وزير التجارة والصناعة يبحث الآليات التنفيذية لتطوير منطقة شق الثعبان    الجريدة الرسمية تنشر قرار إنشاء ميناء سياحي دولي بمدينة رأس الحكمة    مدافع دروتموند: نؤمن بإمكانية الفوز بنهائي دوري الأبطال    ندوة تثقيفية بآداب الوادي الجديد عن الذكاء الاصطناعي والمهن المستقبلية    الرابع في تاريخ النادي.. بالمر يحصل على جائزتين لأفضل لاعب في الموسم بتشيلسي    ضبط عنصر إجرامي بحوزته مخدر الحشيش وأقراص مخدرة ب 1.7 مليون جنيه    رئيس جامعة القاهرة ينعى الدكتور إبراهيم درويش أستاذ العلوم السياسية    طلاب الصف الأول الإعدادي بالجيزة: امتحان اللغة العربية سهل (فيديو)    اليوم، الحركة المدنية تناقش مخاوف تدشين اتحاد القبائل العربية    تراجع البصل والملوخية بسوق العبور اليوم الأربعاء    الأسهم الأوروبية ترتفع لأعلى مستوياتها في أكثر من شهر مدعومة بقطاع الأغذية    بنك مصر يحصد 5 جوائز من مجلة ذا يوربيان البريطانية لعام 2024    وزيرة البيئة تستعرض دور الهيدروجين الأخضر في التنمية المستدامة    لجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية: نرفض الوصاية على الجانب الفلسطيني من معبر رفح    الطيران الحربي الإسرائيلي يشن 18 غارة على بلدات جنوب لبنان    روسيا تستأنف هجماتها على محطات وشبكات الطاقة بأوكرانيا    مجلس النواب يوافق على تشكيل المجلس القومي للطفولة والأمومة    النواب يستكمل مناقشه تقرير لجنة الخطة والموازنة    "المدرج نضف".. ميدو يكشف كواليس عودة الجماهير ويوجه رسالة نارية    بدء تنفيذ أعمال مبادرة "شجرها" بسكن مصر في العبور الجديدة    "أخوه ضربني".. مسجل خطر يقتل ميكانيكي في المنوفية    حبس ربة منزل عام لاتهامها بقتل نجلة شقيق زوجها في مشاجرة بينهما بالقليوبية    خلاف على الجيرة.. إصابة 3 أشخاص في مشاجرة بين عائلتين بالفيوم    ضبط قضايا اتجار في العملة ب12 مليون جنيه    فيلم السرب يكتسح دور العرض المصرية بإيرادات ضخمة في 7 أيام (بالأرقام)    ياسمين عبد العزيز: «بنتي سندريلا وبترجع البيت الساعة 12»    مهرجان المسرح العالمي يحمل اسم الفنان أشرف عبد الغفور في دورته الثالثة    عبير فؤاد تحذر مواليد 5 أبراج.. ماذا سيحدث لهم في شهر مايو؟    في ذكرى وفاة فارس السينما المصرية.. الأدوار البارزة في حياة أحمد مظهر    فرقة قصر ثقافة طنطا تفتح بوابة سحرية ل"تمارة" بطنطا    علي جمعة: الرضا والتسليم يدخل القلب على 3 مراحل    «أسترازينيكا» تسحب لقاحها ضد كورونا.. ما علاقة رئيسة المفوضية الأوروبية واتهامها بالفساد؟    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    "لابد من وقفة".. متحدث الزمالك يكشف مفاجأة كارثية بشأن إيقاف القيد    زعيم كوريا الشمالية يرسل رسالة تهنئة إلى بوتين    مرصد الأزهر :السوشيال ميديا سلاح الدواعش والتنظيمات المتطرفة    صحة مطروح تطلق قافلة طبية مجانية بمنطقة وادى ماجد غرب مطروح اليوم    «القاهرة الإخبارية»: إصابة شخصين في غارة إسرائيلية غرب رفح الفلسطينية    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    "لم يسبق التعامل بها".. بيان من نادي الكرخ بشأن عقوبة صالح جمعة    تقرير: مشرعون أمريكيون يعدون مشروع قانون لمعاقبة مسئولي المحكمة الجنائية الدولية    "تجميد اتفاقية السلام مع إسرائيل".. بين العدوان المباشر والتهديد الغير مباشر    مواد البناء: أكثر من 20 ألف جنيه تراجعًا بأسعار الحديد و200 جنيه للأسمنت    «قلت لها متفقناش على كده».. حسن الرداد يكشف الارتباط بين مشهد وفاة «أم محارب» ووالدته (فيديو)    اليوم العالمي للمتاحف، قطاع الفنون التشكيلة يعلن فتح أبواب متاحفه بالمجان    البورصة المصرية تستهل بارتفاع رأس المال السوقي 20 مليار جنيه    «الإفتاء» توضح الأعمال المستحبة في «ذي القعدة».. وفضل الأشهر الأحرم (فيديو)    بايدن: لا مكان لمعاداة السامية في الجامعات الأمريكية    إخماد حريق في شقة وسط الإسكندرية دون إصابات| صور    نتائج التحقيقات الأولية فى مقتل رجل أعمال كندى بالإسكندرية، وقرارات عاجلة من النيابة    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    تتخلص من ابنها في نهر مليء بالتماسيح.. اعرف التفاصيل    "المحظورات في الحج".. دليل لحجاج بيت الله الحرام في موسم الحج 2024    الصحة: تقديم الخدمات الطبية لأكثر من 900 ألف مواطن بمستشفيات الأمراض الصدرية    حكم حج للحامل والمرضع.. الإفتاء تجيب    "كفارة اليمين الغموس".. بين الكبيرة والتوبة الصادقة    «إنت مبقتش حاجة كبيرة».. رسالة نارية من مجدي طلبة ل محمد عبد المنعم    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجيب محفوظ في ليالي سان ستيفانو
