استقرار أسعار الذهب في مصر قبيل بداية التعاملات    حار نهارا، حالة الطقس اليوم الاثنين 13-5-2024 في مصر    "2100 مدرسة".. كيف استعدت التعليم لامتحانات الثانوية العامة 2024؟    استخبارات سول تحقق في تزويد بيونج يانج موسكو بالأسلحة    مساعد رئيس تحرير «الوطن»: إسرائيل منبوذة دوليا.. وبايدن «بين نارين» بسببها    ارتفاع عدد القتلى إلى 14 شخصا جراء قصف قوات كييف مبنى سكني في بيلجورود    الأقصر تتسلم شارة وعلم عاصمة الثقافة الرياضية العربية للعام 2024    بعد انخفاضها.. أسعار الفراخ والبيض في الشرقية اليوم الإثنين 13 مايو 2024    مناقشة آليات تطبيق رسوم النظافة بمنظومة التخلص الآمن من المخلفات بالإسماعيلية    اليوم| محاكمة متهمي قضية اللجان النوعية    مؤلفة مسلسل «مليحة»: استخدمنا قوة مصر الناعمة لدعم أشقائنا الفلسطينيين    الإثنين 13 مايو.. توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية    ارتفاع «حديد عز».. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 13 مايو 2024    مقتل وإصابة 15 شخصا في إطلاق نار خلال حفل بولاية ألاباما الأمريكية    هل يجوز التوسل بالرسول عند الدعاء.. الإفتاء تجيب    جيجي حديد وبرادلي كوبر يرقصان في حفل تايلور سويفت (فيديو)    بعد بيلوسوف.. أبرز تغييرات بوتين في القيادة العسكرية الروسية    «اللاعبين كانوا مخضوضين».. أول تعليق من حسين لبيب على خسارة الزمالك أمام نهضة بركان    تدريبات خاصة للاعبي الزمالك البدلاء والمستبعدين أمام نهضة بركان    خطأين للحكم.. أول تعليق من «كاف» على ركلة جزاء نهضة بركان أمام الزمالك    أزهري يرد على تصريحات إسلام بحيري: أي دين يتحدثون عنه؟    وزير التعليم: هناك آلية لدى الوزارة لتعيين المعلمين الجدد    الأزهر عن اعتزام مصر دعم دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام «العدل الدولية»: تليق بمكانتها وتاريخها    حدث ليلا| زيادة كبيرة في أراضي الاستصلاح الزراعي.. وتشغيل مترو جامعة القاهرة قبل افتتاحه    تشديد عاجل من "التعليم" بشأن امتحانات الشهادة الإعدادية (تفاصيل)    وكيل «خارجية الشيوخ»: مصر داعية للسلام وعنصر متوازن في النزاعات الإقليمية    بعد تعيينها بقرار جمهوري.. تفاصيل توجيهات رئيس جامعة القاهرة لعميدة التمريض    قرار عاجل من اتحاد الكرة بسبب أزمة الشحات والشيبي    افتتاح مسجد السيدة زينب.. لحظة تاريخية تجسد التراث الديني والثقافي في مصر    بالفيديو.. كواليس تدريب تامر حسني ل بسمة بوسيل على غناء "البدايات"    بطولة العالم للاسكواش 2024.. مصر تشارك بسبع لاعبين في الدور الثالث    لا أستطيع الوفاء بالنذر.. ماذا أفعل؟.. الإفتاء توضح الكفارة    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك أن تستجيب دعواتنا وتحقق رغباتنا وتقضي حوائجنا    «من حقك تعرف».. هل المطلقة لها الحق في نفقة العدة قبل الدخول بها؟    