كنت أتذكر - بشيئ من الضيق - أيام ذهابي إلي منزل طفل الصف الثاني الإبتدائي ، كي أعلمه كيف يكتب حروف اللغة الإنجليزية ، وكانت تتجدد حالة الضيق لديَ ، كلما تذكرت إخفاقي في إزالة كم البلادة والتأخر اللذين سيطرا علي ذهن الطفل اللعوب ، الذي أبي أن يتعلم ، ويأخذ مساره الطبيعي في الذهاب للمدرسة واستذكار دروسه وعمل واجباته ، مثل غيره من قرناء جيله . كان الطبيعي لأي طفل في هذه السن الصغيره أن يحب مدرسته، أما ذلك الطفل المختلف - كلياً - عن زملائه ، فقد أبي أن يتعلم أو يتقبل أي شيئ يرتبط بالتعليم أو المذاكرة ، بل صمَ آذانه الصغيره ولم يسمع لنصيحة أحد ، ولم تفلح معه كل أساليب الترغيب أو الترهيب التي استخدمتها معه كي يتحسن ويقبل التعلم ، بل يكن يهوي أويجيد إلا الجلوس واللعب أمام الكمبيوتر واستخدامه كل ألعابه ، حتي ملكة الذكاء داخل عقله ، فقد وجهها نحو استخدام الانترنت وأجهزة التكنولوجيا الحديثة كالموبيل والتابلت ، والقدرة علي استخدام برامجهم بإتقان ، في الوقت الذي فشل فيه ، في تعلم ولو بعض حروف اللغة الإنجليزية علي مدارعام دراسي كامل . كان الطفل يحضر إلي المدرسة أياماً قليله من كل أسبوع ، وكان يجلس في مقعده كالضيف ، ولم يطاوع عقله مره بأن يخرج كتاباً أو كراسه أو قلماً ليكتب جمل واجباته كباقي زملائه ، وعندما كنت أسأله عن السبب ، يبتسم ، ولا يتكلم ليبرر سبباً لتصرفه الغريب ، بل كان الطفل العجيب ، يكره كلمة مذاكرة أو كتابة الواجبات ، بل تراه يجري هنا وهناك ، أو يهرول إلي محلات الحلوي التي يمتلكها والده كي يختبئ فيها هرباً من معلم الدرس المنزلي ، وفراً من حصته التي يراها أثقل علي صدره ونفسه من أي شيئ . كان الطفل يشعر بداخله ، ويُشعر من حوله بأن المدرسة الخاصة التي يتعلم بها ، ومن فيها من معلمين ، وما يتلقي بداخل فصولها من دروس ، وما يحمل في حقيبته من كتب وكراسات وأقلام ، اعتبرهم جميعاً أشخاصاً وأشياءً ورموزاً لا تمثل له أي شيئ !! باءت كل محاولاتي بالفشل الذريع ، لأن أنهض بمستوي تلميذ الصف الثاني الإبتدائي ، ولو درجة واحده ، ولكن خيبة الأمل كانت تلاحقني وتلاحقه ، وذات مره كنت أشرح له بأن حرف ال"O " يأخذ شكل البرتقاله أو رقم "5 " ، فكان يعاني ويأخذ بعض الوقت في التفكير لكي يتخيل شكل العدد " 5 " كي يرسمه فيكون مثل حرف ال " O " ، بل لا تغيب عن ذاكرتي لحظة أن طلبت منه ، كتابة حرف ال " i " الصغيرة ، فرسم عصا واقفه ، ثم فاجئني بوضع همزه فوقها ، بدلاً من النقطة ، كما لو كان يكتب ألف فوقه همزة في حصة اللغه العربية .. نعم لقد حدث هذا !! ومع ذلك فإن الطفل البليد ذهنياً ، لم يكن يرهقني في كتابة حرف ال X " " ، فكان يرسمه علي صفحة الكراسة بكل سهوله عندما أذكره أنه يأخذ شكل المقص ، وكذلك كنت أعلمه أن حرف ال " " Uمثل كوب المياه المعدول، وأن ال " n " الصغيرة تأخذ شكل كوب المياه المقلوب ، فكان يرسمهم بسهوله عندما أقارن له تلك الأحرف بما تشبهه من أشكال الأكواب الزجاجية المستوية والمقلوبة ، أما معظم الحروف الباقية ، فكان الطفل يعاني الأمرًين في تذكر أشكالهم وكتابتهم ، وكان يفشل ويبتسم ولا يتكلم ، بل لم يبالي بما هو فيه من تدني في مستوي تعليمه ، في الوقت الذي أتقن فيه زملائه قراءة وكتابة وحفظ الحروف والجمل والكلمات ، ثم تسميعها كتابياً بخطٍ جميل أو شفهياً بنطقٍ سليم ، بكل سهولة ويسر !! كان الطفل حريصاً علي تضييع أو إخفاء كراسات الدرس التي تحمل واجباته ، هروباً من عمل تلك الواجبات البسيطة ، وكان كل مره يأتيني بكراسه جديده ، وكثيرا ما كانت كراسة لغة عربية بدلاً من كراسة للإنجليزية ، ثم يظهر لي قلمه الرصاص مقصوفاً ، حيث كان يضيِع ما تبقي من الحصة في البحث عن " براية " كي يبري قلمه ، ثم يلتف ليبحث عن ممحاه - هنا وهناك - ليزيل أخطاؤه الكتابيه بسبب خطه السيئ . في أوقات كثيره كنت أطلب من الخادمه التي تعمل لديهم بالمنزل ، أن تكون هي المسئوله عن الحفاظ علي الأدوات الكتابية الخاصة بالطفل المهمل ، بعدما وجدت أن أفراد أسرة الطفل – ومنهم جامعيون – كل فرد في وادي ، والطفل في وادي آخر ، ولم يجد الطفل من يهتم به سواء أبيه ، الذي شغلته التجاره ومكاسبها ، أو أحداً من إخوته الذين تنصَلوا من المسئوليه ، إلا أخته الكبري ، التي كانت تسأل عن أخيها علي فترات متباعده ، ووالدته التي كانت تداعبها عاطفة الأمومه ، وتتمني أن يكون طفلها طبيعياً وراغباً في حب المدرسة والتعليم كباقي أقرانه ، وكانت أم الطفل دائما ما توصيني ألا أتخلي عن وحيدها وفلذة كبدها ، وأن أشدد عليه ، وأضربه حتي يتألم ، ويتعلم ، ويا ليته يتعلم .. يا ليته يتعلم !!