نشر في صوت البلد يوم 12 - 05 - 2012

«الإسكندرية أخيراً.. الأسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء ، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع»... هكذا وصف نجيب محفوظ الإسكندرية على لسان عامر وجدي الصحفي والوفدي القديم، ابن ثورة 1919، في مستهل رواية «ميرامار» بعد غياب عامر وجدي عن المدينة لأكثر من عشرين عاماً. كانت هذه هي الدفقة الشعرية التلقائية والعفوية التي افتتح بها نجيب محفوظ الرواية، غامراً المدينة بهذا الإحساس العميق وهذه المشاعر المتدفقة، والتي قال عنها بعد ذلك في أمثولة شعرية أخرى: «يعجبني جو الإسكندرية، لا في صفائه وإشعاعاته الذهبية الدافئة، ولكن في غضبته الموسمية، عندما تتراكم السحب، وتنعقد جبال الغيوم، ويكتسي لون الصباح المشرق بدكنة المغيب، ويمتلئ رواق السماء بلحظة صمت مريب، ثم تتهادى دفقة هواء فتجوب الفراغ كنذير أو كنحنحة خطيب؛ عند ذلك يتمايل غصن أو ينحسر ذيل، وتتابع الدفقات، ثم تنقض الرياح ثملة بالجنون، ويدوي عزيفها في الآفاق، ويجلجل الهدير ويعلو الزبد حتى حافة الطريق، ويجعجع الرعد حاملاً نشوات فائرة من عالم مجهول، وتندلع شرارة البرق فتخطف الأبصار، وتكهرب القلوب، وينهال المطر في هوس، فيضم الأرض والسماء في عناق ندي. عند ذلك تختلط عناصر الكون وتموج وتتلاطم أخلاطها، كأنما يعاد الخلق من جديد؛ عند ذاك فقط يحلو الصفاء ويطيب، إذا انقشعت الظلمات، وأسفرت المدينة عن وجه مغسول، وخضرة يانعة، وطرقات متألقة، ونسائم نقية، وشعاع دافئ، وصحوة ناعمة.
«شعاع حدثني أن تلك الدراما إنما تحكي أسطورة مطمورة في قلبي، وتخط طريقاً ما زال غامض الهدف، أو تضرب موعداً في غمغمة لم تفهم بعد» ( تذييل كتاب نجيب محفوظ في ليالي سان ستيفانو). بهذه الدفقة الشاعرية الشتوية الثانية التي اختطتها مشاعر وأحاسيس وقلم نجيب محفوظ نحو الإسكندرية إضافة إلى الدفقة الشتوية الأولى التي استهل بها ميرامار، أصبحت الإسكندرية هي الاستثناء الوحيد بعد القاهرة بالنسبة لكاتبنا الكبير، يسافر إليها في فصل الصيف، ويقيم فيها، ويتفاعل مع مبدعيها ويستمتع بجوها وبحرها وهوائها ودفء مشاعرها، كانت هذه الشاعرية المتدفقة لها من أحاسيسه هي الأخرى الاستثناء الوحيد أيضاً من فورة السرد والقص والحكي في إبداعه الروائي، وقد منحها نجيب محفوظ للإسكندرية عن حب وولع وشغف بحيث جاءت طيفاً متميزاً ظهر في (ميرامار والطريق والسمان والخريف)، كما كانت أحاديثه عنها قصائد لها بوحها الخاص وصوغها المعبر عن حبه وولعه بها، كما كانت ضحكاته وقفشاته في أرجائها لا زال صداها يتردد حتى الآن في نفس الأماكن التي كان يوجد فيها على أرض الإسكندرية، في كازينو «الشانزليزيه»، في مقهي «بترو» أيام مشاركته في ندوة «توفيق الحكيم»، ثم في كازينو «سان ستيفانو» حين كانت تعقد ندوته الصيفية الأسبوعية على شط الإسكندرية. وتعود علاقة نجيب محفوظ بالمدينة إلى عام 1920 حين كان عمره لم يتجاوز التاسعة، وكانت الإسكندرية في ذلك الوقت مدينة «كوزموبوليتانية» بالمعنى المعروف يسكنها الأجانب والشوام، بجانب أهلها الذين كانوا خليطاً يضم العديد من طوائف المصريين وأطيافها المتجمعين من كل أنحاء مصر. وفي ذلك يقول نجيب محفوظ عن ذكرياته القديمة مع الإسكندرية: «علاقتي بالإسكندرية تعود إلى عام 1920، حيث اصطحبني والدي لقضاء إجازة الصيف في ضيافة صديق حميم له اسمه «محمد بك عمرو»، وهو من عائلة «عمرو» المعروفة والتي منها الآن السفير عبد الفتاح عمرو صديق الملك فاروق، وسفيرنا في لندن على أيامه. وكان «محمد بك عمرو» من الأعيان، وله سرايا كبيرة في سان استيفانو، وفي حديقة «السرايا» يوجد بيت صيفي صغير أقمنا فيه طوال فترة الإجازة، في حين سافر «محمد بك»، إلى أوروبا، حيث اعتاد قضاء الصيف مع أسرته. وكانت تلك هي المرة الأولى التي أشاهد فيها الإسكندرية.