منها تخفيف الغازات والانتفاخ.. فوائد مذهلة لمضغ القرنفل (تعرف عليها)    سر قرمشة ولون السمك الذهبي.. «هتعمليه زي المحلات»    قصواء الخلالي تدق ناقوس الخطر: ملف اللاجئين أصبح قضية وطن    استثمار الذكاء الاصطناعي.. تحول العالم نحو المستقبل    العدو يحرق جباليا بالتزامن مع اجتياج رفح .. وتصد بعمليات نوعية للمقاومة    أمير عزمي: نهضة بركان سيلجأ للدفاع بقوة أمام الزمالك في الإياب    بسبب سرقة الكابلات النحاسية، تعطل حركة القطارات في برشلونة    «الإفتاء» تستعد لإعلان موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات قريبًا    مسلسل لعبة حب الحلقة 24، فريدة تعلن انتهاء اتفاقها مع سما    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد مستشفى الحميات وتوجِّة باستكمال العيادات (صور)    رئيس «البحوث الزراعية»: ارتفاع إنتاجية المحاصيل الحقلية والبستانية للقطاع الخاص دليل «نجاح البحوث التطبيقية»    أربع سيدات يطلقن أعيرة نارية على أفراد أسرة بقنا    مستقبل وطن بأشمون يكرم العمال في عيدهم | صور    رئيس مجلس الأعمال المصري الماليزي: مصر بها فرص واعدة للاستثمار    الكشف على 1328 شخصاً في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    نقابة الصحفيين: قرار منع تصوير الجنازات مخالف للدستور.. والشخصية العامة ملك للمجتمع    وقوع حادث تصادم بين سيارتين ملاكي وأخرى ربع نقل بميدان الحصري في 6 أكتوبر    ليس الوداع الأفضل.. مبابي يسجل ويخسر مع باريس في آخر ليلة بحديقة الأمراء    وفاة أول رجل خضع لعملية زراعة كلية من خنزير    عمرو أديب يعلن مناظرة بين إسلام البحيري وعبدالله رشدي (فيديو)    وزيرة الهجرة تبحث استعدادات المؤتمرالخامس للمصريين بالخارج    رئيس جامعة المنوفية يعقد لقاءً مفتوحاً مع أعضاء هيئة التدريس    الأعلى للصوفية: اهتمام الرئيس بمساجد آل البيت رسالة بأن مصر دولة وسطية    منها إطلاق مبادرة المدرب الوطني.. أجندة مزدحمة على طاولة «رياضة الشيوخ» اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آخر الشعراء الصعاليك: احمد فؤاد نجم بين التراب والشهب
نشر في صوت البلد يوم 29 - 09 - 2011

سيكون على الأغلب آخر الشعراء الصعاليك. ذلك النمط من فرسان الكلمة الذي يعشق الحرية فيعيشها في حياته إلى حد الفوضى والتشرد فيظل مجذوبا بمعشوقته متنقلا خلفها من بلد إلى بلد ومن شارع إلى شارع، من بيت إلى بيت، من زوجة إلى زوجة.
من سجن إلى سجن، لا يشبعه أي منها، يطلب معشوقته الحرية ليس لنفسه فقط ولكن لأمته كلها، لا يقاسم عشقه للحرية سوى عشقه للصدق، ينطق الصدق بعفوية وبساطة تمنحه سلطان الحقيقة، يتكلم الصدق بجرأة يشتبه معها السامعون له في جنونه، ينطق بما لا يقدر الناس على النطق به، فيفوضونه ناطقا باسمهم معبرا عن أحلامهم المسروقة وآمالهم المنكسرة، ينحاز إلى الشعب وإلى الفقراء والبسطاء ضد الاغنياء والأقوياء والأباطرة، فيلتف حوله المسحوقون بالملايين ويرتعب منه الطغاة ويلقون به في السجون فيكتب من الزنانين شعره المزلزل للعروش والجيوش، مخترقا بكلماته السهلة الممتنعة ستائر الزيف والخديعة التي يسدلها المسئولون حول الوطن، فبينما كان الإعلام الرسمي يحاول التهوين من هزيمة 67 الفادحة للحفاظ على الروح المعنوية، وبينما عقدت المحاكمات لقيادات الجيش التي أهملت في أدائها بشكل فاضح وأصدرت عليهم أحكاما واهية لا تتناسب مع حجم الكارثة، راح أحمد فؤاد نجم يتهكم بسخرية لاذعة انتشرت بين الناس كاللهيب: الحمد الله خبطنا تحت بطاطنا.. يا محلا رجعة ظباطنا .. من خط النار.. يا أهل مصر المحمية.. بالحرامية.. الفول كتير والطعمية.. إيه يعني في العقبة جرينا.. وللا في سينا .. وهي الهزيمة تنسينا.. إننا أحرار! إيه يعني الشعب في ليل ذله.. ضايع كله.. ما كفاية بس اما تقوله.. إحنا الثوار! أشعار تمجد وتماين.. حتى الخاين.. وإن شاء الله يخربها مداين.. عبد الجبار.
