تحدث فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، في الأيام الثلاثة الأولى من شهر رمضان المبارك في برنامجه اليومي ( قيم مهجورة) الذي يذاع على القناة الأولى والفضائية المصرية قبيل الإفطار – عن قيمة الصبر في حياتنا. وقد أكد فضيلته أن الصبر من القيم الإنسانية المهجورة، التي لو تبناها الإنسان، لتحقق له الخير الكثيرً في حياته، وأن الصبر معناه : حبس النَّفْس ومنعها من أن تسترسل مع غرائزها وشهواتها، قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾-(الكهف:28)، فالمتأمل في الآية الكريمة يجد أن الصبر فيها نوعان: صبر على الطاعة المتمثل في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحبس نفسه مع هذا الفريق من الذاكرين الله تعالى ليلًا ونهارًا…. ثم صبر على ترك الدنيا والإعراض عنها وعن زينتها…﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾وهو أيضًا صبر على مفارقة الغافلين من أهل الدنيا وعدم الركون إليهم، فالله سبحانه وتعالى يحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الركون إلى هؤلاء الغافلين أو من الاستنامة والاستراحة إلى أهل هذه الدنيا. وأضاف فضيلته أن الصبر من أكثر القيم الأخلاقية دوارنًا في القرآن الكريم، ذُكِرَ في القرآن الكريم أكثر من 90 مرة، وأُمِرَ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وأُمِرَ به المسلمون، ورتب الله عليه جزاءً عظيمًا، وهو سلاح المسلم في هذه الحياة المليئة بالمصائب والنوازل والمشقات، التي يجب أن نتعامل معها بالصبر عليها إلى أن تتبدل الأمور وتتغير الأحوال، ولا يعني هذا استسلام الإنسان لما ينزل به من مصائب ونوازل ومتاعب ومشقات، بل هو مدعو شرعًا وعقلاً لأن يَردَّ عنه ما يحيق به من مضار وآلام، فإذا كان الأمر فوق طاقته، فعليه أن يتسلح بالصبر، بدلاً من الجزع واليأس والأمراض النفسية والعصبية. والإنسان إما أن يصبر فيغلبه الألم فيشكو حاله؛ فهذا صبرٌ غير جميل، وإما أن يصبر بلا شكوى ولاجزع ولا ألم؛ فهذا هو الصبر الجميل، روي أن سيدنا يعقوب -عليه السلام- عندما فقد ابنه يوسف -عليه السلام- بكى عليه كثيرًا حتى تهدلت عيناه، فكان يرفعهما بأصابعه لكي يستطيع أن يفتحهما، فكان الناس يسألونه ما هذا؟ فكان يقول: همٌ طويل، وحزنٌ عميق، فسمع من الله سبحانه وتعالى يقول له: أتشكوني إلى خلقي؟ فقال: ربي هذه خطيئةٌ، فاغفرها لي، فسيدنا يعقوب -عليه السلام- حينما قال: همٌ وحزنٌ، كأنه يشكو الله سبحانه وتعالى. والحقيقة أن الإنسان الذي يتبرَّم ويتضجر بما ينزل به، ويشكو للناس، ويقول: حظي كذا وكذا، فهو لا يصبر صبرا جميلا، لأنه يتبرَّم ويتضجَّر، ويشكو الله- تعالى – إلى خلقه ، فمن يندب حظه، هو بمثابة من يشكو ربه ، وهذا صبرٌ غير جميل، ومن يتجرع الصبر ولا يشكو ولا يجزع، فهذا هو الصبر الجميل. وأوضح فضيلته أن الصبر أنواع : 1- الصبر على الطاعات، أو التكاليف؛ كالأمر بالصلاة، فإنه يحتاج إلى صبر لكي تؤدي الصلاة وتقوم في صلاة الفجر وتترك النوم وتغتسل وتقوم وتقف وتخضع، هذا كله يحتاج إلى صبر، الصوم أيضًا يحتاج إلى صبر، وهو يُعلِّم الصبر أيضًا، ودفع الزكاة، لأنك تقتطع جزءا من مالك وتخرجه، هذا يحتاج إلى صبر، والحج أيضًا واضح أنه يحتاج إلى صبر، وهكذا…، 2- الصبر عن المعاصي؛ لأن المعاصي كلها إغراءات وكلها شهوات وكلها لذائذ، والنفس تهفو وتطير إليها فرحًا أو شوقًا، فأنت تحتاج إذن إلى أن تكبح جماح النفس وجماح الهوى، فما هو سلاحك في هذا الكبح؟ هو الصبر… 3- الصبرُ على تصاريف الأقدار والابتلاءات التي تنزل بالإنسان من مرضٍ، من فقد حبيبٍ، من فقر… فالإنسان معرضٌ للشدائد ومعرض للابتلاء، وكما هو مُعرَّض للصحة مُعرَّضٌ للمرض، وكما هو معرض لمباهج الحياة معرض لشدائد الحياة : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) فإذا تعرض الإنسان لهذه الشدائد والابتلاءات، فليس أمامه إلا أن يصبر، ولا يجزع و لا ييأس و لايحبط. كما أوضح فضيلته أن حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – وحياة الأنبياء بشكلٍ عام كانت حياة كفاح ومشاق؛ لتغيير أخلاق الناس والمجتمعات، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سيد الصابرين، ومع ذلك يوصيه القرآن الكريم بأن يكون دائمًا صابرًا، قال تعالى: «وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا» {الزمر: 10}، والهجر هنا أي: هجر تبقي فيه على بعض الود، أو على بعض الاتصال؛ ولذلك أكثر الناس ابتلاءً هم الأنبياء، لأن البلاء يحتاج إلى صبر، والصبر دائمًا هو مرحلة أو مشوار، أو مسافة نهايتها دائمًا الفرج، ففي الحديث الشريف: «وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»، أي: أن الضيق الذي تشعر به، ولا تعرف ماذا تفعل، سينكشف مع الصبر، لكن متى ينكشف؟ هذا في علم الغيب، «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»، فنلاحظ أن العسر مُعرَّف بالألف واللام، واليسر منكَّر، والآية التي تليها نفس الشيء، فيها العسر مُعرَّف واليُسر مُنكَّر، ففي اللغة العربية: إذا كرر المُعرَّف يكون واحدا، وإذا كررالمُنكَّر يكون اثنين، فإذن اليسر اثنان، والعسر واحد، ففي الآيتين الكريمتين تكرر اليسر منكرا، فأصبح عندي يسران، وتكرر العسر المعرف، فأصبح عندي عسر واحد، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولَن يغلبَ عسرٌ يُسرين»