وكان مكان إقامتنا قريباً من كازينو وحمام «سان ستيفانو»، ورسم دخول الكازينو والحمام «قرشان صاغ». وبالحمام قسمان، الأول: للرجال، والثاني: للسيدات. ونظراً لصغر سني كانوا يسمحون لي بدخول حمام السيدات. وكانت نساء الطبقة الراقية يرتدين «المايوه» ويضعن قبعات على رؤوسهن. لم يكن في الإسكندرية الكورنيش الموجود حالياً، وكانت الحمامات في منطقتين فقط: «سان استيفانو»، و«الأنفوشي»، وبعد ذلك تم إنشاء الكورنيش المعروف سنة 1930 في عهد حكومة إسماعيل صدقي باشا. كانت الإسكندرية هادئة، وكان الأثرياء يذهبون لقضاء الصيف في أوروبا، في حين كانت الطبقات الشعبية تفضل قضاء الصيف في روض الفرج حيث تتمركز الفرق المسرحية، أما شواطئ رأس البر فكانت خاصة بأهل دمياط.
بعد الزيارة الأولى انقطعت عن الإسكندرية لسنوات حتى عدت إليها في الثلاثينيات تقريباً، بعد حصولي على شهادة «البكالوريا». وكان لي صديق تعيش أسرته في قرية قريبة من الإسكندرية، فعرضت عليه أن نذهب لقضاء الصيف هناك، فوافق. وأبلغت والدي الذي أسعده تفوقي في الشهادة، فرحب، ومنحني عشرة جنيهات كاملة، رغم معارضة أمي وثورة عمي الذي قال لوالدي: أنت سوف تفسد الولد.. تعطيه عشرة جنيهات مرة واحدة. كانت الجنيهات العشرة في ذلك الوقت مبلغاً محترماً، حيث كان مرتب الموظف الحاصل على البكالوريا لا يزيد على ستة جنيهات.
أخذت منحة أبي وذهبت مع صديقي «إبراهيم فهمي دعبس» إلى الإسكندرية وأمضينا ثلاثين يوماً في الأكل والشرب والسهر اليومي، وأحياناً كنا نذهب إلى «الكباريهات» وتوابعها التي كانت أرخص من من «كباريهات القاهرة» وتوابعها، كان ذلك من عبث الشباب.
بعد ذلك اعتدت أن أمضي شهراً من كل عام في الإسكندرية، وكنا ننزل في «بنسيون» في شارع السلطان حسين، ومن هناك نستقل الترام حتى نصل إلى الكورنيش. وعندما بدأ صدقي باشا في تنفيذ مشروع الكورنيش الحالي، تعرض لهجوم شديد في الصحف واتهامات بالرشوة وتشكيك في ذمته المالية، على الرغم من أهمية الكورنيش الذي أضاف للإسكندرية بعداً جمالياً آخر. وعندما تخرجت في الجامعة وعملت في وزارة الأوقاف، كنت أحرص على ادخار جنيه واحد كل شهر إلى أن يأتي الصيف فأجد بحوزتي ميزانية مناسبة للسفر وقضاء شهر بالإسكندرية. واستمرت هذه العادة السنوية حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية. فأصبحت الإسكندرية منطقة خطيرة، وهاجر منها بعض أهلها بعد أن تعرضت للقصف الألماني، وانقطعت عن عادتي السنوية حتى انتهت الحرب عام 1945، وعدت من جديد. وحتى عندما أصابني مرض الحساسية ونصحني الأطباء بعدم النزول إلى البحر والابتعاد عن جو الإسكندرية المشبع بالرطوبة، والذهاب إلى منطقة صحراوية حيث الهواء الجاف، لم أعمل بالنصيحة، وكنت أذهب إلى الإسكندرية، وتتورم عيناي ولا أتنازل عن شهر الصيف، بل ازددت تعلقاً بها بعد أن تزوجت من الإسكندرية. ورغم حبي للإسكندرية فإن تأثيرها لم يظهر في رواياتي الأولى. ولذلك أسباب موضوعية. فلم يكن من المعقول أن يأتي ذكرها في «الثلاثية» لأن أجواء الإسكندرية لا تتفق مع شخصية «السيد أحمد عبد الجواد» الحادة الصارمة، المنعزلة عن أسرتها، فلم يكن من المقبول أن يصحب أسرته أو أحد أبنائه إلى الإسكندرية مثلاً. في حين ظهرت الإسكندرية بشكل واضح في رواية «السمان والخريف»، وفي رواية «ميرامار»، وكانت الروايتان بمثابة الملجأ والمفر من المشاكل التي يتعرض لها الأبطال خاصة عامر وجدي الصحفي العجوز في «ميرامار».
عاشت الإسكندرية في وجدان نجيب محفوظ دائماً، يتردد عليها في صيف كل عام، يعيش هذه الأيام الصيفية الجميلة، كانت بمثابة دفقة الهواء العذبة في حياته، لذا فقد حضرت الإسكندرية خالصة في «ميرامار»، التي قال عنها إنه استوحى هذا النص من خادمة رآها عند أحد أصدقائه بالإسكندرية قبل عشر سنوات على كتابة هذه الرواية فأوحت له بهذه الشخصية وهذه الرواية المتميزة، كذلك كتب نجيب محفوظ «السمان والخريف»، و«الطريق»، مستخدماً الإسكندرية كمكان له دلالاته الخاصة في هذين النصين، كما استلهم أيضاً رواية «اللص والكلاب» من أحداث حدثت في الإسكندرية. لذا كانت الإسكندرية عند نجيب محفوظ هي الاستثناء الوحيد في عالمه الإبداعي بعد القاهرة، كان يزورها بين الحين والحين في كل صيف يقضي فيه سحابة من الوقت يستمتع فيها بالبحر والسكون والهدوء والجلوس مع مبدعي وأدباء ومفكري الإسكندرية.
