كل أزمة تنطوي على فرصة، وبوسع الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يحول الأزمة الحالية، وهي أكبر أزمة تواجه النظام الحالي في مصر، إلى فرصة هائلة، تعيد النظر جوهريا في مسيرة عام ونصف العام من الحكم بالقطعة، وتبني نظام جديد بالجملة، وباختيارات سياسية واقتصادية واجتماعية ذات قاعدة شعبية واسعة. عنوان الأزمة بات معروفا، وهو الحصار الغربي الجاري لوقف تدفق السياح إلى مصر، وإشاعة إيحاءات كاذبة بأن البلد يفتقر إلى عنصر الأمن الضروري، بما يقلص حركة الاستثمارات، ويهدف للتجويع وضرب الاقتصاد، وإرغام النظام المصري على تجميد العلاقات النامية والمتطورة مع روسيا، وإعادة مصر إلى حظيرة علاقات التبعية الموروثة لواشنطن والغرب عموما، وما من أحد عاقل، ينكر مغزى ما جرى إثر حادث سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء، وبدء حملة مخططة ومنسقة للهجوم على مصر، بدأت من إسرائيل، التي أعد جهاز مخابراتها «الموساد» تقريرا عن حادث الطائرة، لم تبلغ به مصر عبر قنوات المخابرات المفتوحة، وإنما أمدت به أجهزة المخابرات البريطانية والأمريكية، والتى نسبته إلى نفسها، كما قالت صحيفة «جويش كرونيكل» اليهودية البريطانية صباح زيارة السيسي إلى لندن، ثم أعلنت إسرائيل رسميا في ما بعد عما جرى، وهكذا اكتملت القصة المروجة، التي تتحدث عن اعتراضات مخابراتية لاتصالات هاتفية وإلكترونية بين قادة «داعش» في سوريا وعناصرها في سيناء، تفيد بالإعداد لعملية كبرى مدوية في سيناء، أو تزهو وتتباهى في قول آخر بنجاح «داعش» في إسقاط الطائرة الروسية، ثم أضافت المخابرات الأمريكية للقصة فول وفلافل «الوهج الحراري» الذي قيل إن الأقمار الاصطناعية التقطته، وفيما أصبح معروفا بسيناريو القنبلة، التي تسربت إلى أمتعة الركاب الروس، بما يوحي بخرق أمني في مطار «شرم الشيخ» الذي أقلعت منه الطائرة المنكوبة، وهو ما لم يثبت بعد لدى لجنة التحقيق الدولية المكلفة بالفحص الفني، والمكونة من خبراء مصريين وروس وفرنسيين وألمان وأيرلنديين، ولم تكلف أجهزة المخابرات المدعية، ولا دولها التي تدعي صداقة مصر، نفسها عناء وواجب تزويد لجنة التحقيق الدولية بالمعلومات المتوافرة، وكانت تلك أول سقطة كشفت المستور، ثم كانت السقطة الثانية بعدم إبلاغ المخابرات المصرية بالمعلومات إياها وفقا لنصوص قرارات الأممالمتحدة المتعلقة بمكافحة الإرهاب، ثم كانت السقطة الكبرى ببدء حملة سياسية وإعلامية جهولة ضد مصر، وصلت إلى حد الادعاء المثير للسخرية باستهداف صاروخ حربي مصري لطائرة مدنية بريطانية، ثم جرى اتخاذ زيارة السيسي إلى لندن منصة إطلاق للحرب، وأعلن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في جلافة ظاهرة عن سحب السياح من مصر، بما استدعى حركة قطع «الدومينو» سحبا لسياح دول عديدة بمن فيهم الروس، بادعاء وجود خطر ماثل على حياتهم، فيما لم يكن من وجود لخطر على الإطلاق، فشرم الشيخ المشرقة أكثر أمانا من لندن المعتمة، ومطارها أكثر أمانا من مطار «هيثرو»، والإجراءات الأمنية المتبعة في «شرم الشيخ»، راجعتها لندن بنفسها مرارا وتكرارا عبر عشرة شهور مضت، ثم أن حوادث الطائرات وقعت وتقع بالعشرات، ولم يترتب على أي منها مقاطعة سفر للدول التي وقعت على أراضيها، ولا تحريم الإقلاع والهبوط في مطاراتها، وبينها حوادث إرهابية لطائرات انطلقت من مطارات أمريكاوبريطانيا، وعلى طريقة حادث طائرة «بان أميركان» الشهير، التي تحطمت وقتل جميع ركابها على أراضي «لوكربي» البريطانية، وحوادث طائرات تدمير برج التجارة العالمي