كان ذلك في عصر عبد الناصر الذي لم يكن يسمح فيه لأي نقد علني لسياسات البلد، ولم يكن يسمع سوى أناشيد التمجيد لناصر وللثورة وللأحرار والثوار.. وحتى بعد ضربة 67 والانسحاب المهرول من سيناء بلا خطة وبشكل بائس، لم يسمح الإعلام الرسمي لأية أصوات ناقدة لما حدث،سوى بشكل مرسوم من أعلى.. فإذا بصوت هذا الشاعر المارق يعلو في جرأة مجنونة منفردة تضرب بكلماتها زينات الزيف المرفوعة وتقول بأعلى صوت إن الامبراطور عريان بلا ثياب فيدهش الجميع من هذا الصوت الذي وحده ينطق بالحقيقة التي يعلمها الجميع، فيهرع الشباب من المثقفين وراء نجم والشيخ إمام الذي وضع ألحانا بسيطة شعبية عبقرية لهذه الكلمات الحادة الثاقبة ليحولها إلى أهازيج مريرة وأناشيد مثيرة تدخل قلب مستمعيها مباشرة وفي الحال فتفعل في النفوس المكلومة المتعطشة للصدق وللحقيقة فعل السحر، فيموج الحضور مع الكلمة واللحن طربا ووجعا ونزفا ونشوة، وأصبح نجم وإمام ظاهرة ساحرة في ليالي القاهرة الكالحة بعد الهزيمة، كان يتقاطر المئات كل ليلة ليحتشدوا في قاعات البيوت ليستمعوا في نشوة سرية سحرية إلى مالم يسمعوه في حياتهم..
الجناية إن البلد من السكات.. بعضها راح لليهود.. والبعض مات.. والى جابوا النكسة لسه على الكراسي .. فوق ضهور المخلوقات..؟ كان هذا نقدا مباشرا لعبد الناصر وكل من حوله من مسئولين.. في وقت لم ينتقده أحد داخل مصر، نعم لقد كتب نزار قباني قصيدته الشهيرة هوامش على دفتر النكسة منتقدا فيها الفكر الذي أدى إلى الهزيمة، ونظام الحكم المخابراتي المطارد للحرية الفكرية والسياسية الذي ساد وقتها، ولكن نزار كان في الخارج أمنا من بطش النظام وغير مهدد بالسجن أو ما هو أسوأ فلم يكن في عمله هذا بطوله تذكر، ولكن نجم كان في مصر تحت يد النظام ولذلك نظر له الشباب باعتباره بطلا قوميا هائلا يصرخ بالحقيقة ولا يهاب في سبيلها أي ثمن، وقبضوا على نجم والشيخ إمام وألقوا بهما في السجون والأقبية، ولكن الجدران والقضبان لم تستطع أن تحبس صوت ذلك الشاعر المارق.. فراح يكتب قصائده من الزنازيين فتخرج للناس ملتهبة بنيران البطولة التي لا تخرسها المعتقلات، فيزداد تعلق الناس به واستماعهم إليه. راح ذلك الشاب النحيل الاسمر خشن الصوت ثاقب النظرات يقارع أكبر سلطة في مصر وينافسها في القدرة على الوصول إلى قلوب الملايين بلا مذياع ولا تليفزيون ولا جريدة، وقف نجم وحده أمام النظام كله بألاته البوليسية والإعلامية الجبارة وانتصر عليها من داخل محبسه، لأن كلماته كانت صادقة وبسيطة وحميمة تناصر الضعفاء المطحونين ضد الاغنياء والأقوياء والسلاطين: هما مين وأحنا مين.. هما الأمرا والسلاطين .. هما المال والحكم معاهم.. واحنا الفقرا المحكومين.. حزر فزر شغل مخك.. مين فينا بيحكم مين؟ إحنا السنة وأحنا الفرض .. إحنا الناس بالطول والعرض.. من عافيتنا تقوم الأرض.. هما الفيلا والعربية.. والنساوين المتنقبة .. حيوانات استهلاكية.. شغلتهم حشو المصارين.. هما مين واحنا مين؟ .. إحنا الحرب حطبها ونارها.. وأحنا الجيش اللي يحررها.. واحنا الشهدا في كل مدارها.. منتصرين أو منكسرين.. هما مناظر بالمزيكة.. والزفة وشغل البوليتيكا.. ودماغهم طبعا أستيكة.. بس البركة في النياشين.. هما بيلبسوا آخر موضة.. وأحنا بنسكن سبعة في أوضة.. هما بياكلوا حمام وفراخ.. واحنا الفول دوخنا وداخ.
في هذه القصيدة وغيرها، يمزج نجم بين النقد السياسي والاجتماعي.. ويرجع أسباب الهزيمة ليس فقط للإداء العسكري البائس الفاضح.. ولكن أيضا إلى فشل الشعارات السياسية في التحول إلى واقع اجتماعي، فالذين ينادون بالاشتراكية يرفلون في سيارات فاخرة لا يملكها الشعب. هما مناظر بالمزيكة .. والزفة وشغل البولتيكا فنقده ليس سطحيا يقف فقط عند الهزيمة العسكرية ولكن يغوص إلى أعماق ما يحدث ويقدم رؤية نقدية متكاملة لحالة مصر سياسيا وإجتماعيا وإنسانيا، وهو شاعر إنساني في المقام الأول وهمومه السياسية ليست سوى نتاجا لهمومه الإنسانية المعنية بكرامة الإنسان وحقه في الخبز والحرية والعدالة.
وهو يعي دوره كصاحب كلمة لها رسالة مضيئة .. يقول:دور ياكلام على كيفك دور .. خلى بلدنا تعوم في النور.. إرمي الكلمة في بطن الضلمة.. تحبل سلمى.. وتولد نور.. يكشف عيبنا.. ويلهلبنا.. لسعة ف لسعة .. نهب نثور.
ولم يتخلى نجم عن دوره مع تغير النظام في مصر، واستمر في صراخه الناقد بعد رحيل ناصر ومجئ السادات، وتظاهر السادات بأنه يرسى قواعد دولة القانون، فكان يطارد المعارضين ويسجنهم ولكن كله بالقانون كما كان يصرح، وحول نيابة أمن الدولة إلى جهة إصدار وتقنين قرارات الإعتقال التي بها اعتقلوا نجم فقال في هذا:أنا رحت القلعة وشفت ياسين.. حواليه العسكر والزنازين.. والشوم والبوم وكلاب الروم.. يا خسارة يا أزهار البساتين.. عيطى يا بهية على القوانين.. واسمعي يا بلدنا حلاصة القول .. وبأقولك أهه وأنا قد اقول .. مش ممكن كده حيحول الحول .. على كده والناس يفضلوا ساكتين.. خليكوا فاكرين.. خليكوا شاهدين .. أنا رحت القلعة وشفت يا سين.