ولعل اللقاءات والحوارات التي أجريت مع عالم نجيب محفوظ ربما تخطت كمّاً هائلاً من اللقاءات والحوارات، فما أجري في معه من لقاءات وحوارات في اعتقادي ربما يفوق ما أجري مع باقي المبدعين في مصر كلها، وقد جمعت معظم هذه اللقاءات في العديد من الكتب أبرزها: «أتحدث اليكم.. مجموعة أحاديث وحوارات مع نجيب محفوظ» جمعها د. صبري حافظ، وكتاب رجاء النقاش «نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» وهي مجموعة من اللقاءات والحوارات التي تمت مع كاتبنا الكبير، وكتاب «هكذا تكلم نجيب محفوظ» لعبد العال الحمامصي، وكتاب «المجالس المحفوظية» وهو الكتاب الذي أعده جمال الغيطاني وسبق أن نشر فصولاً منه في مجلة «المسيرة» البيروتية، واستكمالاً لهذا الطرح من اللقاءات والحوارات فقد كان للإسكندرية نصيب كبير من ذلك الطرح ظهر في كتاب «نجيب محفوظ في ليالي سان ستيفانو»، للروائي السكندري محمد الجمل الذي كان يحضر معظم لقاءات نجيب محفوظ في الإسكندرية منذ ندوة توفيق الحكيم التي كانت تعقد في كازينو الشانزليزيه ومقهي بترو وحتى انتقالها إلى كازينو «سان ستيفانو» بعد رحيل توفيق الحكيم في صيف 1987، وكتاب «نجيب محفوظ في ليالي سان ستيفانو» عبارة عن حوار طويل استغرق ساعات من وقت الأستاذ في الإسكندرية أثناء حضوره في ندوته الأسبوعية في كازينو «سان ستيفانو»، أجاب فيه نجيب محفوظ على العديد من تساؤلات الكاتب في شتى القضايا والموضوعات الذاتية والثقافية والاقتصادية والسياسية والمرتبطة بإبداعه وإبداع مجايليه من الأدباء، وقد قسمها الكاتب إلى عدة أقسام لتصبح شهادة تاريخية موثقة، ترصد أبعاد تجربة أدبية عالمية من منظور محلي، يجمع فيها بين ما هو جزئي وما هو كلي، ما هو نسبي وما هو إنساني عام، ما هو واقعي وما هو فوق الواقعي، ما هو معقول وما هو غير معقول، ما هو تاريخي وما يتعلق بالحياة اليومية، ما يجمع بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، ما هو معلوم وما هو غيبي، ما يجمع بين الواقعية النقدية والواقعية السحرية، ما يجمع بين واقع مأزوم وأزمة المصير الإنساني. كانت أسئلة محمد الجمل إلى الأستاذ تتسم بالبساطة والمباشرة وتمس عصب الحياة والواقع بأطيافه المختلفة، وكانت جميعها تدور حول الحقبة التي كانت قبل حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، قال نجيب محفوظ حول تقسيم الحقبة التي واكبت مسيرته الأدبية والتي قسمها إلى أربع أقسام: «الفترة الأولى بدأت من الثلاثينيات حتى عام 1952، وكان عمري 19 عاماً. هذه الفترة كانت تسمى بالفترة الديمقراطية، و«هي ولا ديمقراطية ولا حاجة!! لا شك أنها كانت تتمتع بقدر كبير جداً من الحرية، أما من حيث أنها كانت قيداً أم انطلاقاً بالنسبة للفنان، فأستطيع القول بوجود حرية في الجانب الفكري والفني، فقد عشنا فترات حكم غير دستوري وإن كانت تتقنع بالدستور. لم تكن هناك ديكتاتورية سافرة». وعن فترة ما بعد ثورة 1952 قال الأستاذ: تعلم أنني اضطررت في هذه الفترة إلى التوقف لمدة خمس سنوات. فلم أكن أعرف ما سوف يتمخض عنه هذا المجتمع الجديد. فالتزمت الصمت، صحيح أن بعض زملائي أخذوا في نقد العهد القديم بعد أن زال، أما أنا فقد كتبت عن ذلك العهد في وجوده، فلماذا أكرر نفسي؟! كان موضوعي الجديد هو رصد الواقع بعد الثورة، وكان لا بد لكي أحصل على حريتي في رصد هذا الواقع من أن أعرض المعادل له، لا أن أقتحمه مباشرة، لأن ذلك أصبح صعباً، لسببين: الأول أنه يتغير بين لحظة وأخرى، والثاني هو أن مس الواقع أصبح صعباً وخطيراً، وأصبح الكاتب يحاسب على كل كلمة يكتبها، ولم يعد الأمر سهلاً، وشاعت مقولة (اللي يكتب كلمة كده أو كده يتقطم وسطه)، لذا كان أول عمل لي بعد ذلك هو «أولاد حارتنا». حارة خيالية يصح أن تنطبق على «مصر» أو لا تنطبق، تتناول بعض مشكلاتنا إلى جانب مشكلات العالم وتاريخه، الواقع فيها مخلوط بسير الأنبياء، كان على الكاتب أن يتحايل على الواقع الذي يحيط به، بأن يجعل ما يكتبه يفهم على عدة مستويات، وعندما يتهم في واحد منها، يهرب قائلاً: «لا، أنا أقصد المستوى الآخر». هناك مثلاً من قال لي: هل قصدت بالفتوات مراكز القوى؟ أرد بسرعة عليه: «لا.. أقصد طبعاً.. أعداء الأنبياء»، ثم يضيف نجيب محفوظ: أدب هذه المرحلة تغلب عليه المراوغة، فيجئ معادلاً للواقع، لأن عملية مس الواقع كانت خطيرة. وبعد ذلك تشجعت في (اللص والكلاب)، و(السمان والخريف)، ومضيت ولكن بخطوات حذرة، وجاءت (السمان والخريف) لتمثل عزلة إنسان مجروح من العهد السابق. يعني تنتقد وتلاقي. وأظن (اللص والكلاب)، و(ميرامار)، و(ثرثرة فوق النيل)، و(الشحاذ) جاءت في ظل هذا الجو. كلها كتبت من خلال المراوغة والرمز، وهي تنتقد أزمة الحرية بصفة عامة. وأزمة المثقفين بصفة خاصة، ورغم كل هذه الاحتياطيات وهذا الحذر، كان من الممكن الواحد «يطب». كانت هناك عوامل كثيرة حمتني من البطش، وأولها: سيرتي الشخصية التي لا غبار عليها، وأنني لست منضماً إلى خلية ولا متصلاً بسفارة أجنبية، كل ما يمكن أن يقال: «أهو.. أديب وبيهجص.. يعني مش داخل في مخطط».
