وزير الري المصري، د. محمد نصر الدين علام، قال: "إن مصر وجهت دعوة لجميع دول الحوض، لإعادة النظر فيما اتخذ من مواقف انفرادية، والعودة إلي مائدة الحوار؛ للوصول إلي حلول ترضي جميع الأطراف، والاستغلال الأمثل لمياه نهر النيل، الذي يمثل المصدر الوحيد والأساسي للمياه في مصر، بينما لا يزيد علي 3 إلي 5% من مصادر المياه في دول المنبع". وأشار إلي الدعوة التي وجهتها مصر لدول الحوض، لإعادة النظر في المبادرة الرئاسية المصرية - السودانية التي تتيح إنشاء "مفوضية عليا" بإعلان رئاسي، تعمل علي جذب رءوس الأموال والمعونات والمنح لإنشاء مشروعات تنموية في جميع دول الحوض. وكان د. مفيد شهاب، وزير الشؤون القانونية والمجالس النيابية، قد قال إن: "أمن مصر المائي وحقوقها التاريخية في مياه النيل مسألة حياة أو موت لا يمكن التفريط فيها".. ومناسبة هذا الكلام كانت فشل مفاوضات دول حوض النيل، في التوصل إلي اتفاق جامع بينها.. خلال الاجتماع الذي عقد في شرم الشيخ مؤخرا. (2) لم تعرف البشرية، نهراً اقترن اسمه بالتاريخ مثلما هو نهر النيل الذي حظي بالتقديس في سائر الأزمان الغابرة باعتباره "واهب الحياة لمصر". لقد ألهب خيال الإنسان أكثر مما فعل أي نهر آخر في العالم، وطوال قرون ظل النيل يتحدي جرأة المغامرين في بحثهم عن منابعه، لا أحد يعرف أول من بدأ البحث. فأقدم المدونات التاريخية عن هذا الموضوع تقول إن باحثاً إغريقياً طموحاً، أبحر من مسقط رأسه هالكارناسوس علي الساحل التركي، وجاب كل الحضارات حول المتوسط، هو أول من خرج في مثل هذه المغامرة. هذا الإغريقي هو هيرودوت الذي تبع النهر حتي المصب الأول ليري ما يستطيع "رؤيته بعينيه". ووصف في كتاباته ما شاهده من معابد ومدافن فرعونية خلال أسفاره.. وتشير الوثائق اللاحقة إلي أن الإمبراطور الروماني نيرون أرسل حملة لاستكشاف منابع النيل، غير أنها تخلت عن مهمتها هذه في منتصفها دون أن تعثر علي منبع النهر. كما أوقف العرب - الذين أتوا لاحقاً - بحثهم عن منابعه عند المستنقعات الشاسعة جنوب السودان وسموا تلك الأراضي بالحاجز. لقد انتظر الإنسان حتي قرابة قرن مضي، ليعاود استكشاف نهر النيل وراء تلك المستنقعات، ومن أشهر الذين خرجوا لاستكشاف إفريقيا والبحث عن منابع النيل، نذكر ديفيد ليفنجستون وجون هاننج سبيك وريتشارد فرانسيس بورتون وصامويل بيكر وهنري مورتن ستانلي. غير أن الأمر احتاج حتي عام 1937 قبل أن يتمكن مستكشف مغمور - هو الألماني بيركهارت والديكر - من تتبع النيل حتي أبعد منابعه جنوباً، وهو نبع ماء صغير ينساب من قمة جبلية منفردة في بوروندي. كان ذلك النبع هو مكان الولادة المتواضع لنهر النيل العظيم. كما ثبت من النقوش الأثرية أن القدماء المصريين كانت لهم علاقات تجارية مع سكان الأقاليم الواقعة علي ساحل البحر. (3) لقد نال نهر النيل عناية عظيمة من حكام مصر باعتباره شريان الحياة الإنسانية في مصر.. وقد بذل هؤلاء الحكام علي مر العصور، جهوداً لضمان العدالة عن طريق قياس مستوي الماء في النيل فيما يخص جمع خراج الأراضي الزراعية، فالأراضي التي يغمرها النيل بالفيضان تختلف عن تلك التي يصعب ريها.. ونشأت علي ضفافه الحضارة المصرية.. وازدهرت علوم وثقافات ومهن لم يكن القدماء يعرفونها. وهو ما يشير إلي أن القدماء المصريين - بحضارتهم الفرعونية - قد تركوا بصماتهم وتأثيراتهم في العديد من الدول الواقعة علي نهر النيل، وغيرها من الدول الأفريقية جنوب الصحراء.. ويؤكد هذا الافتراض، ترجيح بعض علماء الآثار أن بعض الآثار التي عُثر عليها في زيمبابوي ترجع إلي تأثيرات فرعونية. كما يشغل حوض النيل في بعض الدول كجمهورية الكونغو الديمقراطية 0.7%، وبوروندي 0.4% أي ما يساوي نصف مساحتها الإجمالية، ورواندا 0.7% أي ما يساوي 75% من مساحتها الإجمالية، وتنزانيا 2.7%، وكينيا 1.5%، والكونغو 0.7%، وأوغندا 7.4%، وإثيوبيا 11.7%، وإريتريا 0.8%، والسودان 63.6%، ومصر 10%. وتؤكد دراسات واحصائيات مائية أن معظم الدول المتشاطئة في الحوض - ما عدا السودان ومصر- تملك حاجتها من المياه وزيادة لكثرة البحيرات