بعد مضي ما يزيد عام عن ثورة 25 يناير ، بدأت ملامح تجارب فنية جديدة بالتبلور والظهور، لتعبر عن وقائع أيام الثورة وما تلاها من وجهة نظر الابداع، ورؤيته الخاصة للأحداث. ولعل أبرز ما يميز هذه التجارب أنها تحاول الاقتراب من الناس، بل والنزول إليهم، لم يعد الفن معزولا في عالمه المغلق، بل صار جزءاً من الشارع يحتل الميادين والساحات العامة، حاملا قدرات جديدة على ايصال الفن للبسطاء والعامة من الناس، الذين سيعبرون الميادين ويقفون للنظر والتساؤل عما يشاهدونه، وهذا بحد ذاته يعتبر وسيلة غير مباشرة للتفاعل الفكري بين الفنان ورجل الشارع. من هنا جاءت تجربة فنية مغايرة قام بها الفنان التشكيلي طه قرني، حملت عنوان " جدارية الثورة"، أقيمت في ميدان العباسية بالقاهرة، وفي ميدان التحرير، وسوف يقام العرض الثالث في دار الأوبرا ويستمر العرض لمدة عشرة أيام . وتتكون " جدارية الثورة" من 16 لوحة بامتداد 44م زيت على أبلكاش، مساحة اللوحة الواحدة 2.45م × 1.45م فهي متصلة من حيث الموضوع ومنفصلة من حيث أهم الأحداث التي غيرت مجرى الثورة وآخر لوحة تم رسمها كانت لوحة الإنتخابات ووضع الدستور. نجد في الجدارية لوحة تذكرنا " بواقعة الجمل"، أحصنة، وجمال، وخيول تركض في الميدان تدوس الثوار وتلقي بهم جرحى ومصابين على الأرض. في لوحة أخرى يرفرف علم مصر، وبجانبه رجال فلاحين، ونساء بالجلابيات الملونة، وطرحات الرأس، وكأن طه قرني عمل على نقل الواقع المصري في أيام الثورة، واقع الأحداث كما شاهدها، بكل ما فيها من آلام، وموت، وعذابات. وزير الثقافة محمد صابر عرب وصع هذه التجربة بأنها " تُمثل حالة فنية راقية توثق لنا أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير وأدق اللحظات التي تعرضت لها، كما أنها ترصد بعين الفنان أهم المحطات التي مررنا بها منذ الثورة وحتى وقتنا الحالي، مضيفاً أن نجاح هذه التجربة بهذا الشكل يحفزنا على تكرارها في معظم الميادين المصرية حيث سيتم الترتيب لآن يجول هذا العمل المتميز عددً من المحافظات خلال الفترة القادمة. في حين اعتبر رئيس قطاع الفنون التشكيلية بوزراة الثقافة د. صلاح المليجي بأن تجربة الفنان طه قرني : "عطاء وثراء في المشاهد والرؤى ورقي في أفكاره الفنية التي دائماً لا تستعصي على قدرته وملكته الإبداعية سواء شخوصاً ورموزاً أو تفاصيل لتخرج لنا في النهاية في قالب تصويري شديد الخصوصية، إننا أمام صورة درامية حية تُجسد لنا حالة فريدة لشخصية وطنية مولعة بكل ما هو مُنتم لتراب هذا البلد العظيم لنرتقي معها بصرياً ووجدانياً وفنيا". طه قرني صاحب تلك التجربة وصف تجربته بالقول : " أنه وبرغم كل التحذيرات من مخاطرة عرض جدارية الثورة وسط تجمعات كبيرة وخصوصاً في موقع الأحداث كميدان التحرير أو العباسية أو غيرها في محافظات مصر نظراً للظروف الراهنة، قررت ان أعرض جدارية الثورة التي رسمتها من لحم ودم الثورة ضارباً بكل التخويفات عرض الحائط وداعياً لجميع التيارات والأطياف السياسية لحضور الإفتتاح في محفل شعبي ثقافي يحترم كل الثقافات ويأخذ طريقه إلى الشارع المصري ليفك لغز غياب جمهور المترجلين من عامة الشعب الذي من بينهم العامل والفلاح والموظف والمثقف والأمي، وقد قررت أن أبدأ بميدان العباسية لمحو الدماء التي سالت على أرضه ثم ينتقل العرض إلى ميدان التحرير وبعدها إلى الأوبرا." ولعله بعيدا عن وجهات النظر الرسمية بكل ما فيها من ثناء، فإن " جدارية الثورة" عمل فني يستحق التوقف أمامه، وتأمل هذه التجربة التي يمكن اعتبارها مسارا جديدا في الفن التشكيلي المصري، يقدم رسالة للبسطاء والعامة من المصريين، ورسالة أخرى عامة مفادها أن مصر قادرة على توليد ابداع جديد ينطوي على مفاجآت غير متوقعه.