتختلف هذه الرواية في لغتها التي تغلب عليها بلاغة، من دون تكلّف في غالبية المواضع، وهي سمة في أسلوب قطب، الذي ينهل من قاموس عربي ثري، يزين به مفرداته، ويرسم به صوره، ويسعفه كثيراً في التعبير عن مكنون نفوس أبطاله، والتفاعل الدائم مع كل مفردات الطبيعة حوله. بطلة الرواية فتاة حالت الظروف المادية لحبيبها أيام الجامعة دون زواجهما، فاستسلمت لضغط أسرتها وتزوجت تاجراً ثرياً، بعد أن نجحت أمها في إقناعها بأن الجميع يذهب في هذا الطريق، إذ قالت لها: «لا تتعلقي بالأوهام. كلنا تزوجنا هكذا. اسمعي كلام أمك، تزوجي من يسعى إليك ويلحّ في طلبك». ولم يكن أمامها بُد من الانصياع، وكأنها تترجم عملياً ما قالته لوالديها: «لا رأي لي، حجر تحركونه، يمين شمال»، فدفعت ثمن انصياعها منذ ليلة زفافها، حين عاشرها بلا روية ولا مشاعر، فبدا لقاؤهما الأول أقرب إلى الاغتصاب، وانتابها هذا الإحساس كلما كان يضاجعها، حيث الخوف والضجر والتقزز والنفور، الذي لا يخف إلا حين تغتسل بعنف، وتكاد تقشر جلدها، لتمحو أي أثر له عليه، و «حين كان يرغب في سفر طويل كانت تحس أن حجراً ثقيلاً ينزاح عن صدرها». ولأنها لم تنجب والزوج دائم السفر، عانت من الوحدة وصارت مطمعاً لكثر، وأكثر استهواء حيال نصائح كل من يقدم لها المشورة، ولم يكن يُسرِّي عنها إلا استدعاء ذكرياتها مع حبيبها الذي هجرها بغتة. ومع هذا، يجعل الكاتب هذه المشاعر السلبية كلها تنهار فجأة حين يعود الزوج من سفره ذات ليلة مصاباً بعد أن أذاه «بلطجية» وسرقوه في ركاب الاضطراب الذي واكب الأيام الأولى لثورة 25 يناير، فيولد في نفس الزوجة شعور جارف بالخوف عليه. وتدرك من دون مقدمات طويلة أهمية وجوده في حياتها، فيولد حبها له في هذه اللحظة. وعلى رغم أن هذه حكاية معتادة تزخر بها الحياة الاجتماعية في كل الأمكنة والأزمنة، فإن الكاتب لم يمنحها لنا طيّعة على هذا النحو المباشر، إنما وسط شكل مراوغ، يتّسم بتعدد الرواة، وتفاوت مستويات السرد، وترك فراغات كثيرة مفعمة بالتكهنات والتخمينات، وضنَّ علينا ابتداء باسم بطلته حتى عرفنا في صفحات متأخرة أنها «سميرة»، وأخفى البطل الآخر، وهو الزوج، فلم يظهر في البداية والنهاية، على رغم أن طغيان حضوره منعكس في تفكير الزوجة وتدبيرها، في آمالها وآلامها، في ذكرياتها وخيالاتها، وفي حديث من حولها واقترابه، ناصحاً أو طامعاً. ويبدو الاختلاط في استعمال الضمائر سمة أساسية لهذه الرواية، فالكاتب يتنقل بلا سد ولا حد بين ضمائر المتكلم والغائب والمخاطب، فيجد القارئ نفسه متأرجحاً بين أنا وهي وأنت، وعليه أن يبذل جهداً في التتبع والفهم، حتى لا يهرب منه مجرى الحكي، ويدرك متى ينتهي الراوي ليبدأ الكاتب، وقد امتد هذا إلى الحوار، الذي تناثر في ثنايا الرواية بين لوحات سردية، وهو إن كان قد أضاف كثيراً في نقل مسار الحكي إلى الأمام، فإنه هو الآخر يحتاج إلى قدر من التركيز، كي نعرف من يتكلم؟ ومتى؟ ولماذا؟ ووزّع الكاتب روايته على عناوين فرعية، بدا كلّّ منها مفتاحاً لقراءة الجزء الذي يليه من النص، ومنها «الجرعة الأخيرة» و «بحر التيه» و «سحر الخفاء» و «ذئاب الريح» و «ذكريات» و «زيارة امرأة غريبة» و «حيرة روح» و «أساور» و «الدرج المظلم» و «أنامل الليل». ومن يمعن النظر في هذه العناوين يجد أنها تؤدي وظيفة في تقريب النص، بل تعبر عن مساره، ونزوعه إلى الاستبطان والحوار الداخلي للبطلة، والميل الشديد إلى سبر أغوار نفسها، وهي مسألة يوليها الكاتب اهتماماً كبيراً في مواضع كثيرة من روايته. في خاتمة المطاف، نحن أمام رواية تتخذ من وقائع اجتماعية معتادة موضوعاً لها، لذا فإن شخصياتها نابتة من الواقع، وتتحرك في سياق اجتماعي تغلب عليه المحافظة، وحتى حين جاءت لحظة التغيير العارم، ممثلة في ثورة يناير التي ترد بعض أحداثها في القسم الأخير من الرواية، نجد البطلة المقهورة تبقى على حالها مستكينة خانعة، من دون أن تجاري سياقاً مشبعاً بالرفض الواسع، بل تظلم نفسها حين تتوهم أن الشفقة على زوجها المصاب هو ميلاد للحب في قلبها، فهناك فرق كبير بين الشفقة والعشق.