كانت هذه جزءاً من اعترافات وردود نجيب محفوظ على أسئلة لامست واقعه الذاتي والإبداعي على السواء في فترة من أهم فترات إبداعه الروائي.
لقد اختزل هذا الحوار الطويل على أرض الإسكندرية كل ما أجراه نجيب محفوظ من حوارات قبل نوبل وبعدها تقريباً. وكان نجيب محفوظ في إجاباته لأسئلة الحوار يتسم بالتلقائية والموضوعية والنزعة الإنسانية المفرطة، وجاءت أيضاً بشيء من التقطير والتكثيف الشديدين بحيث جاءت إجاباته وردوده على أسئلة الكاتب وكأنها إجابات نموذجية محددة لما يجب أن تكون عليه مثل هذه الإجابات من كاتب في ثقل وحجم نجيب محفوظ
كما لامست أسئلة الجمل -كما كان يحلو لنجيب محفوظ أن يناديه بكلمة «يا جمل»- صلب الرؤى التي عايشها وتفاعل معها في كل إبداعاته السردية، كما لامست هذه الأسئلة أيضاً أوتار تجربته الحياتية وعلاقاته بقضايا الثقافة بكل أطيافها، عن الاقتصاد، والإبداع، والفكر، والفلسفة، والفن، عن التاريخ الاجتماعي والسياسي والأدبي. لقد اختزل هذا الحوار الطويل على أرض الإسكندرية كل ما أجراه نجيب محفوظ من حوارات قبل نوبل وبعدها تقريباً. وكان نجيب محفوظ في إجاباته لأسئلة الحوار يتسم بالتلقائية والموضوعية والنزعة الإنسانية المفرطة، وجاءت أيضاً بشيء من التقطير والتكثيف الشديدين بحيث جاءت إجاباته وردوده على أسئلة الكاتب وكأنها إجابات نموذجية محددة لما يجب أن تكون عليه مثل هذه الإجابات من كاتب في ثقل وحجم نجيب محفوظ.
سأله الجمل حول استمرارية إبداعه، فقال: الموهبة لها أعمار، موهبة معمرة، وموهبة للموهبة.. ثم هناك ظروف سياسية ورقابية تمنع استمرار الموهبة.. إحباطات شديدة لم يستطع المبدع التغلب عليها بسبب شدة الحساسية.. هناك ظروف خارجية تجعل واحداً يصمد وآخر لا يصمد.. هناك من ينجح في تجاوز العوائق والعواقب.. هي إذن معركة مثل أي معركة، لها أسلحة وتحايلات وطاقة». (ص27/28). سأله عن الغرور، فقال: هناك أشياء صانتني من الغرور.. أنا بطبيعتي موسوس.. ليست لدي ثقة كبيرة في النفس.. أشعر بالوسوسة تجاه أعمالي الفنية.. لم أسمع نقداً لأعمالي الأولى لمدة طويلة فازددت شكا.. ربنا وهبني صديقين صاحباني طول العمر (عبد العزيز أيوب، والدكتور أدهم رجب)، كانا يمتازان بالصراحة القاسية.. يقولان: عملك هذا جيد.. وعندما لا يعجبهما العمل يقولان: عملك هذا سخيف.. لا مداراة ولا مجاملة.. بدأت أدرس الأدب دراسة نظامية.. اتخذت نظاماً للدراسة مبتدئا بالأدب العالمي.. اخترت العمالقة مثلما اخترت أعمالهم ال (ماستربيس).. كانت هذه الأعمال تظهر الإنسان أنه لا شيء، قدمها للأديب الشاب، فقال: الأديب فرع أو غصن في شجرة نامية. يجب عليك إذن أن تعرف الشجرة. لا تكتف بأن تعرف أساتذتك في الجيل السابق أو أجدادك في الجيل «ما قبل السابق».. عليك أن تعرفهم حتى المنابع الأولى، بفنك الأدبي أو الفنون الأخرى، التي عبرت عن ذاتها في الحضارة التي تنتمي إليها. وأن تقرأ هذا التراث قراءة ناقد، باعتبار أن كل التراث ليس مقدساً. (ص34)، سأله عن تقييمه للقصة والرواية في العالم العربي، فقال: اطلاعي على الأدب في العالم العربي كان نتيجة مصادفة.. لا توجد سوق عربية مشتركة للأدب العربي.. أديب يرسل لي عملاً أو يهديني إياه!.. أديب مسافر يعطيني قصة «عرفت من هذه الأعمال المحدودة أسماء جديدة بالنسبة لي.. مثل (حنامينه)، و(عبد الرحمن منيف)، و(غسان كنفاني)، و(الطيب صالح)، و(الطاهر وطار).. القصة تطورت على أيديهم تطوراً عظيماً.. الرواية الآن في العالم العربي في أحسن أحوالها».(ص42)، سأله عن التيار الواقعي في الأدب وهل يفرض نفسه الآن محلياً وعالمياً، فقال: هناك فترة تراجع فيها التيار الواقعي أمام التيارات التجريبية.. ثم عادت الواقعية بسلام ومن غير دعوة.. كل ما قرأته عالمياً هو أدب واقعي.. نحن لا نهرب من الواقع الذي نعيش فيه.. يصح أن تقدم تجارب، ولكنك لا تستطيع أن تهرب من الواقع، الواقع هو الحياة. يمكنك مثلاً أن تكتب بأسلوب المونولوج الداخلي، لكن الزمن الفلكي هو ما نعيشه ونكبر فيه، كيف إذن تتجاهله؟ نحن ننام ونصحو فيه دون انقطاع، نعيش ونصح فيه ولا نعيش دوماً في الزمن النفسى».(ص47).