ومبنى البنتاغون في سبتمبر 2001، ولم يطلب أحد وقتها مقاطعة المطارات الأمريكية والبريطانية، ولا طلب أحد مقاطعة مطارات ماليزيا بعد تتابع سقوط طائراتها قبل شهور، والأمثلة لا تحصى في بلدان الدنيا كلها، لكن «الغرض مرض» كما تقول الحكمة الشائعة، فالقصة ليست في حادث الطائرة الروسية، بل القصة في انتهاز وربما اصطناع الفرص، فحتى لو ثبتت صحة سيناريو القنبلة افتراضا، وحتى لو صار حقيقة مسلما بها بعد اكتمال أعمال لجنة التحقيق الدولية، فهذه ليست نهاية العالم، وخطر الإرهاب وارد في كل زمان ومكان، وإجراءات الأمن في سباق دائم مع ما يستجد من خطط الإرهاب، وإن كان تتابع الوقائع يوحى بما هو أخطر هذه المرة، فتقارير المخابرات إياها تثبت التواطؤ العلني المفضوح مع ادعاءات «داعش»، بل ربما تثبت احتمال التخطيط المشترك بين «داعش» ورفاقها الإسرائيليين والأمريكيين والبريطانيين، وهو ما صارت القاهرة تدرك مغزاه يقينا، وتتصرف على أساسه مع موسكو، وهو ما يفسر الإعلان الرسمي الروسي بعدها عن مفاوضات توريد صواريخ «إس 300» إلى الجيش المصري، فقد جرى إفشال عملية «دق الإسفين» في علاقات القاهرةوموسكو، وتبقى رد القاهرة نفسها على الحملة التي كلفت بقيادتها بريطانيا، والتي لم تنس أبدا، أن مصر هي التي قطعت «ذيل الأسد» البريطاني في معركة السويس1956، وعجلت بنهاية الامبراطورية البريطانية التي كانت لا تغرب عنها الشمس. نعود إلى الخيط الأساسي، وهو الفرصة التي تنطوي عليها الأزمة، التي تتطلب ردا في الداخل قبل وبعد الخارج الدولي، فبريطانيا هي المحتل السابق لمصر سياسيا وعسكريا، وأمريكا هي المحتل اللاحق سياسيا، والتي آل إليها دور «المندوب السامي» في مصر، وعلى مدى عقود تلت سريان اتفاقية العار المعروفة باسم «معاهدة السلام»، التي لحقتها المعونة الأمريكية الضامنة، وقد هددت واشنطن بخفض أو قطع المعونة بعد إزاحة حكم الإخوان المفضل أمريكيا كحكم المخلوع مبارك، ونزل التهديد الأمريكي بردا وسلاما على قلوب المصريين، فلا شعب يكره السياسة الأمريكية كما الشعب المصري، ولم تبال القيادة الجديدة بالتهديدات، التي جرى تنفيذها فعليا عبر 14 شهرا في المدة من سبتمبر 2013 إلى نوفمبر 2014، واضطرت واشنطن بعدها إلى التراجع جزئيا، وبدأ الإفراج عن طائرات «الأباتشي» وطائرات «إف 16 « المقرر توريدها إلى مصر، وبدون أن يؤثر التهديد ولا التراجع على خطة كسب الاستقلال الوطني، وتنويع مصادر السلاح، وتطوير صناعة السلاح المصرية، وتعظيم القوة الذاتية للجيش، ومد سيطرة قوات الجيش المصري إلى خط الحدود الدولية المصرية الفلسطينية، وفي واقعة تحدث لأول مرة منذ ما قبل هزيمة 1967، وبما أنهى شروط ومناطق نزع السلاح في سيناء بحسب الملحق الأمني لمعاهدة العار، ثم أكدت مصر خروجها التدريجي المدروس من خيمة التبعية الأمريكية، وقررت رفض عروض أمريكاوبريطانيا الغبية بتوفير مساعدة مسلحة أو استشارية في سيناء، وقررت استئناف مشروعها النووي السلمي بعد توقف دام لأربعين سنة، وبدت الخطوات المتتابعة موجعة لواشنطن، فهي تكاد تفقد سلطانها في مصر، فأمريكا تحتفظ في مصر بما كان أكبر سفارة من نوعها في العالم، ثم نزلت إلى المرتبة الثانية بعد سفارة واشنطن في العراق بعد احتلاله، وثمة 31 ألف أمريكي رسمي وشبه رسمي في مصر، التي راحت تطور سياسة التوجه شرقا، وأيدت التدخل الروسي في سوريا، ودخلت طرفا مؤثرا في عملية إنقاذ سوريا من التحطيم والتفكيك النهائي، وهو ما كان يتوقع معه بالبداهة، أن تلجأ واشنطن لخطط إخضاع مصر، حتى لو تورطت في عملية مكشوفة