ونجم مالوش كبير بمعنى أنه لا يهاب أحدا ويهاجم الكل، ويمكن أن يقسو في هجمومه ويستخدم لهجة سوقية، وهذه ليست سبة ولكنها وصف لاستخدامه لغة السوق، أو لغة الشارع. ونجم يفتخر بهذا فقد جاء من الحارة ومن بين الفقراء وقد توفي والده في صغره فتربى في ملجأ للأيتام قابل فيه عبد الحليم حافظ في الزقازيق عام 1936 ، ولكنهما كانا مختلفين طابعا وسلوكا، لذلك عمل عبد الحليم بعد ذلك كفنان مع الأبنودي- شاعر العامية الكبير الآخر- وليس مع نجم ويجنح نجم إلى القسوة والسوقية في قصائده الهجومية خاصة عندما يهاجم المشاهير في الفن أو السياسة، وقد كان الرئيس السادات يسميه الشاعر البذيء ، ولم يتورع نجم عن مهاجمة نجوم الفن والشعر في عصره مثل عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وصلاح جاهين.. وقد كانوا جميعا ينعمون بالشهرة والمال والمكانة الاجتماعية والتقدير الرسمي من الدولة ما عداه هو فقد حظى فقط بالشهرة ومحبة الناس ولكنه ظل فقيرا معدما وظل مطاردا مطرودا من الساحة الفنية الرسمية غير معترف به من الدولة فلا غرابة أن يشعر بالغبن والغضب على زملائه المشاهير من الشعراء والفنانين وقد هاجم عبد الحليم دون أن يسميه قائلا : لماليمو الشخلولة الدلوعة الكتكوت.. الليلة حيتنهد ويغني ويموت.. يشيلوه قال على لندن.. علشان جده هناك.. من بعد ما يتلايم على دخل الشباك.. ويهرب أموالك ويقول لك أهواك. وواضح أنه يقصد عبد الحليم الذي لا يستحق هذا الهجوم الذي لم يرحمه حتى في مرضه، ولا شك أن نجم قد تطاول دون حق إذ يتهم عبد الحليم بتهريب أموال الناس.. وإعجابنا بنجم لا يضطرنا إلى الإعجاب بكل ما يقول ويفعل، وفي قصيدة أخرى يلمز شاعر العامية الشهير الآخر صلاح جاهين الذي كتب أجمل اغاني وأناشيد ثورة 52 ومدح عبد الناصر وبعد نكسة 67 طلق الاغاني الوطنية وكتب أغنيات فيلم سعاد حسني الشهير خللي بالك من زوزو مما دفع بعض المثقفين إلى إتهام جاهين ببيع مبادئه وتخليه عن دوره السياسي، وكان منهم نجم الذي قال يهاجم جاهين باعتباره الشاعر الذي وصفه بأنه: نازل يقزقز أزاأوزو... وخللي بالك من زوزو.. ورغم أن قصائد نجم هذه تهاجم فنانين وشعراء نحبهم ونقدرهم وقد نرفض تهجم نجم عليهم إلا إننا لا نملك أن نحرمه حقه في حرية التعبير عن مشاعره وكما نتفهم دوافعه لتلك الإتهامات والتهجمات التي ربما كانت تستند على جزء من الحقيقة وإن تمادت مع مشاعر نجم الجارفة إلى ما بعد حدود المقبول في المجتمع المصري المتسامح الذي يكره التجريح الشخصي ويميل إلى المجاملة والمغفرة .
ويعتبر نجم بأسلوبه الهجومي اللاذع وأحيانا البذئ تلميذا لبيرم التونسي الذي كانت له قصائد يسب فيها الملك فؤاد وزوجته نازلي والتي نفى بسببها إلى خارج مصر لسنوات طويلة.. فنجم من الجيل التالي لجيل بيرم من شعراء المصرية المرموقين، وهو الجيل الذي منحنا فرسان الشعر العامي الثلاثة صلاح جاهين والأبنودي ونجم، ويختلف كل واحد من هؤلاء عن الآخر، فجاهين هو شاعر النخبة وعاميته هي الأقرب إلى الفصحى، كما أنه شاعر فيلسوف أدخل الفلسفة العميقة بأسئلتها الوجودية الكبرى إلى العامية المصرية كما لم يفعل شاعر آخر، وكان منتميا إلى ثورة يوليو بكل جوارحه وآمن بزعامة عبد الناصر وغنى له في أناشيده، فكان ثوريا في فكره المتحرر ولكنه لم يكن تصادميا ولا معارضا لأي نظام لأن هذا ليس من طبيعته المتأملة الرقيقة، أما الأبنودي فيكتب بالعامية شعرا إنسانيا بالغ العذوبة والرهافة والشفافية، بلغة صعيدية شعبية ولكن ليست سوقية وليست حادة أو تصادمية، ولذلك استطاع كجاهين أن يكتب اغنيات لعبد الحليم وحاز على جوائز من الدولة وكان الابنودي أقرب إلى روح الشعر الحقيقية المجنحة ولذلك لم يكن من الغريب أن الشاعر العربي الكبير محمود درويش كان من أصدقائه وكان يعتبره الشاعر الأهم في مصر.
