درويشُ اسمٌ من مفرداتِ اللغة، عاش الحلُم مرّتين وفي المرتين لم يتحقق من الحلم غير الاستيقاظ على عجل. درويش لغةٌ بلا لُغة وعنوان بلا عُنوان، وطنٌ صغير في الديار الهاربة، وصوتٌ شحيحٌ لضوءِ القمرِ، يحتَرقُ بِفكرهِ لكي يوقظ عنفوان الأمم. محمود درويش ريشةٌ أخرى تُلاطفُ خدَّ ذاكَ الأفق وتمنحُ طير هذا الزمنِ المرهون للأحلام يقظتهُ الطويلة . درويش كان سفينة للشرقِ تحمِلُ فوقها وجع البحار وأغاني يطرب الأشرارُ مِن وَقعِ خُطاها ومرايا تَكسِرُ الإيقاع حتى تولدَ الكلماتُ مِن رحمِ القضية وكأنَّها قضيتُهُ لِوحدهِ . محمود درويش؛ اسمي وإن أخطأت اسمي.. بخمسة أحرف أفقية التكوين لي ميم المتيم والميتم والمتمم ما مضى.. حاء الحديقة والحبيبة حيرتان وحسرتان ميم المغامر والمعد المستعد لموته.. الموعود منفيا مريض المشتهى واو الوداع ؛ الوردة الوسطى ولاء للولادة أينما وجدت ووعد الوالدين ... دال الدليل الدرب دمعه.. دارة درست ودوري يدللني ويدميني وهذا الاسم لي ولأصدقائي أينما كانوا... ربَّما كانَت الأضدادُ تمنحُهُ الهوية فالحروف العابراتُ كظلِّها من شُرفةٍ لم تعرف من اللغة إلا المُفردات الناعِسة فكما كانت تقودهُ لكتابة الأشعار كانت هي الأخرى تُطلق لأفكاره العنان بحثاً عن هويةٍ مؤقتة وكأنَّهُ عرفَ آنذاكَ بأنهُ سيموتُ منفياً وأضرَم في مُخيلتهِ الخصيبةِ نار التأمل المرهونِ بالأيامِ نضالاً أبدياً . عرفتُ محمود درويش عندما سجل للمرةِ الأولى اسمهُ في جوازِ سفَري، فسجَّلتُ مِثلهُ "أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألفاً" ولم يحن وقتُ السفَر إلا وكانَت الأضدادُ تُعرقلُ الترحال وتخلِّي البال في فوضاهُ حتى بدأتُ أبحثُ عن وطنٍ في الوطنِ الأسود والذي بقيتُ أحسبهُ مُعَبَّداً إلى لحظاتي تلك مستأنِسةً بنبضٍ يتباطأ تارةً تلوَ أخرى. اتَّخذ محمود درويش الحُلم مسكنهُ وحياتهُ فتلاشى الحُلم وبقي الشاعرُ القلم يحنُّ إلى صفحاتِ الأمةِ البيضاء كي يكتُب فوقها ما يشاء فبقي صغيراً ينتظرُ الصدى حين يعودُ مرمياً على ضوضاء الأرصفة ودخان الميادين المطمئنة فكان حنينُهُ رمز التمرّد والتكاثُف في دخان الضوءِ والماء الذي ترسو فيهِ مُعظمُ الكلمات كملحِ الزمن العميقِ الذي تتحدُ فيهِ مُعظَمُ التساؤلات وتختفي مِن خلالهِ جميعُ الأسئلة. أخذَتنا الغفلةُ بما لدينا وفرحنا لَمَّا نسينا ولكنّ اليقينَ النابتَ كالعُشبِ البريِّ زادَ من صحوتنا قليلاً وأبقانا على أعتاب دُنيا غريبَة الأطوارِ تمنَحُ العاشقينَ محبَّتهَا التي لا تكفي كي تُصبحَ سلاحاً في وجوهِ الجبناء. درويش؛ أنتَ التعلُمُ والتألُّمُ أنتَ إيقاعُ الشظايا وانقطاع الأزمِنة أنتَ انهيارُ الذاتِ في قلبِ المرايا المُعتمة زهرةُ الأيامِ ضاعَت في حكايات الزمان والهوى انهار على الريحِ دُخان فصباحُ الخيرِ للذكرى وصباحُ الخير أيها الإنسان ويبقى القلَمُ الهوية فاغراً فاهُ، ملاقياً تضاريسَ اللغة ومُقتحماً صدرها الراقِص مُعلناً صَمتَهُ الأبديّ في انتظارِ صمتٍ يُطرقُ رأسَهُ مِن جديد باحثاً عن "موضة جديدة" للفكر آخذا كيان القُنبُلة في سماء السرِّ العميق. محمود درويش حينَ تحدّى لم يتحدى عدوَّهُ فحسب بل حمَّلَ نفسهُ الثورَة وانقلاب الأزمنَة وتمادى في التدحرُجِ مِن فوقِ القممِ الشامخة وعاوَد الكرَّةَ مرَّاتٍ عديداتٍ ليصرعَ سيِّد الأزمان، فوحدها الأزمان تحمل الأبطال فوقَ أكتافها وتمضي بهِم إلى أوَّل مقبرَةٍ للفكرِ وتترُكُهُم هُناك. كشظيةٍ في الأرضِ ودَّعتَ الوطَن الذي لا زِلتَ تَبحثُ عُنهُ وكنتَ واثقاً كلَّ الثقة بأنَّهُ ليسَ موجوداً إلا في خيالِك وبقيتَ تُصوِّرُهُ للناس حتى صار جزءً حقيقياً منا وصار حُلمَكَ هو هويتنا الأخيرة. في وسطِ الضباب المجهري وقفتَ تُناضل وعرفتَ معنى الضياع في سنواتٍ تُجنِّدُها الدموعُ فجاهدتَ بأوَّل دمعةٍ عرفت عيناكَ وبقيتَ تحفرُ خندق الفكر لتوصل لنا الحِكمةَ العُليا كي نُروِّض أفكارنا ونحلمُ من جديد. أنا لا أملكُ لغةً أتخطّى فيها حاجِز الصمتِ ولا حتى حاجزَ الموتِ الأخير، تهتزُّ من فوقي المعاني باتجاهِ النصِّ العنيد، تَلفحني قوةَ الخيالِ بنوبةٍ أخرى من الصمتِ لعلَّك كُنتَ تُدرِكُ بأنَّ الصمتَ سِلاحنا الأخير ... وبقيتَ تصرخُ حتى النبضة ألأخرى لديكَ وبقينا بانتظار قصيدةٍ أخرى نقرؤها بتمعنٍ فندركُ بأنَّكَ الآن لستَ هُنا . محمود درويش؛ يا سيِّد الأبطالِ تعال فالعناقيدُ المدلاةُ تحت داليةٍ ببابِ البيتِ في هذا الجليل لا تُريدُ النُضج إطلاقاً مُنذُ أن تَركتَها، تَفتَحُ الباب عليها كي تُطلَّ الشمسُ تدريجياً فتنساكَ واقفاً تحت العريشَةِ تُحاوِلُ أن تقطفَ لنفسكَ آخرَ وطنٍ نسجتهُ أفكاركَ وترَكتَ حُلمكَ للأبد . لستُ أدري، أأعزّي الذات لموتِكَ أم أولدَ من صمتِكَ الأخير، هل أرفعُ الذكرى بياناً عالياً في وجهِ هذا الزمنِ المشغولِ بهراء الأيام أم أدَّعي الحُزنَ وأبكي مثلما اعتادت أمَّتي أن تفعل . سأنتفض مِن لعنَةِ الدنيا علينا، سوفَ أبني موطناً في خيالي يُشبهُك ولُغةً تمتدُ من الحرفِ إلى الحرفِ وأمنحُ الأيام صحوتها الجديدة. يا مرايا الحزنِ فلتتكسري قِطعاً من الياقوتِ تَرصُفُ أسطري ودَعي الأزقةَ ترسمُ باسمنا صوراً فهل تتصورين؟ .. وتذكري لغةَ التأمل والتفكر والتذكر والتتابُع والتكاسل وتذكري أين الجبين إن الحياة قصيدة أخرى نحررها ونمضي في الفراغ كأننا لم نكُن يوماً في سماء العاشقين