تمر اليوم الذكرى المائة و إثنان على ميلاد الأديب الكبير علي أحمد باكثير الذي جسد من خلال أدبه نموذج الأديب الثائر و الحالم الذي عبر بأدبه عن حلمه بوجود وحدة عربية و إسلامية بالمعنى الذي يتماشى مع معاني العروبة الحقة و معاني الإسلام الصحيح من خلال مسرحياته و رواياته و قصائده الشعرية حيث قدم للأمة عصارة مجهوداته و تنبؤاته بما سيطفو على سطح الأمتين العربية و الإسلامية لكي نتعظ و نستعد لمواجهة المخاطر و لكن لاحياة لمن تنادي. ولد علي أحمد باكثير يوم 21 ديسمبر من عام 1910 بجزيرة (سورابايا) بأندونيسيا لأبوين يمنيين ينتميان لحضرموت و هنا نجد أن باكثير أكتسب التنوع الثقافي الزاخر ما بين العربية و الإندونيسية كما حدث للشاعر العريق (إبن الرومي) الذي ولد لأب رومي و أم فارسية في حضارة عربية إسلامية أكسبته التنوع الزاخر في الأغراض و المرادفات الشعرية و كانت مناسبة ميلاد باكثير في إندونيسيا لكثرة ترحال أبيه عبر القوافل التجارية فكانت المصادفة في أن يولد هناك. عند بلوغه سن العاشرة سافر باكثير مع أبيه إلى اليمن عام 1920 و مكث مع إخوته من أبيه بحضرموت و بدأ باكثير ينهل من التقاليد العربية و الثقافة العربية متلقيًا تعليمه بمدرسة النهضة العلمية و درس علوم العربية و الشريعة على يد شيوخ أجلاء من بينهم عمه الشاعر اللغوي النحوي القاضي محمد بن محمد بن باكثير و تلقى علوم الدين على يد العلامة الفقيه محمد بن هادي السقاف و هنا بدأت قريحة باكثير الشعرية تظهر و هو في سن الثالثة عشرة من عمره و هذا ما أهله للتدريس بمدرسة النهضة العلمية و تولي إدارتها و هو في العشرين من عمره. تزوج باكثير و هو في سن صغير عام 1928 و هو في الثامنة عشرة من عمره و توفيت زوجته و هو في سن الحادية و العشرين من عمره عام 1931 حيث إختطفها المرض مما أدى إلى تحول باكثير إلى دائرة الحزن و التفكر حيث قام برحلات عدة ما بين الحبشة و الصومال و إستقر زمنًا بالحجاز حيث نظم فيها مطولته الشعرية (نظام البردة) و كتب أول مسرحية شعرية له بعنوان (همام في بلاد الأحقاف) و طبعهما في مصر بعد ذلك. في عام 1934 إلتحق باكثير بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا) و من خلال دراسته كانت القريحة الأدبية تداعبه بنكهة التحدي حينما قال أستاذه الإنجليزي في مادة الأدب الإنجليزي عند تحدثه عن الشعر الحر عام 1936 (إن الإنجليز هم أساس الشعر الحر و لقد حاول الفرنسيون أن يجاروننا في هذا لكنهم فشلوا فشلاً ذريعًا) فرد عليه باكثير (من الممكن أن نساهم في إدخال شعر التفعيلة أو الشعر الحر في الأدب العربي) فرد عليه الأستاذ (هذا الكلام ما هو إلا هراء) فأستُفز باكثير من هذا الرد فقام في نفس اليوم بقراءة مسرحية (روميو و جولييت) لشكسبير و قام بترجمتها و نظمها نظمًا شعريًا تفعيليًا كانت بمثابة نصرة غالية للغتنا العربية ليكسب التحدي و لتكون اللغة العربية هي الفائز الحقيقي في تلك المعركة و تلتها بعد ذلك كأداة توكيد على تمكن العربية في الإبتكار حينما قام عام 1938 بنظم مسرحية (إخناتون و نفرتيتي) بنظام الشعر المرسل و باركه على تلك التجربة الأديب العملاق عبد القادر المازني ليكون بحق (أبو الشعر الحر في الأدب العربي). (علي أحمد باكثير