الشاعر الكبير لابد أن تكون دائرة اهتماماته الشعرية كبيرة- تكبر وتخرج عن دائرته المحلية في وطنه لتحتضن وتعبر عن آمال وآلام الإنسان في كل مكان، لذلك نجد أن نجم يكتب مساندا القضايا العربية ثم يتوسع أكثر ليساند القضايا العالمية.. يقول عن فلسطين
: الخط دا خطى .. والكلمة دي ليا.. غطى الورق غطى.. بالدمع يا عنيه.. شط الزتون شطى.. والأرض عربية .. نسيمها أنفاسي .. وترابها من ناسى.. إن رحت أنا ناسى .. ما تنسانيش هي. ثم نراه ينفعل عند موت جيفارا الثائر الشهير فيكتب قصيدة يغنيها الشباب في مصر هي جيفارا مات .. ويقول مخاطبا غاندي في قصيدة أخرى:لف المغزل تاني تاني.. إغزل توبك واغزل تاني.. ملعونة السلعة البراني.. وكان نجم يشارك في الأحداث السياسية العالمية لبلده والعالم- وكان السادات يشطاط غضبا كلما زار مصر أحد زعماء العالم كالرئيس الأمريكي نكسون أو الفرنسي جيسكار ديسدان ويرحب به الإعلام المصري الرسمي ترحيبا مبالغا فيه ليصدم بعد ذلك بنجم يطلق إحدى قذائفه الشعرية على موكب الاحتفال ساخرا منه لأنه كان يرى أن القيمة كلها للشعب وحده وأن هؤلاء الرؤساء لن يفيدوا مصر بشئ، وعند زيارة نكسون لمصر رحب به نجم قائلا :شرفت يا نكسون بابا.. يا بتاع الووتر جيت.. عملولك قيمة وسيما.. سلاطين الفول والزيت.. فرشوا لك أوسع سكه.. من راس التين على مكة.. وهناك تنفد على عكا.. ويقولوا عليك حجيت.. ما هو مولد ساير داير.. شيلاه يا صحاب البيت..
ويتخلى نجم عن لسانه اللاذع ويصبح رقيقا شفيفا حين يكتب مازجا الحب بالسياسة .. فيقول مخاطبا زوجته عزة بلبع (وقد تزوج قبلها وبعدها عدة مرات) في قصيدة بلدي وحبيبتي: الغرام في الدم سارح.. والهوى طار معزه.. والحنين للقرب بارح.. والنوى جارح يا عزة.. يا ابتسامة فجر هلت.. بددت ليلي الحزين.. يا ندى الصبح اللي سأسأ .. فوق خدودي الدبلانين.. بل شوقهم..صحى لون الورد فيهم.. يا نسيم الحب لما هب.. هز القلب هزة.. يا هوى الاحلام يا عزة.. الليلة دي جم خدوني يا ملاكي .. جوز تنابله ونص دستة من التيران.. كنت باحلم يا حبيبتي.. كنت باحلم بيكي إنتي.. كمموني يا حبيبتي .. كتفوني يا حبيبتي.. قوموني.. قعدوني .. كل شعره في جسمي.. بالعين فتشوها.. المخده من جنانهم شرحوها.. وانتهى التفتيش .. ما فيش .. صدقيني ما تخافيش .. هو فيه يا عزة عندي ممنوعات.. غير باحب الناس .. وباكره السكات.
