يأتي فيلم «جبهة واخان» للفرنسي الشاب كليمان كوجيور، بعد عقد تقريباً على ظهور أول أفلام حرب أفغانستان. وهو العقد الذي شهد وفرة إنتاجية غير مسبوقة من الأفلام الغربية عن الحرب المتواصلة تلك وورطاتها. غلب على تلك الأفلام الاتجاه التوثيقي، وقارب عدد جنسيات مُخرجيها عدد الدول الغربية التي اشتركت في التحالف العسكري في الحرب على حركتي الطالبان والقاعدة الذي تشكل في عام 2001. وإذا كانت وتيرة إنتاج الأفلام التسجيلية عن تلك الحرب قد تراجعت في شكل لافت في العامين الآخرين، - لأسباب عدة، أهمها: أنها قالت كل ما يُمكن أن يقال، وأمعنت في نقل مأزق الغرب الذي تورط في حرب طويلة وشديدة القسوة انتهت إلى لا شيء -، إلا أن نهاية الحقبة التسجيلية لا يعني خاتمة علاقة السينما بالنزاع المُعقد والداميّ، إذ أن هناك حركة إنتاجية اليوم لسينما روائية تخوض في الحرب الأفغانية وتستند في الغالب إلى قصص حقيقية منها، ففي العام الماضي وحده عرض فيلمان يستلهمان حوادث منها هما: «الناجي الوحيد» للأميركي بيتر بيرج، و «كاجاكي» للمخرج البريطاني بوول كيتس. فيما يُعرض اليوم في صالات عدد من الدول الأوروبية وبالإضافة لفيلم «جبهة واخان»، فيلم «حرب» للمخرج الدنماركي توبياس ليندهولم، الذي ينافس الشهر المقبل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي. حرية ما... ما يُميز باكورة المخرج الفرنسي (كان أحد أفلام برنامج أسبوع النقاد في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي)، هو تحررها من نقل وقائع حقيقية، ومُقاربتها الغرائبية وحريتها الأسلوبية وبحثها عن لغة سينمائية حديثة تؤطر النزاع المسلح وتُقلب خسائره. يتنقل المخرج في فيلمه من الواقعي إلى قصص الجريمة والتحريّ، ماراً على موضوع الغرائبيات والأساطير والماورائيات. هذا من دون أن يفقد الفيلم علاقته بالحرب الفعليّة التي يصورها، وثقلها النفسيّ المتواصل على شخصياته من الجنود الفرنسيين، والجمهور على حد سواء. كما يلجأ المخرج إلى الترميز، الذي يأتي متوائماً مع سعي الفيلم إلى البحث عن مدخل مُبتكر لتقديم مأزق جنوده الفرنسيين بعيداً عن التناول الواقعيّ القاتم الشائع، وربطه على نحو عضوي وروحاني بالبلد الذي حلوا فيه، بما يحمل هذا الأخير من شراسة وغموض. يبدأ فيلم «جبهة واخان» بمشهد أصبح شائعاً في أفلام حرب أفغانستان، سواء التسجيلية منها أو الروائية: جنود غربيون يحدقون في أفق تحصره جغرافيا جبلية صعبة. هذه المشاهد أصبحت بالعادة توطئة لأزمات وضيق قادمين، كما تكون الصور فيها مضللة، فالجنود الفرنسيون في الفيلم ليسوا هم أسياد الوادي الذي يحرسونه - كما يتبدى في تلك المشاهد- بل أقرب إلى سجنائه. بعد سلسلة من المشاهد الافتتاحية للحياة اليومية في الوحدة العسكرية الصغيرة تبدأ حوادث غريبة، إذ يختفي بالتتابع: كلب الوحدة، وجنديان كانا في نوبة حراسة، وجندي آخر اختفى هو الآخر من غرفته الصغيرة. ينشغل رفاق الجنود في البحث عن الجنود المخطوفين الثلاثة، ويقود هذا إلى تصادمات كاشفة بين الوحدة العسكرية وسكان القرية المجاورة، وأفراد من «الطالبان» على الطرف الآخر من الوادي، والذين يسعون بدورهم إلى السيطرة على القرية وإخضاع سكانها لنفوذهم. يُكثِف اختفاء الجنود الثلاثة من أزمات أفراد الوحدة العسكرية الصغيرة ويحرضهم لمواجهة أسباب وجودهم في البلد الغريب، ويدفعهم، وبالخصوص ضابط الوحدة، إلى مزيد من التأزم. يتحول الفيلم وهو يبحث في غموض الاختفاء الغريب إلى فيلم تحريّ مثير، لكنه لن يتوقف عن جَرّ تركة الحرب الأفغانية بأحزانها وتخبطها معه. كما يدخل في الغيبي والماورائي، فالقرية لها تقاليد أسطورية قديمة