بقلم د. رفيق حاج ان التنافس بين اصحاب المصالح الاقتصادية على نصب اللافتات الاكبر والأعلى والأزخر الوانا يسلّط الضوء على انعدام سلطة الردع في سلطاتنا المحلية وعلى استهتارنا السافر بجودة البيئة. على سلطاتنا المحلية القيام بسن قوانين مساعدة فورية لمعالجة قضية اللافتات. ان الداخل الى قرية كفرياسيف او اية بلدة عربية أخرى يُذهل من ضخامة وكثافة اللافتات الدعائية التي تستقبله وكأنّ هنالك مسابقة حامية الوطيس بين اصحاب الاعمال والورشات والكراجات وصالونات الشعر على من يمتلك اللافتة الأكبر حجماً او الأعلى ارتفاعا أو الأزخرألواناً. على ما يبدو هنالك اعتقاد لدينا بأنه كلما "عظّمنا" من شأن اللافتة التي ننصبها على الشارع كلما ازدادت شهرتنا وتضاعفت مدخولاتنا والبعض يعتبر نصب اللافتات بديلاً غير مكلف لنشر الدعايات في الصحف او المواقع الالكترونية. لو كان الوافد على البلدة العربية سائحاً اجنبيا او ضيفا هابطاً لتوّه من كوكب المرّيخ لظنّ انه موجود في وادي السيليكون في سان فرانسيسكو شمال كاليفورنيا او على الاقل بصدد بلدِ يمرُّ ثورة صناعية وتجارية ضخمة,وقد اتت هذه اللافتات العملاقة لتبشّر بقدومها, وان كلّ ما شرحنا له في وقت سابق عن سياسة التمييز والفقر الذي نقبع به كأقلية عربية مضطهدة في هذه البلاد ما هو إلاّ تجنٍّ على الدولة ونكرانٌ لجميلها. طبعا, الحقيقة أبعد من ذلك بكثير, فقد أتت هذه اللافتات الضخمة والمنفّرة لتزوّدنا بشهادة اضافية حول تقصيرنا في ادارة شؤوننا المحلية, ولتعكس الفوضى العارمة في بلداننا العربية. ان نصب لافتة تجارية هو أمر هام ومن حق كل صاحب مصلحة ان يقوم به بغرض الترويج لبضاعته وعرض ارقام هواتفه وعنوانه ولكن هنالك "بعض الاصول" التي ينبغي مراعاتها والتي نظّمها المشرّع بشكل قوانين واجراءات والقى على السلطة المحلية مهمة تطبيقها. لا اريد الخوض بتفاصيل تلك الاجراءات والقوانين المساعدة لأنها ليست موضوع حديثنا وساكتفي بعرض المبادئ التي تعتمد عليها. اولاً, على كل صاحب مصلحة ينوي نصب لافته في الشارع العام ان يتوجه للسلطة المحلية في بلده لطلب ترخيص لذلك, وبعد ان تقوم الأخيره بفحص الطلب تمنحه إذناً يحمل رقم الترخيص وتُلزمه من بعدها بدفع رسوم سنوية حسب مساحة ونوع اللافتة المُراد نصبها, فكلما زادت مساحة اللافته كلما ارتفعت تكاليف الرسوم التي ينبغي دفعها وهذا بدوره يردع بعض المصالح من المغالاة بتضخيم لافتاتهم لان ذلك مقرون بدفع رسوم باهظة. ثانيا, لقد حدّد المشرّع مساحة اللافته وجعلها مرتبطة بِبُعدها عن الشارع, فعلى سبيل المثال يُحظر على صاحب المصلحة نصب لافته تتعدّى مساحتها المترين المربعين اذا كان بُعد اللافتة عن الشارع اقل من ثلاثين مترا. طبعا هذا يُدخل الاغلبية العظمى من اللافتات في الوسط العربي في فئة المحظور والمُخالِف للقانون. ثالثا, هنالك تعاليم أخرى التي تخص عدد الكلمات المسموح عرضها وعدد الالوان والمضامين والنوعيه وتعاليم اخرى تخص متانة اللافتات وطريقة تثبيتها حرصاً الا تنهار على رؤوس المارة عاثري الحظ, والاهم من هذا كله انه لا يصح لصاحب مصلحة ان يقوم بنصب اكثر من لافتة واحدة خاصة بمصلحته. يُلاحظ ايضا ان هنالك الكثير