العذبة والأنهار ولكثرة هطول الأمطار فيها، بينما يعتمد السودان بنسبة 77% ومصر بنسبة 97% علي مياه النيل. (4) ومن الملاحظ في اتفاقية روما الموقعة في 15 أبريل 1891 بين كل من بريطانيا وإيطاليا التي كانت تحتل إريتريا، واتفاقية أديس أبابا الموقعة يوم 15 مايو 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا، واتفاقية لندن الموقعة يوم 13 ديسمبر 1906 بين كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، واتفاقية روما عام 1925، كانت كلها تنص علي عدم المساس بحقوق مصر التاريخية في مياه نهر النيل، وعدم إقامة مشاريع بتلك الدول من شأنها إحداث خلل في مياه النيل أو التقليل من كمية المياه التي تجري في الأراضي المصرية. ولم يكن السبب الحب الخاص الذي كانت تكنه تلك الدول لمصر، وإنما كان كبح جماح أطماع الدول الاستعمارية مقابل بعضها البعض، حتي لا تندثر مصر وتذهب ضحية تحت وطأة غطرستها الاستعمارية، لا سيما والنيل كان وما زال عماد وجودها. وقد جاءت اتفاقية عام 1929 بين مصر وبريطانيا - التي كانت تنوب عن السودان وأوغندا وتنزانيا - داعمة لجميع الاتفاقيات السابقة، فقد نصت علي ألا تقام بغير اتفاق مسبق مع الحكومة المصرية أية أعمال ري أو كهرومائية أو أية إجراءات أخري علي النيل وفروعه أو علي البحيرات التي ينبع منها، سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية، التي من شأنها إنقاص مقدار المياه التي تصل مصر أو تعديل تاريخ وصوله، أو تخفيض منسوبه علي أي وجه يلحق ضررا بالمصالح المصرية، كما تنص علي حق مصر الطبيعي والتاريخي في مياه النيل. وقد حددت لأول مرة اتفاقية نوفمبر 1959 بين مصر والسودان كمية المياه ب55.5 مليار متر مكعب سنويا لمصر و18.5 مليارا للسودان. إلا أن هناك أصابع خفية أخذت تتوغل في الدول الافريقية، وكان من أهدافها تأليب دول الحوض علي مصر لأسباب عديدة، منها: إضعافها وإخراجها من الطوق العربي، كما تعمل الآن علي تغذية الحرب الأهلية القائمة في دارفور، وتغذي أفكار انفصال الجنوب السوداني عن الدولة السودانية، وقد أخذت بعض الدول بالانقلاب علي الاتفاقيات والمطالبة بالمحاصة المتساوية في مياه النيل، ومطالبة مصر والسودان بدفع أثمان المياه القادمة من بحيرة فيكتوريا حيث ينبع نهر النيل، وهذا طبعا مخالف لكل القوانين والأعراف الدولية من أيام حمورابي قبل أربعة آلاف عام حتي اليوم، وبدلا من الجلوس علي طاولة المفاوضات لتنمية المشاريع المشتركة وإنجاحها، أخذت تحاك الفتن والدسائس. (5) لقد حذرت تقارير دولية عديدة عبر الأعوام الماضية من حروب المياه في المستقبل، ونهر النيل مرشح لنزاعات محتملة، ما لم تتم معالجة المشاكل عبر توفير مزيد من المياه (المستنقعات والسدود العشبية تؤدي لتبخر وتسرب كميات هائلة من المياه)، ومن خلال المشاريع المشتركة والتعاون في مجالات الطاقة والأمن الغذائي. حيث إنه في حقب سابقة من القرن الماضي شكلت أفريقيا عمقا حقيقيا للعالم العربي، وكان التعاون يأخذ أشكالا عدة، إلي درجة أن معظم الدول الأفريقية قاطعت إسرائيل تضامنا مع العرب. لكن العالم العربي نالت منه خلافاته، وأهمل الاهتمام بأفريقيا، مما جعل الكثير من دول القارة تعيد ترتيب أولوياتها، وفقا لمصالحها، فأعاد الكثير منها علاقاته بإسرائيل التي نشطت لاختراق القارة السمراء بالسياسة والمال والسلاح والمشاريع المشتركة وإنشاء السدود علي النيل. الأزمة خطيرة، وتتجه إلي مزيد من التعقيد والتصعيد، فدول المنبع تتكتل منذ فترة مطالبة بتعديل الاتفاقيات السابقة المنظمة لتقسيم المياه بين دول حوض النيل، علي أساس أن هذه الاتفاقيات وقعت في عهود الاستعمار، وهذه الدول لم تكن تملك قرارها ؛ وبالتالي فإنها غير ملزمة بهذه الاتفاقيات، وأن الظروف تغيرت وزادت الحاجة للمياه، وبالتالي فإن هناك ضرورة لتقسيم مياه النيل بالتساوي؛ علي جانب مقابل تؤيد مصر والسودان الالتزام بالحقوق التاريخية، ويقترحان إنشاء مفوضية لدول حوض النيل العشر (دول المنبع السبع ودولتا المصب إضافة إلي إريتريا العضو المراقب في منظمة دول حوض النيل).