تتعلق بالحياة والموت، والوحدة العسكرية ربما «دَنَست» المكان المقدس لهذه التقاليد. لن تفلح كل جهود الوحدة في العثور على جنودها المخطوفين أو المختفين، فيما يتواصل تورط أفرادها في اضطرابات الحياة من حولهم، ككناية معبرة عن الحرب الغربية في أفغانستان بأكملها. بين الواقع والكابوس لا يكتفي المخرج بالتجريب الأسلوبي عبر الانتقالات العديدة المتمكنة في فيلمه بين الواقعي والكابوسي، هو يقدم تجريباً آخر يخص الصور المقدمة في فيلمه، فينتقل من المشاهد الواسعة الساكنة، إلى تلك المصورة عبر كاميرات محمولة، ليتقرب بهذا من الأفلام التسجيلية اللاهثة. كما يستعين الفيلم بمناظير حربية حقيقية ليصور عبر عدساتها، العالم الذي يراه الجندي في الظلام. هذه المشاهد لن تقرب فقط أجواء الفيلم من الواقع، بل ستأخذ وظيفة غير متوقعة بأسلبة بعض الوقائع، مضيفة مزيداً من الغموض على الهوة النفسية التي سقط فيها جنود الوحدة، والتباس العالم من حولهم، وبعدهم الشاسع عن تفسير شفراته أو إرضائه. يُبقي الفيلم على توازن رائع بين بنيته التجريبية وارتباطه بالحرب الفعليّة التي يعيد تصوير أجواءها. ويخوض بقلق وتحريض في محيط المتاعب من حوله. يختار المخرج ممثلين غير معروفين، سيتماهون مع الأدوار التي يقدمونها لجنود مهزومين منذ البداية. هو ليسوا ضحايا حرب عابرة فقط، بل يُظهر وجودهم المتهاوي على قمة ذلك الجبل نزاعات العالم المعاصر العسيرة على الحل. يركز الفيلم على قائد الوحدة الصغيرة، الذي سنشهد عبر الفيلم على انهياره النفسي البطيء. في الوقت الذي تبقى ألغاز الفيلم من دون إجابات، لكن يمكن قراءة الكابوس الغرائبي الذي مر على الجنود، بأنه شكل من أشكال الهروب من تقبل مقتل زملائهم، في حين كان تقوض عالمهم صدى للهزيمة المتعددة الطبقات للجميع في أفغانستان. يأتي فيلم «جبهة واخان» للفرنسي الشاب كليمان كوجيور، بعد عقد تقريباً على ظهور أول أفلام حرب أفغانستان. وهو العقد الذي شهد وفرة إنتاجية غير مسبوقة من الأفلام الغربية عن الحرب المتواصلة تلك وورطاتها. غلب على تلك الأفلام الاتجاه التوثيقي، وقارب عدد جنسيات مُخرجيها عدد الدول الغربية التي اشتركت في التحالف العسكري في الحرب على حركتي الطالبان والقاعدة الذي تشكل في عام 2001. وإذا كانت وتيرة إنتاج الأفلام التسجيلية عن تلك الحرب قد تراجعت في شكل لافت في العامين الآخرين، - لأسباب عدة، أهمها: أنها قالت كل ما يُمكن أن يقال، وأمعنت في نقل مأزق الغرب الذي تورط في حرب طويلة وشديدة القسوة انتهت إلى لا شيء -، إلا أن نهاية الحقبة التسجيلية لا يعني خاتمة علاقة السينما بالنزاع المُعقد والداميّ، إذ أن هناك حركة إنتاجية اليوم لسينما روائية تخوض في الحرب الأفغانية وتستند في الغالب إلى قصص حقيقية منها، ففي العام الماضي وحده عرض فيلمان يستلهمان حوادث منها هما: «الناجي الوحيد» للأميركي بيتر بيرج، و «كاجاكي» للمخرج البريطاني بوول كيتس. فيما يُعرض اليوم في صالات عدد من الدول الأوروبية وبالإضافة لفيلم «جبهة واخان»، فيلم «حرب» للمخرج الدنماركي توبياس ليندهولم، الذي ينافس الشهر المقبل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي. حرية ما... ما يُميز باكورة المخرج الفرنسي (كان أحد أفلام برنامج أسبوع النقاد في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي)، هو تحررها من نقل وقائع حقيقية، ومُقاربتها الغرائبية وحريتها الأسلوبية وبحثها عن لغة سينمائية حديثة تؤطر النزاع المسلح وتُقلب خسائره. يتنقل المخرج في فيلمه من الواقعي إلى قصص الجريمة والتحريّ، ماراً على موضوع الغرائبيات والأساطير والماورائيات. هذا من