لإسقاط السيسي، وعلى نحو ما جرت عليه «البروفة الغربية» بعد حادث الطائرة الروسية، فلم تعد أمريكا تثق في خطة احتواء مصر بالكلام الدبلوماسي الناعم، ولا بقطرات المعونة العسكرية، فالقيادة المصرية تتمتع بمهارة براغماتية ظاهرة، وهو ما يدفع واشنطن إلى الانتقال من الاحتواء الفاشل إلى الضغط الداهس، والتحرك لإنهاك الوضع الاقتصادي، خاصة أنها تعرف ما صنعته سياستها بمصر واقتصادها، وتدمير أساسه الانتاجي بالخصخصة، وتحويله إلى اقتصاد ريع ومعونات، يعتمد على عوائد السياحة كمصدر رئيسي، إلى جوار رسوم المرور في قناة السويس وتحويلات العاملين المصريين بالخارج، وكلها موارد هشة عرضة لتقلبات السياسة، ومن هنا نفهم سر حملة الحصار الجارية، التي كلفت «بريطانيا» بدور رأس الحربة فيها، فلم يعد لبريطانيا من دور سوى كونها «ذيل الكلب» الأمريكي، وواشنطن تلجأ إلى لندن لخبرتها الطويلة التاريخية بالمنطقة وبأحوال مصر بالذات، وهو ما يفسر مسارعة أوباما والبيت الأبيض إلى دعم تصريحات وحملة ديفيد كاميرون المتفق عليها، فوق أن واشنطن تملك في مصر قوى وجماعات ضغط لاتزال مؤثرة جدا، بينها جماعات مثقفى «المارينز»، وأظهرها جماعة «رأسمالية المحاسيب»، التي تشكل بامتداداتها نحو واحد بالمئة من السكان، يملكون نصف الثروة المصرية بالتمام والكمال، وكانت «المعونة الأمريكية» هي الحاضنة والمولدة الأولى لمليارديرات «رأسمالية المحاسيب»، التي تحالفت مع البيروقراطية الفاسدة في جهاز الدولة المتهالك، وكونت ما قد تصح تسميته «تحالف المماليك» المسيطر إلى الآن على الاقتصاد والحكومة والإعلام، ويشكل أكبر خطر على الرئيس السيسي، فلا يكفي جهد الرجل المقدر لتحرير الجيش من سيطرة واحتكار التسليح الأمريكي، بل لابد فيما نعتقد ونسعى من جهد أكبر لتحرير الاقتصاد والمجتمع من «تحالف المماليك» الموالى موضوعيا للأمريكيين، وخطر «المماليك» أكبر من خطر «الإخوان» الذي صار هامشيا، وخطر الفساد أكبر من خطر الإرهاب الذي تتراجع معدلاته، والمعنى الذي نقصده ظاهر جدا، فلا يمكن صنع وإدامة سياسة خارجية مستقرة بدون تغير جوهري وجراحة كبرى في الاختيارات الداخلية، وإنهاء الفصام النكد الذي يعيشه النظام إلى الآن، فثمة رئيس جديد لا يزال يحكم بالنظام القديم نفسه وثمة رئيس يحكم بلا مؤسسة رئاسة تسند، ويبدو وحيدا متروكا إلا من دعم الجيش، وثمة فوضى هائلة في الوضع الداخلي، تخلق بيئة هشة يستفيد بها الضغط الخارجي والأمريكي بالذات، ويجند لها أعوانه في اقتصاد وإعلام الداخل، ويعزل حركة وقرارات الرئيس عن حس ومصالح الأغلبية الشعبية الأوسع من الفقراء والطبقات الوسطى، التي تشكل 90% من المصريين، لا يملكون بالكاد سوى ربع الثروة الوطنية، وينهشهم الفقر والمرض والبطالة والبؤس وخيبة الأمل، وهؤلاء هم الحصن الحصين لأي حاكم يتطلع إلى خدمة شعبه، وقد نفد صبرهم أو يكاد، وقاطعوا بالأغلبية انتخابات البرلمان في نوبة عصيان مدني على طريقة «خليك في البيت»، وبدت المقاطعة الواسعة كإنذار غضب للرئيس السيسي، تطالبه أن يفعل شيئا قبل فوات الأوان، وقد جاءت الفرصة للرئيس على طبق من ذهب، فالضغط الخارجي يولد تعبئة وطنية عامة، وبوسع الرئيس أن يحول التعبئة إلى فرصة إنقاذ، وأن يعلن الحرب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الداخل، ليس بالقطعة على طريقة ضبط قضايا الفساد ومطاردة مليارديرات النهب التي تتلاحق بوادرها الآن، بل بضربة كاسحة لكنس الفساد، وتعجل ب»مذبحة مماليك» تأخرت مواعيدها كثيرا، وإن لم يفت أوانها تماما. **كاتب المقال كاتب مصري