لماذا يخشى المواطن من برلمان ذي مرجعية وهوية دينية؟ هذا السؤال حرصت كل الفضائيات الفراغية نسبة إلى شغل وقت الفراغ، وعشرات بل مئات الأقلام مناقشته مناقشة علانية تأرجحت بين القبول والرفض، واستغرب الكثير بل جميع المنتمين للتيارات الدينية في مصر موقف المرابطين على الشاطئ الآخر والمنتمين للتيارات الليبرالية والمنادين لفكرة إقامة دولة دينية من رفضهم لهوية دينية إسلامية أو الحاكمية الدينية بوجه عام. وربما ذهب بعض القياديين من هذه التيارات بعيداً إلى أن هؤلاء الرافضين لبرلمان ذي طبيعة دينية يهاجمون الإسلام، وهذا لغط شديد، يرجعني إلى عبارة من ساء فعله ساءت ظنونه، فالليبراليون لا يرفضون الإسلام ووجود مرجعية دينية حاكمية لتصرفات وسلوك المواطن كما تزعم القوى والتيارات السياسية الدينية، بل هم يرصدون الفرق بين الإسلام كشريعة وعقيدة سامية تضبط سلوكيات ومعاملات وعبادات الإنسان المسلم مع ربه والمسلمين وغيره من أصحاب الملل والنحل الأخرى، وبين وجود صكوك دينية وضوابط مشروطة يملك حقها مجموعة من الناس بدعوى أنهم يقيمون شريعة الله في الأرض. وإذا ساء ظن تلك التيارات بأفكار المناهضين لوجود برلمان ذي مرجعية دينية، فإن الأمر على الشاطئ الآخر يختلف تماماً، أي أن الرافضين لهذه المرجعية يمتلكون رصيداً تاريخياً كبيراً من تجاوزات التيارات الدينية لاسيما المتشددة حينما يسطع ويبزغ نجمهم على المشهد السياسي. وسجلات القضايا السياسية والجنائية بالمحاكم، والتحقيقات الصحافية الضاربة في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من هذا القرن تكفي للتأكيد على هذا التاريخ الممزوج بالعصبية والاستبعاد للآخر بل ومحاربة أي فكر يحمل كلمات مثل التنوير والاستنارة والاجتهاد والمدنية وحرية التعبير، رغم أن هذه الكلمات وغيرها من أبجدية النهضة ضاربة في أبد وأزل التاريخ الإسلامي منذ أربعة عشر قرناً وأكثر. ولكن قمعية بعض الجماعات والتيارات للرأي الآخر هي التي تدفعنا للتحذير من مغبة الأيام المقبلة والمرهونة باحتمالات تسيد بعض التيارات السياسية ذات الصبغة الدينية أو التيارات الدينية ذات التوجه السياسي الحالة والمقام السياسيين في مصر. وخطورة هذا التسيد لا تأتي من الحضور الإسلامي على جميع مجالات ونواحي الحياة المجتمعية، فهذا الحضور موجود بالفعل وقديم قدم الفتح العربي لمصر، بل ولا يحتاج إلى شخص أو مؤسسة أو تيار يمثله أو يدعو إليه، فالإسلام حدد منذ أربعة عشر قرناً هوية هذه الأمة في صورتها الجمعية دون الالتفات إلى بقية الديانات الأخرى التي لاشك تدخل تحت مظلة الهوية المصرية بصفة عامة. ولكن الخطورة هي أن من المنتسبين لهذه التيارات ذات المرجعية الدينية قد ينتابهم شك شديد الحضور والشهود وهو أن المجتمع المصري يبيت على ضلال مستباح. وهم في ذلك لا يستشهدون إلا بملامح ودلالات شديدة الخصوصية لا تصل إلى حد التعميم، مثل وجود رواية تستبيح محرمات نهى عنها الإسلام، وهذا الأمر في حد ذاته يجعلنا نتساءل هل هذا الشعب حقاً يعتبر من الأمم القارئة؟ أنا شخصياً لا أظن لأنه أصبح اليوم المواطن هو الذي يذهب إلى المعرفة بصورة قصدية بدلاً من أن كان قديما المعرفة قطاراً يصل إلى كل بيت متمثلة في اللغة واستخدامها الرقيق، وطريقة التعامل الاجتماعي، واحتراف الذوق الذي غاب عن واقعنا في الفن والموسيقى والرياضة أيضاً. وهم أعني التيارات الدينية السياسية لا ستندون أيضاً إلى على فيلم مبتذل لمخرج أو ممثلة أكثر ابتذالاً لا فكر فيه ولا رؤية ولا عناصر إبداع تحتويه، فمن حقهم أنهم يقفون متوشحين بسيف الفضيلة أمام هذه النماذج، ولنا الحق نحن أن نلوم أنفسنا لأننا شجعنا هؤلاء المنتسبين للفن ظلماً بإنتاج أعمال رخيصة مبتذلة. وهؤلاء أصحاب الأعمال الرخيصة فنياً من شعر ورواية وغناء سوقي رخيص وسينما لا تحمل من الاسم سوى صالة العرض لا يخشون خطر تحول برلمان الوطن إلى برلمان ديني الهوية والمرجعية ؛ لأنهم لسبب بسيط يعيه القاصي والداني يستطيعون التحول بصورة فجائية دونما مقدمات، مثلهم مثل أؤلئك الذين ظهرت أعراض الوطنية عليهم فجأة بعد انتصار رياضي أو مكسب أدبي أو نصر فني فتراهم يدججون مشاعرنا بأغنية عن النيل والتراب الوطني وربما تجدهم أيضاً بالحجاب يغنين في حب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهذا يرتدي جلباباً محاولاً إقناع المستمعين بأنه من أنصار جماعة السنة أو أحد المنتمين لتيار سلفي. الذي يخشى تصاعد هؤلاء هم المثقفون وأنصار الأفكار التي تعلي قدر الحرية لاسيما حرية التعبير الفكري الذي بالقطع لا يمس أية مقدسات أو عقائد بصورة مشينة، بل إن الفكر كلما ارتقى سما بنفسه وأعلى من شأن عقيدته وشريعته بصورة تميز سماحة العقيدة ومرونتها ومدى قبولها للتعددية الدينية والسياسية والفكرية. ولكن للأسف النخبة السياسية والفكرية تعاني من سلبية الحركة بخلاف ما تتمتع به هذه التيارات، فهم دائماً يكرسون لتنظير الفكرة دون تطبيقها وظاهرة التنديد هي الأقرب لأذهانهم عن محاولة الولوج داخل عقول التيارات الدينية المتسامحة والمتشددة. النقطة الأبرز حضوراً في حراك المشهد السياسي أن التيارات الدينية بدأت تحتفي بانتصارها المحتمل بحصد أكبر نسبة من مقاعد البرلمان المصري، بل وبدأت بعض الأحزاب التي ظهرت للنور بعد سقوط نظام مبارك الذي كان يظن أنه يحمل شفرة المواطن المصري تعلن عن استعدادها لتشكيل حكومة انتقالية، وهذا يدل على تمتع هذه الجماعات بوجود فكر مخطط مرحلي، فلمن لا يعلم أن جماعة الإخوان المسلمين وبعض فرق الجماعات الإسلامية كانت من أولى المذاهب والتيارات السياسية المصرية التي استخدمت الطاقة الإليكترونية المسماة بالإنترنت، في الوقت الذي كان الحزب الوطني ومنشدوه يقفون على منابر متهالكة يرددون كلاماً باهتا لا صلة له بالواقع. لذا؛ فحينما تعلن أحزاب دينية قدرتها على تشكيل حكومة ائتلافية أو دينية محضة فلا تظن أنها غير قادرة، فهي تعمل وفق خطة، وتتحرك سياسياً منذ سنين عبر قنوات محددة لا يحدون عنها، بخلاف النخبة السياسية والليبراليين الذين أعيب عليهم حراكهم