لم يكن يدرك أبدا ما ادركه الأن ، إنه سيتعذب كل هذا العذاب وسيلتهمه الوجع طيلة سبع سنوات ماضية ،منذ أن فارقت الروح جسدها ، ووجد نفسه في حضرة الموت مع جسدها الهزيل الذي كان وليمة سائغة تتقاسمها الأمراض ، فمنذ ذلك الحين علمه الجسد المسجي امامه بلا نبض البكاء ، فأخذ يبكي وينتحب كالأطفال وهو رجل الثلاثين الذي عاش منذ طفولته ضنين البكاء والدموع ، دموعه الأن تجري وتأبى التوقف ولو لبرهة ، لم يكن يتصور ما اصابه من لوعة واسى ، وكيف كان يولول كالنساء عند رحيلها ، الأه تشق صدره وهو يصرخ ملتاعا : أه لو تعرفين كم أحببتك ! أه لو تعودين ولو لحظة لتسمعين ما ارادت ِ سماعه طيلة حياتك ! كان حزنه مزيجا من مشاعر الحزن والندم، خطفته فوضى الحياة بعيدا عنها ، فقد كان لحضوره غيبة سببتها ظروف حياته القاسية التي علمته القسوة ، حينما نشأ طفلا يتيما ، رباه جده لأمه تربية مشددة ظنا منه إنه بذلك يزرع فيه بذور الرجولة ، فكان مطالبا أن يكون رجلا منذ نعومة أظافره ، وهكذا امتدت به الحياه ، وهو مرتديا قتاع من القسوة والجفاء كي يعزل نفسه عن أى مشاعر قد تضعفه يوما ما وتبعده عن ثقافة الذكورة ، فالرجل لا يبكي ، الرجل لا يظهر مشاعره ، الرجل يكبت عواطفه ، حتى بات قناعه ملتصقا به ولم يعد يعرف أهو قناع يستطيع خلعه أينما يريد أم هو وجهه الحقيقي . أما هي فقد اصابها الكثير من قسوته التي اعمته عن احتياجها له ، كان يدرك جيدا إنها تتمنى أن تلتمس عنده الحنان الذي فقدته ، مساحة من الفضفضة لمتاعبها ووحدتها ، مساندة تعينها على قسوة حياة زادتها قسوته هو ، ولكنه كان دائما مقتضب الحديث معها ، ضنين الكلمات ، ينصب كلامه دائما على أوامر وفرمانات ( افعلى كذا .. احضري كذا .. اريد كذا ) معتمدا على عطاءها المنهمر تسامحها اللامحدود ، بل كان دائم النقد لها وعلى تصرفاتها التي كان يعتبرها تقاليد بالية ، وهي سلوكيات تنبع من كم مشاعرها المتدفقة ، كثيرا ما لامها حينما تتذكر موتاها ، وتحيي ذكراهم وتزور مقابرهم في المناسبات ، الأن هو يفعل ماكان يلومها عليه ، الأن يزور قبرها في كل مناسبة وعند أى احتياج لها ، وما أكثر لحظات احتياجه لها ، ، فمن غيرها كان ممكن أن يحتمل قسوته المقنعة ! طيلة سبع سنوات من الوجع لم يتوقف عقله عن افراز الذكريات عنها ، تقتحمه صورها كل حين ، لم يشف قطا من ألم الفقد والحرمان ، مهما زارها ،ودائما وأبدا وهو واقفا أمام قبرها يشتعل فيه جمر الحزن الممزوج بندمه ويتذكر حينما سألته يوما : يعني لما اموت مش هاتزور قبري ولا تفتكرني في ذكراي؟ كان يرد بلا مبالاة معتادة ساخرا : لأ طبعا يادوبك ذكرى الأربعين ، وازور قبرك ليه ، مش هايكون فيه إلأ شوية عضم . تصمت هي بمشاعر خزلة حزينة .... الأن وهو فى حضرة الموت بين صمت القبور يحاول أن يستعير منها السكون والصمت، ولكن صرخة قوية بداخله يستنطقها الوجع الساكن فيه منذ رحيلها فينطق صارخا : أأأه كم احتاجك ِ الأن وكل أوان ....أأه يا أمي لو تعرفين كم أحببتكِ .