ولكن أعذب وأقوى أناشيده هي التي يغني فيها لمصر ولعلاقته بها .. أشهرها وأجملها حين يغنيها الشباب في الجامعات والمنتديات هي قصيدته بهية : مصر يامه يا بهية.. يام طرحه وجلابية .. الزمن شاب وإنتي شابه.. هو رايح وانتي جاية.. جاية فوق الصعب ماشية.. فات عليكي ليل وميه.. واحتمالك هو هو .. وابتسامتك هي هي.. تحكي للصبح يصبح .. بعد ليلة ومغربية.. تطلع الشمس تلاقيكي .. معجبانية وصبية .. يا بهية..
أما أجمل قصائده في وصف حالته فهي التي يقول فيها في مزيج من الشجن والعشق والشكوى والكبرياء: ممنوع من السفر .. ممنوع من الغنا.. ممنوع من الكلام .. ممنوع من الاشتياق .. ممنوع من الاستياء.. ممنوع من الابتسام.. وكل يوم في حبك .. تزيد الممنوعات.. وكل يوم با حبك .. اكتر من اللي فات..حبيبتي يا سفينة.. متشوقة وسجينة.. مخبر في كل عقدة.. عسكر في كل مينا.. يمنعني لو أغير ..عليكي أو أطير.. إليكي وأستجير.. بحضنك أو أنام.. في حجرك الوسيع .. وقلبك الربيع.. أعود كما الرضيع.. بحرقة الفطام.. حبيتي يا مدينة.. متزوقة وحزينة.. في كل حارة حسرة .. وفي كل قصر زينة.. ممنوع من أن أصيح.. بعشقك أو أبات.. ممنوع من المناقشة .. ممنوع من السكات.. وكل يوم في حبك.. تزيد الممنوعات.. وكل يوم با حبك.. أكتر من اللي فات.
هكذا الشاعر المارق المتمرد .. الشاعر الذي بلا بيت لأن الوطن كله بيته، بلا عرش سوى قلوب الناس، عشقه الأول هو لمصر، وبعد ذلك عشقه للحياة بكل ما تمنح من إثارة وحرية وفوضى وعنفوان.. عشقه للحياة يتمثل في عشقه للإبداع والخلق، للكلمة الجميلة والجريئة، ويتمثل في عشقه للناس أهله وأهل بلده وللإنسانية جميعا، وفي عشقه للمرأة فيحب كثيرا ويتزوج بنفس العفوية والعنفوان الذي يفعل به كل شئ آخر.. يتصدى للأباطرة والسلاطين فيفضح غطرستهم الفارغة ببراءة كلماته الطفولية الصادقة التي لا تعرف المجاملة ولا النفاق .. رفع صوته أول ما رفعه في وجه عبد الناصر بعد هزيمة 67 فانتشل الوطن والناس من الاستسلام للإحباط وللزيف وبذر في قلوبهم بذرة الرفض والكبرياء والعزيمة والمقاومة فكان سندا لعبد الناصر وللسادات من بعده دون أن يقصد ودون أن أن يدركوا هم، لأنه كان سندا للوطن في الأساس، ولأنه كان المعبر الأهم عن آلام البسطاء وأحلامهم، وكان المتحدث غير الرسمي عن الذين لا يلتف أحد لآرائهم، وكان الفارس المتلفح ببطولة الصدق وشجاعة الحق ورايات الفداء والحب الحقيقي للوطن ضاربا النموذج بحياته نفسها، فهو لم يبع ولم يهادن رغم كثرة الزنانين التي احتوته وحرمته من عيشة هنيئة مع زوجة وأولاد .. إنه الشاعر المشرد الذي لا يرتاح ولا يريح أحدا.. إنه عملة نادرة من الشعراء الكبار قامة وشعرا وتأثيرا وجماهيرية، عملة تكاد أن تنقرض من السوق التي يباع فيها كل شئ.. ولهذا فعلى الأغلب سيكون أحمد فؤاد نجم هو آخر الشعراء الصعاليك الذين تتجلى فيهم عبقرية الشخصية المصرية المبدعة الصاعدة من قلب الحارة الشعبية.. تظل قدماه في تراب بلده، بينما يسبح نجما شاردا بين الشهب.
---
* كاتب مصري يقيم في نيويورك


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.