السياسي الوئيد، وأن فكرة المواجهة والاقتناص والبدء بالمبادرة غائبة عن معظمهم وهذا الذي سمح لكافة التيارات الإسلامية بالإعلان عن نفسها بوضوح وتوغلها في نسيج المجتمع بوسائل متنوعة. ولعل هذا هو الذي يدفع جموع المصريين من البسطاء الانسياق ورائهم خصوصاً وأنهم يقدمون حلولاً سريعة لمشكلات المجتمع، على العكس تماماً من الصيحات والشعارات التي قد تحمل صدقاً وفكراً ورؤية لكنها لا تزال حبيسة العقول ثم الأدراج الخشبية. والوطن برمته لا يخشى التصاعد الإسلامي، لأننا بالفعل في حالة مد ديني إما في توجهنا الجوهري الذي لا يعلمه سوى الله بعيداً عن المظاهر الدينية الخارجية من جلباب ولحية ونقاب ومسبحة وتشدق بألفاظ فصيحة لا تعرفها العامة، أو من خلال هذا المد الظاهري المتمثل في قنوات فضائية وسرادقات وظهور تيارات شعبوية جماهيرية. إنما الخشية لله أولاً، ولكن الحذر يكون في من يتحدث باسم الله، وما مقوماته وإمكاناته في منح صكوك التوبة والغفران، ومن يصدر أحكام الحسبة والتفريق ثم التكفير وأخيراً إباحة الدم والنفس. الغريب أن مرجعية البرلمان المقبل قد تكون دينية لا بفضل توقع فوز الإسلاميين في انتخابات مجلس الشعب، لكن لأسباب أقوى وأظهر، فغياب المؤسسة الدينية عن التواجد بصورة ملفته في توعية المواطنين بمفاهيم المشاركة والحق والواجب والرشوة وحرمتها وكتمان الشهادة وأمانة الصوت ساهمت بشكل مقصود في الانحسار لأصوات القابعين أمام جهاز التلفاز إما لمتابعة نتائج الانتخابات أو لمشاهدة مسلسل العشق الممنوع. كذلك هذا الزحف والهجوم نحو مقاعد البرلمان لمرشحي التيارات الدينية جاء نتيجة سقوط الحزب الوطني، وسيسأل سائل ما العلاقة؟ أقول له العلاقة بسيطة ومباشرة، لعل نزوح العاديين نحو التصويت لأحزاب مثل النور والحرية والعدالة والوسط وغيرها من أحزاب المرجعيات الدينية كان نوعاً من التشفي من سياسات الحزب المنحل، الذي بات سنوات يكرس لحزب الكنبة المشاهد لما يحدث في بر مصر دونما مشاركة، وكأن أؤلئك الذين ذهبوا لمقار الانتخابات لم يذهبوا خوفاً من غرامة التخلف البالغة خمسمائة جنيه بل كان الذهاب مقصده إخراج لسان المواطن سخرية من الحزب البائد وسياساته وأمين تنظيمه ومزوريه وفرقه الذين احترفوا التطبيل والتهليل. وبحكم معرفتي الجيدة التي تصل إلى حد الصداقة والزمالة بأؤلئك المنتمين لأحزاب المرجعيات الدينية وبحكم ما أعرفه عنهم عبر سياقات اجتماعية فأنا أظن أن مصر في حالة مدهم السياسي ستشهد تراجع حالة الإبداع المهني والثقافي والفكري، لأن الإبداع حالة غير موجهة، وسلوك يحركه الذهن والمزاج معاً وهو يخضع لمرور الإنسان لخبرة غير مقصودة، بخلاف تحكم فئة تحكمها ضوابط وقواعد مشروطة ومصاغة وفق مرجعيات خاصة في النسق التعليمي الذي يُخضع الطالب والمتعلم لخبرات موجهة تشكل فكره واتجاهاته من أجل إعداده إعداداً خاصاً. لكن هل يقف المصريون أمام مستقبل قد يوقف الإبداع ويعرقله وهم مكتفون بموقع المشاهد كما كان من قبل أيام رئيس سخر منه حينما قال : خليهم يتسلوا؟!