دون أن يفقد الفيلم علاقته بالحرب الفعليّة التي يصورها، وثقلها النفسيّ المتواصل على شخصياته من الجنود الفرنسيين، والجمهور على حد سواء. كما يلجأ المخرج إلى الترميز، الذي يأتي متوائماً مع سعي الفيلم إلى البحث عن مدخل مُبتكر لتقديم مأزق جنوده الفرنسيين بعيداً عن التناول الواقعيّ القاتم الشائع، وربطه على نحو عضوي وروحاني بالبلد الذي حلوا فيه، بما يحمل هذا الأخير من شراسة وغموض. يبدأ فيلم «جبهة واخان» بمشهد أصبح شائعاً في أفلام حرب أفغانستان، سواء التسجيلية منها أو الروائية: جنود غربيون يحدقون في أفق تحصره جغرافيا جبلية صعبة. هذه المشاهد أصبحت بالعادة توطئة لأزمات وضيق قادمين، كما تكون الصور فيها مضللة، فالجنود الفرنسيون في الفيلم ليسوا هم أسياد الوادي الذي يحرسونه - كما يتبدى في تلك المشاهد- بل أقرب إلى سجنائه. بعد سلسلة من المشاهد الافتتاحية للحياة اليومية في الوحدة العسكرية الصغيرة تبدأ حوادث غريبة، إذ يختفي بالتتابع: كلب الوحدة، وجنديان كانا في نوبة حراسة، وجندي آخر اختفى هو الآخر من غرفته الصغيرة. ينشغل رفاق الجنود في البحث عن الجنود المخطوفين الثلاثة، ويقود هذا إلى تصادمات كاشفة بين الوحدة العسكرية وسكان القرية المجاورة، وأفراد من «الطالبان» على الطرف الآخر من الوادي، والذين يسعون بدورهم إلى السيطرة على القرية وإخضاع سكانها لنفوذهم. يُكثِف اختفاء الجنود الثلاثة من أزمات أفراد الوحدة العسكرية الصغيرة ويحرضهم لمواجهة أسباب وجودهم في البلد الغريب، ويدفعهم، وبالخصوص ضابط الوحدة، إلى مزيد من التأزم. يتحول الفيلم وهو يبحث في غموض الاختفاء الغريب إلى فيلم تحريّ مثير، لكنه لن يتوقف عن جَرّ تركة الحرب الأفغانية بأحزانها وتخبطها معه. كما يدخل في الغيبي والماورائي، فالقرية لها تقاليد أسطورية قديمة تتعلق بالحياة والموت، والوحدة العسكرية ربما «دَنَست» المكان المقدس لهذه التقاليد. لن تفلح كل جهود الوحدة في العثور على جنودها المخطوفين أو المختفين، فيما يتواصل تورط أفرادها في اضطرابات الحياة من حولهم، ككناية معبرة عن الحرب الغربية في أفغانستان بأكملها. بين الواقع والكابوس لا يكتفي المخرج بالتجريب الأسلوبي عبر الانتقالات العديدة المتمكنة في فيلمه بين الواقعي والكابوسي، هو يقدم تجريباً آخر يخص الصور المقدمة في فيلمه، فينتقل من المشاهد الواسعة الساكنة، إلى تلك المصورة عبر كاميرات محمولة، ليتقرب بهذا من الأفلام التسجيلية اللاهثة. كما يستعين الفيلم بمناظير حربية حقيقية ليصور عبر عدساتها، العالم الذي يراه الجندي في الظلام. هذه المشاهد لن تقرب فقط أجواء الفيلم من الواقع، بل ستأخذ وظيفة غير متوقعة بأسلبة بعض الوقائع، مضيفة مزيداً من الغموض على الهوة النفسية التي سقط فيها جنود الوحدة، والتباس العالم من حولهم، وبعدهم الشاسع عن تفسير شفراته أو إرضائه. يُبقي الفيلم على توازن رائع بين بنيته التجريبية وارتباطه بالحرب الفعليّة التي يعيد تصوير أجواءها. ويخوض بقلق وتحريض في محيط المتاعب من حوله. يختار المخرج ممثلين غير معروفين، سيتماهون مع الأدوار التي يقدمونها لجنود مهزومين منذ البداية. هو ليسوا ضحايا حرب عابرة فقط، بل يُظهر وجودهم المتهاوي على قمة ذلك الجبل نزاعات العالم المعاصر العسيرة على الحل. يركز الفيلم على قائد الوحدة الصغيرة، الذي سنشهد عبر الفيلم على انهياره النفسي البطيء. في الوقت الذي تبقى ألغاز الفيلم من دون إجابات، لكن يمكن قراءة الكابوس الغرائبي الذي مر على الجنود، بأنه شكل من أشكال الهروب من تقبل مقتل زملائهم، في حين كان تقوض عالمهم صدى للهزيمة المتعددة الطبقات للجميع في أفغانستان.