في أعقاب وصوله للقاهرة عام 1934) تخرج باكثير من الجامعة عام 1939 و في عام 1940 حصل على دبلوم معهد التربية للمعلمين و عمل بالتدريس لمدة أربعة عشر عامًا و سافر خلال تلك الفترة إلى فرنسا عام 1954 في بعثة دراسية حرة و كان باكثير متقنًا للعربية و الإنجليزية و الفرنسية و الملايوية و أثناء عمله بالتدريس عمل لمدة عشرة أعوام بالمنصورة ثم نُقل بعد ذلك إلى القاهرة لينتقل بعدها إلى وزارة الإرشاد القومي (الثقافة) بمصلحة الفنون وقت إنشائها حيث ساهم في تأسيس الفرقة القومية للفنون الشعبية عام 1959 و نُقل بعد ذلك إلى الرقابة على المصنفات الفنية و ظل بوزارة الثقافة حتى وفاته. تزوج باكثير عام 1943 من سيدة مصرية لها إبنة من زوج سابق تكفل هو برعايتها حيث لم يُرزق بأطفال و حصل باكثير على الجنسية المصرية بموجب مرسوم ملكي عام 1951 و أثناء تواجده بمصر ربطته علاقات وطيدة برموز الأدب العربي ك(نجيب محفوظ – توفيق الحكيم – العقاد – المازني – محي الدين الخطيب – صالح جودت – عبد الحميد جودة السحار – محمد عبد الحليم عبدالله) و استطاع باكثير بأعماله المسرحية على وجه التحديد أن يحتل مكانة بارزة بين أدباء عصره. تتسم أعمال باكثير الأدبية و خاصةً المسرحية بأنها تتنبأ بما سيحدث على مدار الأعوام القادمة على جبين الأمة العربية و الإسلامية حيث تنبأ بمأساة فلسطين عام 1944 بملحمته المسرحية (شيلوك الجديد) و التي تنقسم إلى جزئين (المشكلة – الحل) و لكن لم تستفيد الأمة من صيحته و كانت النكبة عام 1948 بقيام دولة إسرائيل ، و في عام 1952 تنبأ بمؤتمر باندونج الذي حدث عام 1955 لعدم الإنحياز حيث تخيل بقيام هذا المؤتمر بنيودلهي و الذي أُعلن فيه عن وفاة الإمبراطورية الإنجليزية ، و في عام 1945 كتب عن الملحمة الإستقلالية لإندونيسيا في مسرحية (عودة الفردوس) و من خلالها ترجم إلى العربية السلام الوطني لإندونيسيا بعد إستقلالها من الإحتلالين الهولندي و الياباني على يد الزعيم أحمد سوكارنو ، تحدث أيضًا باكثير عبر مسرحه بإستفاضة عن القضية الفلسطينية و عن دولة إسرائيل و إرثها من قديم الأزل ما بين الماضي و الحاضر و المستقبل في أعماله التي أرخت لهذا الموضوع (إله إسرائيل – التوراة الضائعة – شعب الله المختار – مسرح السياسة) و في مسرح السياسة على وجه التحديد قام باكثير بعمل إسكتشات تمثيلية قصيرة تعبر عن قضايا الأمتين العربية و الإسلامية في تابلوهات مسرحية شيقة و مفيدة. في رواياته أيضًا كان لباكثير دورًا في إستشفاف الحاضر من صفحات الماضي حيث تنبأ عام 1944 بسقوط الشيوعية من خلال روايته (الثائر الأحمر) و التي حدثت بالفعل عام 1991 بسقوط الاتحاد السوفيتي و تنبأ باكثير بالنكسة التي حدثت عام 1967 من خلال روايته القصيرة (الفارس الجميل) عام 1965عن مواجهة عبدالله بن الزبير في مكة ضد الأمويين بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي ، إلى جانب ذلك قام باكثير بإستعراض الأمجاد و الإنكسارات العربية و الإسلامية في الرواية و المسرح لكي تكون نبراسًا للأجيال القادمة في معرفة موروث أجدادهم ليستشرفوا الحاضر و المستقبل بمعرفة غزيرة في حياة الأمتين و من الأعمال المسرحية التي تحدثت عن هذا (الفرعون الموعود – مسمار جحا – إبراهيم باشا – الوطن الأكبر – حرب البسوس – دار بن لقمان – أوزوريس – هاروت و ماروت – شادية الإسلام الشيماء – الفلاح الفصيح – هكذا لقي الله عمر (عمر ين عبد العزيز) – سر الحاكم بأمر الله – أبودلامة – سر شهرزاد – فاوست الجديد – جلفدان هانم – الدكتور حازم – حبل الغسيل – قطط و فئران – الدنيا فوضى). في الرواية أيضًا قام باكثير بإستعراض أمجاد و أحزان الأمتين ك(و إسلاماه – سيرة شجاع – سلامة القس – ليلة النهر – عودة المشتاق) و عُرف باكثير بتمسكه الشديد بعروبته و إسلاميته و التي نضحت عبر المحبرة على أوراق أعماله الخالدة مما عرضه للإضطهاد من قبل وزارة الثقافة التي كانت تتجه نحو الفكر الإشتراكي و اليساري مما عرضه للإهمال هو و عبد الحميد جودة السحار و محمد عبد الحليم عبدالله لإعتقادهم أن التحدث عن الدين و ماضي هذا الدين ضربًا من ضروب الرجعية و أن ما هم فيه نوعًا من التقدمية مما وضع تلك الأسماء و من بينهم باكثير في غيابات التناسي و ليس النسيان. حصل باكثير على منحة التفرغ لمدة عامين (1961 – 1963) حيث أنجز الملحمة الإسلامية المسرحية (الملحمة العمرية) عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه و أرضاه في 19 جزءًا و هي ثاني أطول عمل مسرحي عالميًا و كان باكثير أول أديب مصري يُمنح هذا التفرغ و بعدها حصل على تفرغ ثاني لعمل ملحمة مسرحية عن غزو نابليون لمصر في ثلاثية مسرحية (الدودة و الثعبان (جيش الشعب) – أحلام نابليون – مأساة زينب) و كان له دور محوري في التنبه لقضية فلسطين عبر مسرحية (مأساة أوديب) التي ترجمت إلى الفرنسية و عرضها برؤية إسلامية عميقة تختلف عن الرؤية الأسطورية لسوفوكليس و توفيق الحكيم و عبد الرحمن الشرقاوي و فوزي فهمي و علي سالم. سخر منه التيار الشيوعي لإتجاهه الإسلامي حيث أطلقوا عليه على أحمد إسلامستان و كان دائمًا يقول (أنا على يقين بأن هناك جيلاً سيقدر أدبي و مسرحي و شعري يومًا ما بعد أن يظهر الحق و يشع نوره في أمتنا) و بالفعل ظهر من يقدر الفكر و الحق و هو عبد الحكيم الزبيدي الذي أسس موقع لباكثير و أقام له المعارض و المهرجانات المسرحية و هناك أيضًا شريكه أبوبكر حميد الذي جمع له الشعر المجهول و المخطوطات المجهولة كمسرحية (لباس العفة) التي سخر فيها من الحبيب بورقيبة رئيس تونس بدعوته عام 1965 بعقد سلام مع إسرائيل قبل مبادرة السادات بإثنى عشر عامًا و من أعماله الشعرية (ديوان علي أحمد باكثير : أزهار الربى في أشعار الصبى) و حصل باكثير على العديد من الجوائز كجائزة قوت القلوب الدمرداشية عام 1943 عن (سلامة القس) مناصفةً مع نجيب محفوظ عن روايته (رادوبيس) و حصل على جائزة وزارة المعارف عن (و إسلاماه) مناصفةً مع نجيب محفوظ عن (كفاح طيبة) و جائزة وزارة المعارف عام 1949 عن مسرحية (السلسلة و الغفران) و حصل على جائزة الدولة التقديرية مناصفةً مع نجيب محفوظ. توفي علي أحمد باكثير يوم 10 نوفمبر من عام 1969 و دُفن بمقابر الإمام الشافعي لدى مقابر زوجته المصرية ليتوهج اسمه و هو راحل عنا بجسده و ليؤكد نبوغه الأدبي أكثر فأكثر مصداقًا لقوله تعالى (فأما الزبد فيذهب جُفاءً و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) صدق الله العظيم