وتواترت الأسئلة وتسارعت حول العديد من القضايا وعدد من الإشكاليات الملحة في مجال الأدب والفن والإبداع، سأله الجمل عن وسائل الإعلام، والرؤى المركبة والبسيطة، عن الأدب اللاتيني واختلاف مقوماته عن الأدب العربي، عن توافق الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين المجتمع اللاتيني والعربي، عن بعض الأدباء من مجايليه أمثال عبد الحليم عبد الله وأمين يوسف غراب وعبد الحميد جودت السحار، عن أفضل النقاد الذين كتبوا عنه وكان تأثيرهم في الحركة الأدبية كبيراً، سأله عن أهم الدوريات السيارة التي يقرأها وأيضا الدوريات المتخصصة التي يرى أنها مؤثرة وفاعلة في المشهد الثقافي والأدبي، سأله عن الشعر والشعراء، كبارهم ومتميزهم، عن الجوائز ومستوياتها المختلفة، وقد أجاب الأستاذ عن كل هذه الأسئلة بفكر متوقد، ورؤى معمقة ومحكّمة وضع فيها خلاصة تجربته ومخزونه الثقافي والفكري والفلسفي، كما أجاب عليها بنوع من الأريحيه والعفوية المحببة، ما جعله يستشعر من أبناء الإسكندرية وكأن هناك شيئاً آخر مختلفاً تتضمنه أسئلتهم إليه على شاطئ البحر، كان المناخ مشجعاً على الحديث والاسترسال في نواح كثيرة من الحياة والفن، حتى الغناء ، خاصة الغناء القديم الذي كان نجيب محفوظ مولعا وشغوفا به، ويسرد الكاتب عن الأستاذ هذه الواقعة: «ذات مساء عندما تزامن حضوري لندوة (الشانزليزية) مع حضوره، وقبل أن يدخل كلانا إلى مقر الندوة، سمعته وأنا أسير وراءه مباشرة يرتل مقطعا لأغنية قديمة، لم أكن أعرفها أو سمعتها من قبل، وعندما سألت رفيق عمره السكندري البسيط المكتفي بتذوق رواياته، الأستاذ «عصام الإنه»، عن مدى شغف الأستاذ بالغناء، قال لي: إنه أحد كبار عشاق المغنية «منيرة المهدية» ويحفظ ويردد الكثير من أغانيها». (ص69)
وتفعل الإسكندرية فعلها في جلسات الأستاذ على الشاطئ والكورنيش، ولا زال للحديث بقية حول إبداع الأستاذ ومقوّمات هذا الإبداع، ودارت الأسئلة بعد ذلك حول بعض تقنيات الكتابة الروائية، مثل تقنية تيار الوعي ومدى استفادة الأستاذ مما استخدمه أصحاب هذا اللون من الكتابة خاصة وأن ذلك ظهر واضحاً جلياً في «اللص والكلاب»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«ميرامار»، وإلى أي مدى تتحكم التجربة الشخصية للمبدع في أعماله الفنية؟ وقد أجاب الأستاذ بتلقائيته المعهودة حول هذا الموضوع: «خلي بالك، الفن فن، سواء كان أسلوبه تقليديا أو تيار وعي.. لا بد أن تستخلص منه في النهاية رؤية ومعنى، تداعي الخواطر، بمعنى أحلام يقظة متجاورة، قد لا تؤدي إلى شيء.. لكن، الذي يضبطها فنياً أنها تكون تحت سلطان عاطفة واحدة، أو فكر داخلي باطني واحد، هذا عمل ضبط وتوجيه، وفي النهاية تستخرج رواية كاملة مكتوبة بأسلوب جديد.. وليس مجرد خواطر بلا ضابط. واستطرد الكاتب لتوضيح سؤاله: فهمت أنك تقصد ضرورة توفر وحدة إحساس ووحدة موضوع. هل هذا صحيح؟، أجاب الأستاذ على الفور بتلقائيته المعهودة: «مفيش كلام»، إما وحدة إحساس وعاطفة في باطن الكاتب، أو نموذج فني معين يجري الاهتداء به.. مثل رواية «عوليس» للكاتب الشهير «جيمس جويس» أحد كبار مبدعي هذا الشكل الأدبي. وسأله الكاتب عن الفرق بين أسلوب تيار الوعي وبين الأسلوب التقليدي السابق عليه، فقال: «الشكل التقليدي يعتني بالواقع الخارجي، ويركز عليه أو يزاوج بينه وبين العالم الداخلي.. تيار الوعي يقدم التجربة الإنسانية من خلال الداخل، المهم أن يختار الكاتب ما يحظى بقبول المتلقي». (ص77)، ثم استطرد الأستاذ حول التجربة الشخصية فقال: الفرق بين التجربة الشخصية والتجربة العامة.. كل تجربة تنتهي إلى أن تصبح شخصية، ما يحدث لي هو تجربة شخصية، ما أعرفه عنك يدخل في معلومات الشخصية، ما أعرفه عن الحياة الواقعية والثقافية يصل إلى وجداني، فيتحول إلى تجربة شخصية، كل هذا له معين واحد هو وجداني الشخصي، ومنه أستمد عملي الفني، لا أفرق بين شيء وآخر.. قد يدفعنى للعمل شخص قريب منى، مثل ما حدث في رواية «الكرنك».(ص80).