من اللافتات الضحمة التابعة لشركات كبيرة او مصالح متواجدة خارج نطاق البلد, حيث تقوم تلك المصالح باستئجار حائط او سقف وتضع عليه لافتاتها العملاقة والسارقة للانظار. ان النظر الى تلك اللافتات من قبل السائقين المارين بالمكان ومحاولتهم قراءتها او تفحّصها يمكن ان يؤدي الى حادث طرق وحالات دهس وخصوصا ان اغلب باحات المحال التجارية مندمجة تماما مع الشارع العام. وفي هذا السياق تنضم ظاهرة اللافتات التجارية الى "أرسينال" ظواهر الاعتداء السافر على الحيّز العام. ان الرابحين الوحيدين من هذه اللافتات هم اصحاب المصالح وذلك على حساب جودة البيئة التي اصبحت موضوع استهزاء وسخرية في مجتمعنا, وكأنه لا يكفينا اقتلاع احراش الزيتون العريقة من جانبي الطريق لصالح المتاجر والمصالح والمناطق الصناعية وباحات الاسفلت الساخن. وكأنه لا يكفينا التآمر على الطبيعة الجميلة ومصادرة اجوائنا القروية الوادعة. وكأنه لا تكفينا الاخطار المتربّصة لنا في كل صوب الناجمة من انعدام شوارع داخلية فاصلة وخطوط متقطعة لمعبر المشاة وتعرُّضنا المتكرر للدهس من قبل سائقين متهورين. كما اسلفت سابقا, الموضوع ليس موضوع لافتات وحسب وانما موضوع الفوضى العارمة التي تسود مجتمعنا والتجاهُل المتعمّد لكل ما يخص جودة البيئة وغياب سياسة الردع ضد المتجاوزين على الصالح العام. بصراحة, نحن كمجتمع ما زلنا نُقدّس المصلحة الشخصية ونفضّلها على المصلحة العامة في كل المجالات. ان "الانقضاض" على اقتناص اكبر مساحة من الحيّز العام يُذكرني بالتسابق الذي قام بها السكان البيض للاستيلاء على الاراضي في امريكا حال اكتشافها, ويُذكرني ايضا بتصرّف "عربنا" في فنادق "الكل مشمول!" حيث يملأون أطباقهم ما فوق وسعها مغتنمين فرصة كونها "مجانا". ويذكرني ايضا بقصة رعاة البقر الذين وجدوا مرعى جديدا فراحوا يتسابقون على اقتناء اكبر عدد ممكن من رؤوس البقر الى ان ضاق المرعى بالابقار وتدهورت احوالها وبات قحطا معدما مما اضطر رعاة البقر الى بيع مواشيهم واضاعة مصدر رزقهم. عندما تغيب سلطة القانون يتسارع الكل لاقتطاع اكبر نصيب من المُلك العام ولا يعبأ بأن يترك من بعدها الدمار للآخرين. لكي تصل هيئةٍ ما في المجتمع الى مكانة "سلطة" ينبغي ان تتمتع بميزتين, الاولى هي القدرة على الإلزام والثانية القدرة على الردع. وهنا لا اظن اني اجور بحكمي على سلطاتنا المحلية العربية لو ادّعيت انها اخفقت في هذا وذاك, فهي مشغولة حتى اذنيها بتوفير المعاشات للموظفين, وترتيب الاعفاءات "للمحتاجين" والقاء التهم على سياسة التمييز وعلى حكومة اسرائيل التي تحيك لنا كل يوم مؤامرة جديده. على سلطاتنا المحلية القيام بسن قوانين مساعدة فورية لمعالجة قضية اللافتات دون الأخذ بعين الاعتبار كون اصحاب المصالح المحاذية للشارع من فئة مؤيديهم أم معارضيهم, فهي اولا مصدر دخل لا يُستهان به وثانيا, بتطبيقها المعايير المهنية الخاصة باللافتات تحمي ما تبقى مما يسمى جودة الطبيعة "رحمها الله". لقد آن الأوان ان نأخذ زمام الامور بأيدينا وأن نكون أكثر حزما وجدّية مع انفسنا. بلدنا هو موطئ رأسنا ومصدر افتخارنا واعتزازنا فلماذا لا نحافظ عليه؟! البريد الالكتروني: [email protected]