ثم تطرق الحديث بعد ذلك إلى الرواية النهرية، وآراء الأستاذ حولها، ودارت الحوارات حولها في هذا الشكل، فسأله الكاتب حول مفهوم مصطلح «الرواية النهرية» من واقع تجربته مع أكثر من نص، يقول الأستاذ: هي رواية الأجيال.. يصور الأديب رؤيته من خلال جيلين أو ثلاثة أو أربعة، كما يشاء، المتغير فيها هو الزمن، الزمن يتقدم والناس تتغير، وكذلك القيم والأفكار والآراء. ويسأله الكاتب حول نشأة هذا الشكل، وما هي دوافعه الفنية والمضمونية. فيقول الأستاذ: الدافع الفني واحد في كل الأشكال، تقديم التجربة الإنسانية واحد يقدمها من خلال شخصية أو من خلال عائلة، أو من خلال شارع، أو مدينة، المهم أن يكون الزمن هو حلقة الوصل في ذلك. ويكمل الكاتب سؤاله عن ممارسة الأستاذ لهذا الشكل الفني في بعض رواياته فيقول: قرأته عند «طه حسين» في «شجرة البؤس»، وقرأته في كتب تاريخ الرواية، قرأت نماذج منه في بعض الروايات التي أتيح لي الاطلاع عليها مثل «الحرب والسلام» لتولستوي، و«آل جروجر» لتوماس مان، والأدب الأوروبى فيه الكثير من أشكال الرواية النهرية. ويعّول الكاتب على ذلك بقوله: ذلك يعني أن هذا الشكل الروائي ليس حديثا؟، فيستطرد الأستاذ: ليس حديثا بالتأكيد، هذا الشكل كتب في القرن التاسع عشر واستمر في القرن العشرين، ويسأله الكاتب عن النماذج الخاصة بالرواية النهرية في أعمال الأستاذ من وجهة نظره. فيقول: عندك مثلا (الثلاثية)، (حديث الصباح والمساء)، ويسارع الكاتب بسؤاله عن رواية «قشتمر» وهل هي من قبيل الروايات النهرية؟ فيجيب الأستاذ: فيها شيء من هذا الشكل الفني، ابتدأت في أوائل القرن العشرين وتنتهي في آخر، وهي تدور حول أربعة أزمنة. فيسأله الكاتب حول الاختلاف بين الرواية النهرية ورواية الملحمة، فيقول الأستاذ: تحدثنا عن الرواية النهرية، أما عن رواية الملحمة في التاريخ فهي تحكي عن بطلات تتحرك بين الأسطورة والواقع، مثل (الإلياذة)، و(الأوديسا) لهوميروس، الملحمة اختفت من التاريخ وحلت محلها الرواية، كانت الملحمة تدور حول آلهة وأبطال ونبلاء، واختفت هذه النماذج مع اختفاء الملحمة»(ص93/94).
كان من الطقوس المهمة عند نجيب محفوظ في الإسكندرية أنه كان يقضي ساعتين مسائيتين من أيامه في الإسكندرية على شاطئ جليم في تأمل واستغراق وتفكير، يجلس مع نفسه لا يشاركه أحد في هذه الجلسة الخاصة مع النفس وكان لا يميل فيها إلى مناقشة أحد أو إجراء أي حوار، وقد علم الكاتب بهذا الطقس اليومي للأستاذ، فرغب في اقتحام هذه العزلة على شاطئ الإسكندرية إلا أن أحد الأصدقاء الأمناء نصحه بعدم إطالة الحديث مع الأستاذ في مثل هذه الجلسات حيث إن الأستاذ وقتها لا يميل إلى المناقشة ولا إلى الحوار، وهكذا أصبح الروائي محمد الجمل ضيفاً شبه صامت في أمسيات «جليم» كما كان يحلو أن يسميها، حيث يبدو فيها نجيب محفوظ في حديث مع النفس، لا يحيد نظره عن تموجات سطح البحر، يستحيل هدير الأمواج في سمعه إلى موسيقى كونية ساحرة، وكان بين الفينة والأخرى يتحول إلى الجمل بقوله (أهلاً وسهلاً) فقط، ثم لا يلبث أن يعود إلى البحر والموج والنوارس والطبيعة والصمت والسكون وإلى طبيعة الطقس المسائي الذي كان متوحداً معه قلباً وقالباً.
ويشير محمد الجمل في نهاية هذا الكتاب الشيّق إلى جائزة نوبل التي حصل عليها الأستاذ في أكتوبر 1988 بقوله: ورد الفعل لهذا الحدث الكبير على أدباء الإسكندرية في ذلك الوقت» كان شهر سبتمبر 1988 قد أوشك على الرحيل، وكان رحيله إيذاناً برحيل «نجيب محفوظ» إلى القاهرة، بعد انتهاء إجازته الصيفية بالإسكندرية، هكذا احتشد عدد كبير من «حرافيش الإسكندرية» في كازينو «سان ستيفانو» في اليوم الأخير من سبتمبر لوداع الأستاذ، على أمل لقائه في صيف 1989.
لم نتصور وقتها أن الأيام القليلة القادمة سوف تحمل لنا جميعاً مفاجأة أدبية عالمية كبرى، وتحقق للأدب العربي برمته ما لم يكن تصوره ولا تخيّله، وما إن حل يوم الخميس 13 أكتوبر 1988 حتى تم الإعلان عن المفاجأة الكبرى، بفوز «نجيب محفوظ» بجائزة نوبل للآداب، بعد مرور قرابة نصف قرن على فوزه بأول جائزة له وهي جائزة «قوت القلوب الدمرداشية» التي كانت مناصفة مع مجايله «عادل كامل»، وحصل وقتها على مبلغ قدره عشرين جنيهاً مصرياً، وهو مبلغ يقارب «أعراض الثراء» في ذلك الوقت. وكانت المفاجأة علينا في الإسكندرية شأنها شأن تأثيرها على مصر كلها بل وعلى العالم العربي والعالم بأكمله، وتبادلنا نحن أدباء الإسكندرية التهاني، كما تبادل أعضاء ندوة (سان ستيفانو) التهنئة الخاصة والفرحة العارمة التي عمت قلوبنا لهذا الفوز الكبير، هل هذا الرجل البسيط العميق الذى يجلس معنا يومياً أثناء فصل الصيف، ونتحاور معه ونتحدث إليه بكل تلقائية وعفوية، ونضحك معه ويضحك معنا ينال جائزة نوبل التي يتحدث عنها العالم كله، هل هذا معقول!! لقد ألجمتنا المفاجأة والسعادة من كثرة ما شعرنا بها وأحسسنا بقيمتها الكبرى.
كنت قبل هذه المفاجأة قد انتهيت من تسجيل حواراتي مع الأستاذ، وأستعد لنشرها بشكل ما في صحيفة كبرى أو مجلة شهرية، وقع الخبر عليّ وقع الصاعقة التي لم أتوقعها ولم يتوقعها أحد غيري، فترددت في نشر الحوار، وتوقفت حائرا أمام التوقيت، وقد ساءلت نفسي: «فيم يفيد هذا الحوار والدنيا كلها تتحدث عن «نوبل نجيب محفوظ»؟ هكذا أغلقت درج مكتبي على «شرائط التسجيل»، انتظارا لتوقيت يتناسب مع مضمونها. وبمضي السنين ومع كل ما كتب وما زال يكتب عن «نجيب محفوظ»، لم يسعفني التوقيت ولا المفاجأة في نشر هذا الحوار، فلم أعثر على توقيت مناسب لنشر هذه الحوارات، إلى أن تذكرت أن شهر ديسمبر 2011 يتوافق مع مرور مائة عام على ميلاد «نجيب محفوظ» فاستخرجت الشرائط من مكانها، وأعدت سماعها، فإذا بي أشعر وكأن الأستاذ يتحدث معي عما يجري في أيامنا هذه، وربما قال أشياء كثيرة، لم يقلها في مناسبات أخرى، فقررت نشر مضمونها في كتاب، إدراكا مني لمدى قداسة مثل هذا الكتاب في مناسبة مئوية الأستاذ، حيث لم نتوقف نحن «حرافيش سان ستيفانو» عن مواصلة لقاءاتنا مع الأستاذ، ضمن حرافيش كازينو قصر النيل بالقاهرة. وما أن حل شهر يونيو 1989، حتى عدنا نسعد بأمسيات الأستاذ في «سان ستيفانو» حيث أصبح للقاء مذاق آخر يختلف عن اللقاءات الأخرى وأصبح حديث الجائزة هو حديث الساعة، واتسعت الدائرة بانضمام أسماء وشخصيات جديدة إلى لقاءات نجيب محفوظ، إلا أن الأستاذ كان يخص الأعضاء القدامى باهتمام خاص.
وفي آخر المطاف وبعد أن اعتدى شاب أهوج مغرر به، على نجيب محفوظ، أسدل الستار على ندوة نجيب محفوظ في الإسكندرية، واقتصرت لقاءاته في القاهرة على عدة أمسيات معروفة، ولن ننسى أبداً أحد تصريحاته العزيزة على أنفسنا جميعا حين قال: «سيعز علىّ كثيرا أن أرغم على الابتعاد عن الناس، وأن تكون بيني وبينهم حواجز أمنية، إن حياتي كانت دائما بين الناس، ولم أر منهم إلا كل الحب. لماذا تريدونني أن أحرم من دفء المشاعر الإنسانية التي طالما أحاطني بها الناس!» (ص116).
وفي أغسطس 2006 رحل عن عالمنا أديب نوبل العربي نجيب محفوظ عن عمر يناهز الخامسة والتسعين، وترك الدنيا وراءه، القاهرة بكل حواريها وشوارعها وحرافيشها والإسكندرية بشواطئها وأمواجها، ترك (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية وزقاق المدق وخان الخليلى والجمالية وحي الحسين والعباسية في القاهرة، وكازينو الشانزليزيه ومقهي بترو وكازينو سان ستيفانو في الإسكندرية وشاطئ جليم ومحطة الرمل)، ترك القاعدة العامة في القاهرة والاستثناء الوحيد لها في الإسكندرية، وبقي منه في كل هذه الأماكن إبداعاته وحرافيشه وناسه ومحبوه وقراؤه والدنيا كلها، وحواراته التي ما زال صداها يتردد في كل مكان من القاهرة والإسكندرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.